بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد”، وفقاً لتحليلات نسوية فإن هذه العبارة هي سيف القوّة، الذي سقط في يد شهرزاد راوية حكايات “ألف ليلة وليلة”، لتُنقذ رقبتها ورقاب بنات جنسها من سطوة الملك شهريار؛ “رمز الذكورة العنيفة”، هذه العبارة التي فتحت عينيّ شهرزاد وحفيداتها على أهمية المعرفة وقوّة الحكاية… ولكن هل كان هذا كافياً؟
في الجزء الثاني من مسلسل “جودر” الذي عُرض في رمضان، ظهرت “شهرزاد” كما في الجزء الأول، وكما تظهر غالباً في المعالجات التقليدية للحكايات المستلهَمة من ألف ليلة وليلة، شاغلها أن تفلت من الموت المنتظر على يد شهريار، وفي الجزء الثاني أن تفوز بقلبه، ويا حبذا لو تصل إلى سقف النمطية لتُنجب له طفلاً ذكراً وريثاً للعرش، وهو ما حدث بالفعل من دون أي إدهاش!
ورغم الميزانية الإنتاجية الضخمة والمؤثّرات البصرية والأزياء اللافتة والأجواء الأسطورية ومواقع التصوير الذكية، كان مؤلّف العمل أنور عبد المغيث، أبعد ما يكون عن إحساسه بالزمن الذي نعيشه، وقضايا المجتمع الذي تُعرض عليه المعالجة النمطية المتّسقة تماماً مع الذكورة الطاغية في الشوارع المصرية وصفحات الحوادث.
ليس مغالاة أو مبالغة أو استحقاقاً في غير محلّه، حين ننتظر معالجة فارقة وعضوية لحكاية جديدة من حكايات “ألف ليلة وليلة”، وإن كان للفنّ رسالة، فإن مسلسل “جودر” لم يقدّم أي معنى يُذكر لمجتمع مشوّش بالكامل، ويفوح منه العنف الطازج على يد أكثر من مئات الآلاف أمثال شهريار، وإن كان للفنّ للمتعة فلم يقدّم المسلسل شيئاً أبعد من الإبهار البصري، لكنه لم يُداعب مخيلاتنا التي ارتبطت بـ”ألف ليلة وليلة” منذ الطفولة، خاصّة بعدما انقطع وصالنا بها من أكثر من خمسة عشر عاماً، بعدما ظهرت نسخة درامية رمضانية في عام ٢٠١٠، قرّرت فيها شهرزاد التحكّم بمصيرها لا عبر الحكايات التي لن تنقطع، بل عبر الثورة على شهريار وحكمه، وكانت هذه النسخة من بطولة أشرف عبد الباقي وريهام عبد الغفور.
حتى الآن لم تُؤخذ الحكايات بالجدّية الكافية في المعالجة، رغم ما فيها من ثراء جعلها أشهر حكايات عرفتها البشرية، وذائعة في الثقافات والتحليلات كافّة، فإما أن تغرق المعالجات في الاستعراضات البصرية، مثلما حدث في نسخة شيريهان أو رغدة أو نيللي، وإما أن تغرق في السطحية والكوميديا، مثلما حدث في نسخة سمير غانم، وإما أن تستسلم للنمطية والإبهار البصري في نسخة “جودر” الأخيرة.
تقوم قصّة مسلسل “جودر” على تيمة الحكاية الأصلية نفسها، الفتاة البريئة التي أصبحت وشقيقتها الصغرى آخر فتاتين على قيد الحياة، بسبب قتل الملك كلّ الفتيات اللاتي في سن الزواج، بعد ليلة واحدة من زواجه منهن.
يندهش شهريار من حكاياتها عن “جودر”، البطل الطيب الذي يكرهه أشقاؤه، ويصبح مطلوباً من الجنّ ”الشمعيين” لفكّ رموز الكنوز الأربعة، وينجو بتوصيات معلّمي السحر المغاربة، لكن لا تحيطه سوى أربعة نماذج نمطية من النساء، الجنّية الشريرة شواهي، وجوهرة الغاوية له، وزوجته التي تحمل جنينه وتنتظره في صبر، وأمّه العمياء التي لا يتخطّى دورها البكاء على غيابه.
وكأن حكايات “ألف ليلة وليلة” مهلهلة عن قصص النساء، ففي حكايتي “الملك عُبار بن النعمان وعائلته”، و”حسن الصائغ البصري”، ظهرت مبارزة بالسيوف تدعمها جيوش من العذارى، ونساء استطعن طلب معاملة كريمة من الرجال وأزواجهن، بدلاً من الاكتفاء بما يُملونه عليهن
وفي حكاية “أمَة تودّد”، تظهر الفتاة كعبدة تُثبت تفوّقها بفضل ذكائها، إذ تُنقذ سيدها ونفسها من الفقر بفضل ذكائها، ورغم أنها لا تزال عبدة، فهي قادرة على التفوّق على رؤساء رجالها، لتُرزق بحياة أفضل في النهاية وتتحرّر. كما تتضمّن “ألف ليلة وليلة” ثلاث حكايات مختلفة عن نساء يُصبحن ملكات، ولسن فقط جواري أو محظيّات أو زوجات صبورات أو أمهات باكيات.
شهريار… خارج مبدأ العاقبة الأخلاقية الدرامية
رغم أن المسلسل كان مخلصاً لفكرة العاقبة الأخلاقية، التي تُلاحق “الشرير” والمتمثّلة إما في الجن الشمعيين، الذين ماتوا جميعهم في النهاية، وإما في أشقاء “جودر” الذين خسروا ثرواتهم وعاشوا في مهانة، أبقى المؤلف شهريار قاتل الآلاف من النساء خارج فكرة العاقبة الأخلاقية، وكأنه “تابوه” خارج المعالجة.
فاز شهريار بقلب شهرزاد، وفاز بالوريث، وعاش بضمير مرتاح بعدما اعترف لشهرزاد في بضع ثوانٍ بأنه كان مخطئاً بقتله النساء، لتغفر له شهرزاد، وتحثّه على فعل أمور الخير للفقراء، وكأننا في عالم اليوتوبيا، وهذه الجريمة تحديداً هي ما تعانيه مجتمعاتنا، حيث لم يرتدّ المؤلف للنسخة السابقة قبل ١٥ عاماً، حين ثارت شهرزاد، بل سقط سقطة لا يمكن غفرانها لا درامياً ولا أخلاقياً.
في تصريحات لكاتب المسلسل أنور عبد المغيث، قال إن “جودر أول مسلسل عربي شرق أوسطي يشتغل على فكرة البطل الشعبي، تحرّك وراء قضية عامّة تخصّ لحظته التاريخية أو الإنسانية معاً”
لكن يبدو أن تصريحات كاتب المسلسل، كانت حماسية بدرجة كبيرة، لأن فكرة البطل الشعبي أصلاً أصبحت فارغة من محتواها في عصرنا، خاصّة إن كان هذا البطل ينجو بالمعجزات، وبدعاء الوالدين، وبمساعدة السحرة والخارقين، فأي بطولة يقدّمها الكاتب للناس؟ وما هي القضية العامّة التي يقدّمها البطل الشعبي في لحظته التاريخية والإنسانية، إن كانت “ألف ليلة وليلة” هي حكاية خرافية خارج الزمان والمكان؟ والقضية لا بدّ أن تأتي للبطل من واقعنا نحن، من خلال معالجة يقدّمها المؤلف وهي غير موجودة في الأصل.
هل المعالجة أن نكون طيّبين كي ننتصر؟ “ليس في الطيبة شيء يقال”، كما قال سابقاً الشاعر سامي سعد، أي الطيبة لا تقدّم دروساً، لا تعني كفاحاً أو قصّة.
اللغة العامية المصرية الدارجة: بديل فنّي صائب؟
“دلف الملك شهريار إلى غرفة الأسرار وكأنه مجنّح أو طائر يسبح حتى انتهى إلى بساط أنسه، ومشرق شمسه، وجسر ما بين يومه وأمسه، ووصلة ما بين واقعه ونفسه، ودخلت شهرزاد وقد فاض شوقه، زاد فرقع الملك رأسه إليها وأقبل عليها. فيمَ كنت تفكّر يا مليكي؟ كنت أفكّر في ما يصنع الناس بالناس في المعركة الأبدية، معركة الخير والشر، المعركة التي قامت مثلما قامت الحياة منذ قتل قابيل أخاه، لقد حشدت الدنيا كلها في هذا المخدع الصغير. ماذا تريدين مني يا شهرزاد؟ إنك تلذعين شعوري، إنك تتكلّمين عن الظلم وكأنك لا تعنين سواي؟”.
من المؤكّد أن من سمع حكايات “ألف ليلة وليلة” بصوت زوزو نبيل، مثل الفقرة السابقة وغيرها، سيُصاب بالإحباط بعدما ظهرت ياسمين رئيس في دور شهرزاد مع ياسر جلال في دور شهريار، بمستوى العامية التي نمارسها في الأسواق مع الشهقات واللزمات في حالة أشبه بالتشويش، وهو ما يجعلني أطرح السؤال: هل اللغة العامية أكثر اتّساقاً مع الحكايات أم بعض الفصحى القريبة والسلسة؟
بالتأكيد هذا موضع اختلاف كبير، لكن ما أثق به تماماً، أن اللغة الفصحى الرشيقة التي تعلّمناها صغاراً، ونحن نستمع ونشاهد “ألف ليلة وليلة”، كان أهمّ حدث ثقافي حظينا به، فهل من حق الأجيال الجديدة أن تحظى به مثلنا؟ أم أنه إقحام فوقي تجاوز زمنهم؟