باتت الانتخابات الفلسطينية، المزمع إجراؤها بدءاً من أيار/ مايو المقبل، الشغل الشاغل للفلسطينيين، وكياناتهم السياسية، وما يلفت الانتباه ليس كثافة التحركات السياسية للقوى التي كانت لزمن كأنها في غيبوبة، وحسب، وإنما، أيضاً، تلك الحماسة الشعبية للتسجيل في اللوائح الانتخابية، بحيث بلغ عدد المسجلين حوالى 2.6 مليون ناخب في الضفة والقطاع، من حوالى 3.8 أصحاب حق الاقتراع، بما نسبته 93 في المئة منهم (في غزة 99 في المئة)، على رغم الإحباطات الكثيرة في أوساط الفلسطينيين، والفجوة الكبيرة بينهم وبين كياناتهم السياسية؛ مع ما يعنيه ذلك من التوق إلى التغيير.
بيد أن كل تلك الحماسة لا تغطّي على حقيقة مؤسفة وهي أن العملية الانتخابية في الأراضي الفلسطينية المحتلة باتت تشبه مثيلاتها في البلدان العربية (تقريباً)، لا سيما لجهة اختزال الديموقراطية بمجرد انتخابات تتم هندستها، بحكم هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية، وبحكم تقييد الحريات والحق في النشاط السياسي، من قبل سلطتي “فتح” في الضفة و”حماس” في غزة، وبحكم الهيمنة على وسائل الإعلام.
ليس بإمكان شخص أو أشخاص، ولا فصيل أو أكثر، انتشال الساحة الفلسطينية من أزمتها، لأن ذلك يستلزم شروطاً داخلية أخرى، كما يستلزم شروطاً عربية ودولية، ليست متوفرة مع الأسف في المدى المنظور.
وعلى رغم المخاوف، أو التحفظات، المشروعة، فإنه يؤمل من تلك الانتخابات، في حال حصلت حقاً بكل مراحلها (التشريعية والرئاسية وللمجلس الوطني) أن تؤدي إلى تعزيز ثقافة الديموقراطية بين الفلسطينيين، وأن ترسخ في إدراكاتهم حقهم في المشاركة السياسية، ولفكرة أن تقرير مصيرهم، أو تحديد خياراتهم الوطنية، لا يقررها فرد أو مجموعة أفراد، ولا فصيل أو فصيلان، كما تؤمل منها زحزحة الطبقة المهيمنة على العمل الوطني الفلسطيني منذ عقود.
وكما ذكرنا فإن المخاوف كثيرة، وهي ناجمة، أولاً، عن جمع الرئيس كل السلطات بيديه، فإلى السلطة التنفيذية، بات يهيمن على السلطتين التشريعية والقضائية، وهو رئيس الكيانات الثلاثة المنظمة والسلطة و”فتح”، وهو الذي يقرر الخيارات، ويسيطر على الموارد، ويتدخل بكل صغيرة وكبيرة. ثانياً، جاءت القوانين الرئاسية قبل العملية الانتخابية، وهي بمثابة مراسيم، لهندسة تلك العملية وفق أهواء الرئيس، أو الطبقة المهيمنة، ويأتي ضمن ذلك، مثلاً، عدم التزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية، والذهاب نحو التشريعية أولاً، والاشتراط على الراغبين بالترشح تقديم استقالاتهم من وظائفهم العمومية قبل ذلك، ما يحرم حوالى مئتي ألف من الترشح، بحكم تهديدهم بفقدان فرص عملهم. أيضا، فإن القوانين الصادرة تجاهلت تماماً تحديد فترة الرئاسة، التي كانت أربعة أعوام لفترتين، علماً أن الرئيس محمود عباس في منصبه منذ 16 سنة! ثالثاً، لا أحد يمكنه الجزم بإمكان المضي بالعملية الانتخابية من التشريعية إلى الرئاسية، لأن ذلك سيكون منوطاً على الأغلب بنتائج الانتخابات التشريعية، ومدى رضا الرئيس عنها، كما بالحراكات داخل حركة “فتح”، لا سيما في حال وجود منافس للرئيس بمكانة، أو بوضع، شخص مثل مروان البرغوثي، الأسير منذ 18 عاماً، والذي أدى تسريب اعتزامه الترشح للرئاسة الى إرباك حسابات الرئيس أبو مازن، والطبقة المهيمنة الملتفة حوله. رابعاً، إذا تجاوزنا مشكلات “فتح” أو حراكاتها، فإن العملية الانتخابية ستبقى رهن التوافقات بين حركتي (أو سلطتي) “فتح” و”حماس”، بحكم تجربة الانتخابات السابقة (2006)، وبحكم واقع الانقسام والاختلاف منذ 14 عاماً. والسؤال هنا، هل ستقر فتح بنتائج الانتخابات في حال لم تفز بأغلبية المقاعد؟ أو هل ستقر “حماس” بالنتائج في حال لم تفز بأغلبية المقاعد؟ وهل سيكون هناك مجال لنوع من المشاركة في السلطة بين “فتح” و”حماس”؟ وتلك أسئلة نابعة من كون الحركتين الكبيرتين تتصرفان من واقع كونهما سلطة أكثر من كونهما حركتين للتحرر الوطني من الاحتلال، وثمة شكوك كبيرة في أن تتخلى أي سلطة طواعية لغيرها عن سلطتها، وعن مواردها، وعن سلاحها. رابعا، في كل الأحوال فالقرار بيد الرئيس محمود عباس، فهو، مثلا، يمكن أن يحل المجلس التشريعي (كما فعل قبل عامين)، ويمكن أن يعطل عمله، كما فعل منذ ما بعد الانتخابات السابقة (2006)، كما أنه من موقعه في رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير يمكن أن يضع “فيتو” على أي وضع جديد لا يراه مناسباً من وجهة نظره، باعتبار أن منظمة التحرير هي المرجعية العليا للسلطة، هذا على رغم أن تلك المنظمة مهمشة عملياً منذ عقود!
تبقى الحيثية المتعلقة بالمجلس الوطني، والتي أتت في المرسوم الرئاسي ضمن جملة “استكمال المجلس الوطني”، ما يعني أن أعضاء المجلس التشريعي المنتخبين هم جزء من ذلك المجلس، وأن ما تبقى سيتم استكماله وفق نظام “الكوتا”، أو المحاصصة الفصائلية، ما تبقى من العهد الفصائلي الذي أكل الدهر عليه وشرب، في واقع باتت أكثرية الفصائل بلا تمثيل في مجتمعات الفلسطينيين، ولا دور لها في مصارعة العدو، ولا هوية سياسية أو فكرية لها. والحاصل فإن نظام “الكوتا” يستهدف تعويم الفصائل الميتة، وتالياً تعويم النظام الفلسطيني السائد، الذي دبت فيه الشيخوخة، وإعادة إنتاجه وحسب، باعتبار ذلك يعزز مكانة الطبقة السياسية المهيمنة في المنظمة والسلطة.
المخاوف كثيرة، وهي ناجمة أولاً عن جمع الرئيس كل السلطات بيديه.
ومع تأكيد أهمية الانتخابات، إلا أنها لا يجب أن تؤخذ باعتبارها بديلاً للديموقراطية وللمشاركة السياسية، وأنه مع أهمية إزاحة الطبقة السياسية المهيمنة إلا أن ذلك يؤمل أن ينهي الاستعصاء الحاصل في جسم “الحركة الوطنية الفلسطينية”، ونمط تفكيرها، وهذا يتطلب الإصرار على عقد انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، بمشاركة الفلسطينيين في أماكن انتشارهم كافة، من دون استثناء، أو اشتراطات، مع علمنا أن القيادة الفلسطينية، تميل إلى احتكار التقرير بالسياسات، وهي تأنف من المشاركة السياسية، بدليل أنها في المرحلة اللبنانية، وعلى رغم أنها كانت بمثابة دولة داخل دولة، إلا أنها لم تنظم قط انتخابات للفلسطينيين في لبنان، لعضوية المجلس الوطني، والفكرة هنا أن الانتخابات هي القاعدة، وأن التعيين (على أسس معيارية صحيحة) هو الاستثناء، وليس العكس.
والفكرة أن المطلوب هنا ليس مجرد تشكيل مجلس وطني، ولا مجرد إصلاح منظمة التحرير، التي شبعت تمزيقاً وتهميشاً، المطلوب إعادة بناء المنظمة على أسس جديدة، وطنية وتمثيلية ومؤسسية وديموقراطية، وعلى قاعدة رؤية وطنية جامعة، تقوم على وحدة الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية. وقصارى القول، فإن الانتخابات لا تخرج الفلسطينيين من أزمتهم المستعصية، وإنما قد تمهد لذلك، في حال استمرت بكل حلقاتها، وهي تفيد مرحلياً بتأكيد أن الشعب هو سيد مصيره، وأنه من غير المعقول أن شخصاً أو أشخاص يقررون عنه، كما تفيد الانتخابات بتعزيز ثقافة الديموقراطية، وبتوضيح أحجام الفصائل، أو التوازنات الداخلية. وبدهي أنه ليس بإمكان شخص أو أشخاص، ولا فصيل أو أكثر، انتشال الساحة الفلسطينية من أزمتها، لأن ذلك يستلزم شروطاً داخلية أخرى، كما يستلزم شروطاً عربية ودولية، ليست متوفرة مع الأسف في المدى المنظور.
إقرأوا أيضاً: