تتوالى ارتدادات الهزة، التي أحدثها الملف الصوتي المسرب لوزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف، والذي تحدث فيه، على مدى ثلاث ساعات، مع سعيد ليلاز وهو صحافي مقرب من رئيس الجمهورية حسن روحاني.
التسريبات كشفت ما كان يدور في الخفاء عن الدور الطاغي لقائد فيلق القدس في تنظيم الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، الذي قتل بغارة أميركية عام 2020، في رسم السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، وتهميش دور ظريف طيلة ثماني سنوات، وإفشال كل إنجازاته الديبلوماسية.
على أن أهم ما أحدثته هزّة التسريبات، أنها نقلت التصادم الحاصل بين الإدارة السياسية والمؤسسة العسكرية من الكواليس إلى السطح، وفضحت التناحر البارد بين رجل الدولة (ظريف) ورجل الميدان (سليماني) حول تحديد السيستم الاستراتيجي للجمهورية الإسلامية، كما كشفت أن الانتصار كان للميدان (العمليات العسكرية) على حساب الديبلوماسية، بمعنى آخر، نعى ظريف في هذه التسريبات، بطريقة غير مباشرة، مشروع الدولة، الذي يحمله، وأعلن فشل المساعي الديبلوماسية، التي بذلها، خصوصا المفاوضات النووية، في خلق استقرار سياسي لبلاده مع الإقليم والمجتمع الدولي، لكنه حذر في الوقت نفسه، من خطورة هذا الانتصار، ومن النتائج والآثار المترتبة عليه، داخليا وخارجيا.
هزة التسريبات، قسّمت المقسّم، وأشاعت الفوضى داخل أروقة النظام، وتبين أن الصراع على السلطة ليس بين المحافظين والإصلاحيين، بل بين الثورة والدولة، بين العسكرة والسياسة، بين “الميدان” والديبلوماسية
ما فعله ظريف لم يفعله أي سياسي إيراني من قبل، فهو أول مسؤول في الجمهورية الإسلامية يعلن رفضه، لمفهوم السيادة المزدوجة، أي هيمنة المؤسسات المسلحة على المؤسسات المدنية المنتخبة، معتبرا أنها سابقة في تاريخ إيران الثورية، ومخالفة للدستور، وتضع كل الجهود الديبلوماسية في خدمة “الميدان” أو العسكر أو رجال الأمن في الحرس الثوري.
وتدعيما لوجهة نظرة، قدم ظريف، معلومات وحقائق حول تدخل سليماني، في عمله الديبلوماسي، وقال إنه كان يطلب منه أن يضعه في أجواء اجتماعاته ونقاشاته الأسبوعية في ما يتعلق في المفاوضات النووية، بينما هو كان يرفض التعامل بالمثل، وبطريقة غير مباشرة اتهم سليماني بالتنسيق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتدمير اتفاق جنيف، وقال إنه ليس صدفة أن يقود الروس قوات الحرس البرية، في العمليات العسكرية في سوريا، بعد التوصل للاتفاق مباشرة. ظريف كشف أيضا، أن سليماني استخدم الخطوط الجوية الإيرانية لنقل العسكريين والسلاح إلى سوريا، من دون علم وزير النقل والمواصلات، واعتبر أن هذا التصرف كان السبب الذي جعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، يعيد فرض العقوبات على الطيران المدني الإيراني، وعن زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد، طهران، قال إنه كان ينسق لها مع سليماني، لكنهما لم يتفقا على موعد محدد، وقد علم بمجيء الأسد من خلال التلفزيون، لذلك قدم استقالته بعدها.
في ما يخص الطائرة الأوكرانية التي أسقطت في ايران قبل نحو عامين، وهو المقطع الأكثر إثارة للصدمة في التسريبات، شرح ظريف، أنه بعد يومين من إسقاط الطائرة، شارك في اجتماع، عقد في الأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي، إلى جانب الأمين العام للمجلس علي شمخاني، رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة محمد باقري، وزير الطرق محمد سلامي وممثلين عن الحرس، ووجد أن المجتمعين كانوا على علم بقرار استهداف الطائرة، وأن الاجتماع كان من أجل ابتداع بيان لتكذيب خبر الاستهداف، وقد حصل ما أراد الحرس.
من المحتمل أن لا يتجاوز الحرس هذه المسألة، على الأقل تيار سليماني، ومن المحتمل أيضا، أن تتم تعبئة الغاضبين وتحريضهم، للضغط على المرشد من أجل إقالة ظريف أو اتخاذ أي إجراء قانوني بحقه.
ظريف يعيش أسوأ؟
ظريف هو أحد أشهر السياسيين الإيرانيين في الأونة الأخيرة، اكتسب شهرته من خلال مفاوضات فيينا، ومن ابتسامته الظريفة، ومن طلاقته في اللغة الإنكليزية، ومن شخصيته البراغماتية، أما احتفاظه بمنصبه لثماني سنوات متتالية، رغم المعارضة العلنية من قبل الحرس، فذلك يعود إلى أن النظام الإيراني برمته، يفتقر إلى شخصية توازن بكثير من الذكاء ما بين ما تحتاجه بلادها وما يريده المجتمع الدولي، وتملك القدرة على تحقيق الإنجازات من دون تقديم الكثير من التنازلات، لكن وعلى الرغم من اجتماع هذه الصفات، لم يتمكن ظريف من كسب ود مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي، فعلاقة المرشد به، يشوبها الحذر أكثر من الثقة، الحذر بسبب قربه من تيار الاعتدال ومن شخصيات إصلاحية، وبسبب مدنيته المفرطة، من جهة، ومن جهة ثانية، بسبب استيائه الدائم واعتراضه على عسكرة مؤسسات الحكم، والعلاقة المتوترة مع سليماني، أما مساحة الثقة الضيقة التي فردها له، فمصدرها، أنه الشخصية السياسية الوحيدة، بعد التجربة، القادرة، على إخراج إيران، من حقول الألغام، التي يسحبها إليها الحرس.
ظريف اليوم، يعيش أسوأ كوابيسه السياسية، التسريبات قضت على تجربته القيادية الفريدة للديبلوماسية الإيرانية، فهناك نواب ومسؤولون وعسكريون ورجال دين، طالبوا باستجوابه ومحاكمته بتهمة الخيانة وتجاوز الخطوط الحمر للجمهورية الإسلامية، كما ارتفعت أصوات تدعوه إلى الاعتذار من عائلة سليماني أولا، ومن الشعب الإيراني ثانيا، ومن ثم الاستقالة.
هذا كله إضافة إلى حال الغضب التي تسيطر على تنظيم الحرس جراء خدشه قدسية أيقونتهم (سليماني) ومن المحتمل أن لا يتجاوز الحرس هذه المسألة، على الأقل تيار سليماني، ومن المحتمل أيضا، أن تتم تعبئة الغاضبين وتحريضهم، للضغط على المرشد من أجل إقالة ظريف أو اتخاذ أي إجراء قانوني بحقه.
على ما يبدو أن دعم المرشد لظريف مازال فاترا، فهو لا يمكنه أن يحميه من خصومه الأقوياء والغاضبين في الحرس الثوري، وسيجد المرشد في الأيام المقبلة، صعوبة كبيرة في السيطرة على التنظيم إذا ظل على فتوره، بينما سيواجه ظريف في الأشهر الخمسة المتبقية من عمر وزارته، ظروفا شديدة التعقيد، ومخاطر قد تهدد حياته، سواء اعتذر أم لم يعتذر وسواء استقال أم لم يستقل، فمع الحرس ممنوع الخطأ.
من المؤكد أن هزة التسريبات، قسّمت المقسّم، وأشاعت الفوضى داخل أروقة النظام، وتبين أن الصراع على السلطة ليس بين المحافظين والإصلاحيين، بل بين الثورة والدولة، بين العسكرة والسياسة، بين “الميدان” والديبلوماسية، علما أن هذه الشحنة من التوتر العالي ومن الانقسام العمودي، أثناء عودة المفاوضات وعلى أبواب الانتخابات الرئاسية في حزيران/يونيو المقبل، لن تكون في صالح أي طرف، وعلى رأسهم المرشد.
إقرأوا أيضاً: