عاش الديري وأطفاله وزوجته ساعات الانتظار في البرد القارس الذي يضرب المنطقة، ولم يكن أمامهم سوى خيار الوقوف في طابور السيارات الذي امتدّ لمئات الأمتار من حاجز نيتساريم وسط قطاع غزة.
شعر الديري وعائلته بالذل نتيجة ما يواجهونه عند التنقل داخل مدينتهم من مكان الى آخر، حيث يُجبرون على الاصطفاف في الطابور، والدخول إلى التفتيش الأمني من خلال جهاز يشبه أجهزة المطارات.
يتساءل الديري بقهر عن الأسباب التي تجعله يتعرض للإذلال الكبير داخل مدينته، وعودة التفتيش والحواجز التي لها تاريخ أسود مع الفلسطينيين وبخاصة سكان قطاع غزة قبل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005.
الديري واحد من آلاف الغزيين الذين يجبرون على الانتظار لساعات طويلة عند حاجز نيتساريم قبل وصولهم إلى شمال قطاع غزة، وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار بين حركة “حماس” و”إسرائيل”.
يقول الديري: “دعكم من الصور التي يتناقلها ناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول المعاملة اللطيفة للجنود المصريين على حاجز نيتساريم، وانظروا إلى الصورة الأخرى غير المنقولة، وهي الطوابير الطويلة للمركبات، وكل مركبة توجد في داخلها عائلة وقصة محزنة لمسنين ومرضى يريدون الانتقال من جنوب القطاع إلى شماله”.
انسحبت القوات الإسرائيلية، يوم 9 شباط/ فبراير بشكل كامل من محور نتساريم في غزة وفقاً لترتيبات المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار.
عند الحاجز، يقف قناصة أميركيون على تلة من الطين شيدتها القوات الدولية بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، ويراقبون حركة المركبات القادمة من جنوب قطاع غزة إلى شماله.
كذلك، تنتشر الأسلاك الشائكة أمام التلال الرملية، وتعمّ الإضاءة كل مكان في الحاجز، ومصدرها “إسرائيل” التي تبعد حدودها عن هذا المكان قرابة الـ3 كيلومترات فقط. كما تحصل القوات الدولية على إمداداتها الغذائية من الجانب الإسرائيلي.
في الطابور الطويل نفسه، لم يتقبل الرجل المسن محمد نصر الانتظار لأكثر من 16 ساعة للوصول إلى منزله في شمال قطاع غزة بعد رحلة نزوح استمرت عاماً وثلاثة أشهر.
داخل سيارة صغيرة محمّلة بالفرش والأغطية وبعض المواد الغذائية، أمضى نصر (61 عاماً) ساعات طويلة في ظل حركة بطيئة جداً للسيارة.
لم يجد نصر توصيفاً للحالة التي عاشها على حاجز نيتساريم سوى الذل والإهانة داخل بلده، إذ اضطر للانتظار ساعات طويلة في البرد للتنقل من الجنوب إلى الشمال، وخضع للتفتيش الإجباري.
خلال ساعات الانتظار الطويلة، أُجبر نصر وأبناؤه على دفع سيارتهم بالأيدي لعدم امتلاكهم الوقود الكافي للإطفاء والتشغيل طوال فترة الانتظار على طابور الحاجز، الذي وصل إلى مدخل مخيم المغازي، الذي يبعد عن نيتساريم قرابة الـ8 كيلومترات.
شعر نصر بالغضب والذل، لا سيما في ظل البرد الشديد الذي تعرض له، وعدم وجود حمامات.
عند وصول نصر إلى الحاجز، ناداه العسكري بلكنة مصرية قائلاً، “المشاة تنزل من السيارة وتعبر من الطريق الترابي، والسائق فقط يبقى في السيارة”.
ترجل نصر من المركبة ومشى بمساعدة ابنه إلى الشق الآخر من الطريق، وانتظر دخول السيارة إلى التفتيش من خلال جهاز ضخم تم وضعه.
وصل نصر إلى ركام منزله في حي الزيتون في شمال قطاع غزة، بعد ساعات الانتظار الطويلة على حاجز نيتساريم، منهكاً جائعاً، وجسمه يرتجف بسبب مكوثه في البرد لفترة طويلة قبل السماح له بالعبور إلى الشمال من خلال الحاجز.
إقرأوا أيضاً:
منع التصوير
على حاجز نيتساريم، منعت القوات الدولية أيضاً، وتحديداً الأميركية، المصور الصحافي عبد الرحيم خضر من التصوير وأداء عمله الإعلامي، وحاولت سحب كاميرته منه، برغم تنسيقه مسبقاً مع اللجنة المصرية للتصوير وتنفيذ مهمة صحافية.
عبد الرحيم وثّق ما حدث معه ونشره عبر حساباته المختلفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكتب: “أنا المصور عبد الرحيم خضر، وخلال أداء عملي اليومي في محور نيتساريم، وبعد تنسيق مسبق مع اللجنة المصرية لتصوير الموقع باستخدام طائرة درون، أبلغتني اللجنة بالانتظار حتى صدور إشارة القائد. وبعد الحصول على الموافقة، بدأت التصوير وفق الإجراءات المتفق عليها”.
ومع تصاعد التوتّر بسبب استنفار القوات الأميركية، أنكر الضابط المصري وجود أي تنسيق مع المصور عبد الرحيم، ما أدى إلى حجزه مع مركبته، ومصادرة بطاقة الذاكرة الخاصة بطائرة “الدرون” المخصصة بالتصوير.
بعد نقاش طويل مع القوات الأميركية، تمكّن عبد الرحيم من مغادرة حاجز نيتساريم، متسائلاً: كيف يمكن لهم فرض السيطرة عليّ وأنا في أرضي وبلدي؟ كيف يصبح الضيوف أصحاب القرار بينما نحن أصحاب الأرض؟.
إقرأوا أيضاً: