تعددت عروض مسرحية “جوكينغ” للمسرحية اللبنانية حنان الحاج علي بحيث تنقلت المسرحية بين عواصم ومسارح كبرى عديدة.
في المراحل الأولى من عملها على عرض “جوكينغ”، اقترحت عليها الدراماتورجيا بناء العرض على نظرية الحائط الرابع التي تقوم على إيجاد حاجز بين خشبة العرض والجمهور، لكن النقاشات أفضت لاحقاً إلى الوصول إلى خيارات إخراجية تكسر الحواجز بين الخشبة والجمهور، وإشراك الجمهور في اللعبة المسرحية. استمرت النقاشات والكتابات المتعلقة بتطوير العرض – النص، نحو 5 سنوات قبل العرض الأول. ولأن ليس هناك أي عرض مسرحي يبلغ منتهى تشكله ونهاية تحولاته، لذلك تختار المخرجة أن تضيف عبارة إلى عنوان العرض، وهي “جوكينغ: مسرح قيد التطوير”. وهنا لا تقصد أن العرض لا يزال في طور التشكل والتجريب كما توضح، بل أن المسرح، تلك العلاقة بين الفن، الجمهور، الصالة، الموضوعات، ما زالت في طور الاختبار بالنسبة إلى هذا العرض المسرحي، وبالنسبة إلى رؤية الحاج علي عن المسرح ودوره.
في العرض وأيضاً عند قراءة نص المسرحية المنشور، كان خيار صانعة العرض وكاتبة النص، أن تدخل المتفرج – القارئ، إلى عوالم العرض – النص المسرحي، عبر تمارين الصوت المعتمدة للأداء التمثيلي المسرحي. يدخل الجمهور على صوت غرغرة وخرخرة تقوم بها حنان، وهي عبارة عن تمارين خاصة على كلمات تبدأ بحرف الخاء (خ ا ب – خ ا ر). على طول العرض تختار الراوية حنان أن تشرك الجمهور في بعض الأداءات، لكن من دون أن تغير أو تعدل أو تكون مؤثرة في النص، فالنص محكم الترابط بحكايات الشخصيات التي تتشكل ببنية مختارة بدقة.
تصف الكاتبة والمخرجة الحاج علي في أكثر من موضع، رؤيتها للمسرح بمقاربته للإيغورا، الإيغورا مركز المدينة الإغريقية والهيلينية الذي يعج بالنقاشات التي تهتم بالأمور السياسية والفكرية والفلسفي والفنية. هذه المقاربة بين المسرح والإيغورا تضيف فيها الحاج علي، إلى الكثير من أدوار المسرح وعناصره، البعد المتعلق بالتفاعل بين الفنانين والجمهور لمناقشة الحدث العام، للوعي السياسي والاجتماعي وللفاعلية الثقافية.
بين الفرد والهم الجمعي
يساعدنا التقديم المرافق لنص المسرحية، على فهم الحكاية الأساسية التي تشكل محور انطلاق الأحداث والحكايات، نقرأ: “في الخمسينات من عمرها، تمارس حنان الحاج علي المواطنة اللبنانية والممثلة رياضة الهرولة الجوكينغ، يخلق هذا الروتين تواصلاً وتداخلاً بين الفضاء الشخصي الحميم لحنان، والفضاء العام للمدينة، تستعيد خلاله أدواراً وشخصيات ورغبات وأحلاماً وخيبات. يفرز هذا الروتين اليومي في جسدها هرموني الأدرنالين والدوبامين اللذين يولدان مفاعيل متناقضة محفزة ومحبطة، بناءة وهدامة، وذلك في إطار مدينة تدمر لتبني وتعمر لتهدم”.
إذاً هي حكاية مستمدة من الحياة الشخصية، لكن المعادلات الثنائية المذكورة في هذه المقدمة مثل الفضاء الشخصي والفضاء العام، استعادة أدوار ورغبات، أحلام وخيبات، حتى في هرومونين متعارضين الأدرنالين والدوبامين، البناء والهدم، هذه المصطلحات المتقابلة، والتي ينجح التقديم بين كل جملة وأخرى في إعادة بنائها، يشي للمتلقي متعدد المستويات، متداخل التأويلات، بذاك الاختلاط بين الهم الفردي والجمعي.
الكثير من النقاد توقفوا عند هذا الجانب من المسرحية، والذي يمكن اعتباره من أهم مميزات العرض – النص المسرحي، أسلوب التداخل بين العوالم الذاتية والموضعات النفسية والاجتماعية. فبينما تقدم الممثلة الحاج علي نفسها على الخشبة، توظف زواجها من رجل من ديانة أخرى، لتخبر عن عزلة الطوائف اللبنانية الواحدة عن الأخرى، لنقد القواعد الناظمة للسجلات المدنية في لبنان، فبعد نقل قيدها إلى مكان قيد زوجها، ومع قدوم الانتخابات لا تجد حنان لها اسماً في سجلات المنتخبين. كذلك، تروي لنا عن أحلامها الجنسية الخاصة، التي تجعل من أبطالها شخصيات سياسية. ترمز رواية الأحلام الجنسية إلى الثقل الذي يشكله رجال السياسة على حياة المواطن وتخنقه.
تمارس حنان الحاج علي المواطنة اللبنانية والممثلة رياضة الهرولة الجوكينغ، يخلق هذا الروتين تواصلاً وتداخلاً بين الفضاء الشخصي الحميم لحنان، والفضاء العام للمدينة، تستعيد خلاله أدواراً وشخصيات ورغبات وأحلاماً وخيبات
حنان وميديا
لكن المقاربة الأكثر حساسية بين الذاتي، وبين موضوعات المسرحية، تظهر حين تتطرق حنان إلى العلاقة التي تربطها بشخصية ميديا من المسرح الأغريقي، والتي كتبها يوربيديس عام 431 ق. م. تنقلنا الممثلة حنان إلى عالم ميديا وتقول إنها من الأدوار العظيمة التي تحلم بها، لكننا لا نلبث أن نكتشف أن ميديا هي شخصية من ثلاث حكايات – شخصيات ستوظفها الراوية حنان للحديث عن الأمومة، عن احتمالية قتل الأم أولادها، عن تورية لقتل المدينة بيروت أبناءها.
ميديا، وانتقاماً لتخلي حبيبها جيزون عنها، وقراره الزواج بأخرى، تسمم العروس الجديدة، وتقتل أطفالها الثلاثة. طالما تساءلت الطالبة المسرحية عند اكتشافها النص في المرحلة الدراسية، عن منطقية هذه الحكاية وواقعيتها. هل يمكن أن تقتل الأم أطفالها؟
لكن تجربة شخصية عايشتها الأم حنان تعيدها لمناقشة هذا التساؤل، تحافظ على فضولها المتعلق بسؤال أخلاقي، إنساني، ونفسي. لقد أصيب ابنها علي بالسرطان وهو في السابعة، وقد حلمت وفكرت أكثر من مرة بأن تقتله، لتضع حداً لآلامه. تمنح الموضوعة التي تعالجها كل الحساسيات الداخلية والذاتية من حياتها الخاصة، ما يعتبر عطاءً حقيقياً من الذات لمعالجة موضوعتها المسرحية.
إيفون: قتل البنات لحمايتهن من المستقبل
الحكاية الثانية هي حكاية إيفون من الواقع اللبناني، تقدمها المسرحية بالفقرة التالية: “إيفون مواطنة لبنانية أصيلة عايشة ببلدة عريقة بجبل لبنان، قررت يوم الخميس 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009 إنو توقف حياة بناتها الثلاثة”. وتخبر حكاية إيفون أنها سجلت شريط فيديو فيه رسالة عن سبب إقدامها على هذا الفعل، لكن ما أن اطلع القضاء على الرسالة، حتى اختفى الفيديو، واختفت معه المعلومات التي تعلل سبب انتحارها وقتلها بناتها الثلاث. توضح الحاج علي في لقاء خاص معها: “لكن من اطلع من المقربين على هذا الفيديو حفظ الجملة التالية التي قالتها ايفون: “أنا قتلت نفسي وأخذت معي بناتي كي لا يعشن العذاب الذي عشته لأؤمن لهن مستقبلهن”، حكاية مربكة، حيث الأم تقتل بناتها لكي لا يواجهن المصير الذي واجهته هي، نستعيد لعنة الأنوثة في المجتمعات العربية والبطريركية، بحيث ما ترغب الأم في حماية بناتها من مصير يشبه مصيرها.
هذه الحكاية أثارت اهتمام الحاج علي، وحاولت عبر المسرحية التعمق في الأسباب الكامنة خلف ما أقدمت عليه إيفون. عبر المسرحية، تعتبر الراوية حنان أن إيفون تركت الفيديو لتشهد على شيء: “وبمجرد هالشريط اختفى بهالطريقة فينا نقول إنو كانت بدها تكشف شي مخبى ما حدن بيعرفو غيرها حتى وما نقول كانت بدها تفضح شي ما حدن كان دريان بتفاصيلو غيرها، وما كانت قادرة بحياتها لا تقولو ولا تغير فيه شي بمعطياتو”. وبالتالي بعد الحديث في المسرحية عن العالم النفسي والذهني لإيفون، تتجه كاتبة نص “جوكينغ” إلى إدانة السلطات المجتمعية والقضائية، بوصف فعلة إيفون حالة تخص الرأي العام بأكمله، ويتحمل المجتمع والمؤسسات الفاعلة مسؤولية الإجابة عن سؤال: لماذا تقتل أم بناتها لتحميهن من المستقبل؟ أي مستقبل يقدم للمواطنة اللبنانية والعربية في ثقافتنا الحالية.
من عالم إيفون النفسي، يتحول العرض – النص إلى قضايا تخص الشأن العام، تنتقد فيه أداء القائمين على قيادة المجتمع سياسياً، وأخلاقياً، تسلط المسرحية الضوء على قضايا التي لم تنته إلى حل، “قضايا صغيرة وكبيرة متنوعة إلها علاقة بالمصاري وبالشرف: شرف السلطة الطايفة العيلة، بالسياسة بالسرقة بالفساد، ألف سبب وسبب. قضايا كتير خطيرة”. وتنتقد دور الرأي العام والمواطنين الذين تراهم حنان شهود زور، دوماً ما يرضخون للأمر الواقع: “وبالآخر منقول، قدرنا نعيش بهالبلد وشو ما عملنا ما رح يتغير فيه شي”، دلالة على استسلام الأفراد، متخلين عن خيار المشاركة، والمساهمة في التغيير.
زهرة: التضحية بالأولاد في سبيل القضايا
الحكاية الثالثة التي تتناولها المسرحية، هي زهرة. يخبر النص أنها يسارية من الجنوب اللبناني، لكن الحروب المتكررة التي شهدتها، والأحداث السياسية مثل موت جمال عبد الناصر، وانتصار الثورة الإيرانية، دفعتها إلى اللجوء إلى الدين، وجدت في الله ملجأ، وقررت التضحية، وتتمنى الشهادة لأولادها: “يا رب ترضى عنون وترزقهون الشهادة وترضى عني وتخليني صير أم شهيد”. تقارب المسرحية هنا موضوعة حساسة، وهي أمنية الأم بالشهادة لأبنائها.
في حديث لـ”درج”، تشدد الحاج علي على الرؤية المستخلصة من العرض والنص. “الأم التي تدفع بأولادها إلى الحرب، تنويعات من تنويعات الأمومة القاتلة لأبنائها”.
يقتل ولدان لزهرة في الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 2006، وتفقد عام 2013 ابنها الثالث وهو يحارب في الشمال السوري. لقد اقتيد ابنها الثالث إلى الحرب في سوريا، ورفض القتال، وتتخيل المسرحية رسالة أخيرة يوجهها الابن لأمه زهرة، يروي لها عن تجربته في الحرب: “ماكنش في يا أمي لا مخربين ولا تكفيريين، بيجوز في بغير محل بس انا ما شفت غير ناس جوعانة وناس معترة عم تنزت عليها البراميل. ما تبكيش يا أمي شو ما سمعتي. ما تصدقيش أنو ابنك خاين وجبان وعميل. إذا هيك الشهادة أنا ما بديش، ما بديش كون شهيد، خليني أشهد أنو هنن كذابين”.
عند هذه الرسالة تشارف المسرحية على نهايتها، فما الذي أضافته “جوكينغ” في معالجة موضوعتها الأساسية: الأمومة القاتلة لأطفالها، إلى المتلقي؟ إن مستوى أبعد من حكاية الشخصيات تثبته المسرحية وتركز عليه ببراعة، حنان تخيلت قتل ابنها لتخلصه من الألم، ميديا للانتقام من خيانة أخلاقية، إيفون لتحمي بناتها من مستقبلها، وزهرة فقدت أطفالها في الصراعات والقضايا. صحيح، أن لكل من هذه الأمهات بعداً نفسياً وذهنياً مهماً، لكن الحكايات الأربع تعيد الإدانة إلى أسباب سياسية (زهرة)، اجتماعية (إيفون)، أخلاقية (ميديا)، ووقوع الظلم الأعمى بخياراته أي المرض (حنان). يمكن تفهم ذلك، بالتذكير بأن أول كتاب في علم الاجتماع كان عنوانه “الانتحار”، 1897 للفرنسي إميل دوركهايم (1858 – 1917). وعند السؤال عن العلاقة بين الانتحار، كونه فعلاً فردياً، وبين نشأة علم الاجتماع، فإن البحث الدقيق الذي قدمه دوركهايم، والذي نشأ على إثره علم الاجتماع، يصل إلى مقاربة مفادها، ليس الانتحار فعلاً فردياً خالصاً، فكل انتحار مرتبط بالحالة الجمعية، وبالأخلاق والشروط التي تفرضها الجماعة. هنا نصل إلى الربط الذي قدمته المسرحية، بين الأم التي تقتل أطفالها، والمدينة التي تدمر أبناءها وبناتها، كما تقول المخرجة عن بيروت.
على مستوى الأسلوب المسرحي، تعتبر الحاج علي أن البراعة في المسرح، تكمن في اللعب عند حد الانزياح، اللعب على التداخل بين الوهم والحقيقة، بين الفانتازيا – التخييل والواقع وتبين أنها تحب الالتباس والشك، تحاول الهرب من اليقين لغاية مساءلته.
إضافة إلى تقديم المسرحية في كل من فرينج – سنغافورة، ومهرجان أفينيون – فرنسا، وحصولها على جائزة أحسن ممثلة في مهرجان إدنبره – اسكتلندا، حرصت الحاج علي على تقديم المسرحية في أماكن متنوعة وجمهور متنوع من منطقة النبطية اللبنانية والفنار، إلى عرض الهواء الطلق في مهرجان حرش بيروت. تتابع بذلك تجربة مسرح الحكواتي التي شاركت الحاج علي في تأسيسها والتمثيل في عروضها منذ عام 1977. وتذكر بتجارب من تاريخ المسرح ألهمتها في دفع المسرح إلى الجمهور، وهي تجربة المسرحي الفرنسي موليير (1622 – 1673)، وكذلك تجربة المسرحية الفرنسية المعاصرة أريان موشكين.
هذه التجارب موليير، موشكين، الحكواتي، اهتمت بنقل المسرح من أماكن عرضه التقليدية، والتوجه فيه إلى مناطق الهامش والأطراف، ليحتك بأكبر عدد من الجمهور. تقول الحاج علي: “ما فائدة كل ما أقوم به؟ إذا لم أحرك المياه الراكدة وإذا لم أقم بمساءلة الثوابت العفنة التي ننام عليها، سيخسر الفن برأيي من دوره”.