في وصف حي لعالم العصابات الموازي في السويد التي تتصدر الدول الأوروبية في عدد الوفيات الناجمة عن حوادث إطلاق النار المتكررة، يصور الصحافي ديامانت صالحو في كتاب “المونديال- إلى أن يموت الجميع”، سبب صراع العصابات في منطقة يارفا (رينكيبي وهوسبي وتينستا) شمال غربي العاصمة ستوكهولم، والذي أودى بحياة العشرات حتى الآن.
يمكن القول إن الكتاب صدر في وقت مثالي، إذ تشهد ضواحي العاصمة ستوكهولم حرب عصابات، استخدمت فيها الأسلحة الأوتوماتيكية، والقنابل، ومتفجرات شديدة التدمير، استهدفت منازل أفراد ينتمون إلى هذه العصابات أو شقق أقاربهم وذويهم. وقد أطلق وزير العدل في الحكومة الحالية مورغان يوهانسون، لقب إرهابيين على المتورطين، فيما نفذت الشرطة أكبر حملة اعتقالات في أكثر من مدينة سويدية، وسط مطالب بتفعيل قانون الطوارئ لمواجهة موجة العنف الأسوأ حتى الآن. واعتبر رئيس مجلس الوزراء أولف كريستشون أن ما تمر به البلاد الآن هو الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، على المستوى الأمني. يخبر كتاب صالحو بالوقائع وبالترتيب الزمني ما أدى إلى ماذا، ومن فعل ماذا ولمن، ولماذا؟
بدأ كل شيء في صيف 2015 عندما قتل مصلح البالغ من العمر 16 سنة صديق طفولته إيزي (19 سنة). مع رفاق آخرين، قام إيزي بسرقة أكثر بقليل من مليوني كرونة من مكتب الحوالات المالية “فوركس” من مركز تسوق ضاحية تايبيه القريبة من ضاحية رينكيبي، لكن عندما اكتشف مصلح ما حدث، شعر بالإهانة لأنه لم يُدعَ إلى المشاركة في السرقة التي ساهم في التخطيط لها، ليس من أجل المال في المقام الأول، ولكن من أجل المكانة.
بعد 9 ساعات من مقتل إيزي، قُتل مصلح على يد أصدقاء إيزي، من أجل الانتقام. منذ البداية كان الجميع أصدقاء، ذهبوا إلى المدرسة معاً، وكانوا قريبين، ولعبوا كرة القدم معاً. لكن كل شيء تغير حرفياً بين عشية وضحاها.
إيزي ومصلح، اللذان دفنا في اليوم ذاته مع اختلاف الزمن، وبجانب بعضهما البعض، يصبح زوالهما نقطة البداية للمونديال.
بكل الأحوال هو كتاب ثقيل. لا تمكن قراءته في جلسة واحدة. تشعر بالحزن وعليك أن تأخذ فترات راحة.
قسمت جرائم القتل الأصدقاء السابقين إلى فريقين متنافسين، ما أدى إلى سلسلة من ردود الفعل العنيفة. الانتقام من الانتقام، القتل بعد القتل. قتال لا يحدث فقط في ساحة الضواحي، بل يتمدد أيضاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي وإلى الموسيقى، ليتحول العنف إلى قصص وصور وموسيقى.
بالتوازي مع محاولة الشرطة التدخل، و إحضار أي من الشهود على جريمتي القتل، تزداد حوادث إطلاق النار، إزاء أي فعل يمكن تفسيره على أنه استفزاز، فيرد عليه بحدة من الجانب الآخر، وبذلك يتورط المزيد من الأشخاص، ويضطر أفراد الأسرة وأصدقاء الطفولة إلى الاختيار بين الجبهتين.
في مقاعد المتفرجين هناك آباء يائسون. ربما حضروا جنازة أبنائهم أو شاهدوهم بسترة واقية من الرصاص واعتادوا الأمر. يبدو الخلاف الدموي مع الأصدقاء السابقين وكأنه الخطوة الأخيرة على سلم شديد الانحدار، ينتهي في المقبرة الإسلامية خارج ستوكهولم.
ديامانت مراسل دقيق وذكي بدون تحيز يقترب أكثر مما يظهر في الكتاب، لكن ربما يكون مقيداً باللغة الصحافية التي تخلق مسافة معينة، على رغم أنه تصوير العوامل المؤثرة في تشكيل عقلية العصابات بين الأطفال واليافعين، وليس تحليلاً، إلا أنه يرسم سلسلة قاتمة من المآسي. وعندما يتعمق صالحو في تربيتهم، يتضح أن معظمهم عاشوا حياة من الصراع المبكر مع المدرسة وعائلاتهم والمجتمع ككل. وهذا يعني أنه لا العادات والتقاليد و لا الشرطة قادرة على الوصول إليهم.
جيل ضائع، ورث صدمة الحرب من الأهل، مع آباء ضعيفين اقتصادياً واجتماعياً، هاجروا من الصومال، يشعرون بالعجز، ويفتقر الكثير منهم إلى الوظائف والمهارات اللغوية والتعليم و المستقبل.
ويفسر بنبرة شخصية اليأس من الشيء الوحيد الذي يمكنهم التمسك به، وهو بناتهم، بينما الأبناء يصعب إنقاذهم خصوصاً عندما تحول جزء من هؤلاء الشباب إلى جنود في تنظيم الدولة الإسلامية، واختاروا الذهاب إلى سوريا أو العراق والانضمام إلى “داعش”، الذي أنتج مقاتلين عنيفين، ساهموا بعد عودتهم في تأجيج الصراع، وأولئك الذين نجوا من القتل، تم وضعهم في مؤسسات رعاية الشباب والسجون، وأصبحوا مجرمين أكثر خطورة، وجزءاً من شبكات دولية. يؤسس البعض أنفسهم كفناني “راب”، حيث تصبح بعض كلمات الأغاني دعاية خالصة للعصابة، وقناة لتهديد الأعداء والمنافسين أو الحداد على الأصدقاء المتوفين.
إقرأوا أيضاً:
الكتاب عبارة عن خليط بين الصحافة السردية والتحليل الاجتماعي، يسلط الضوء على فجوات طبقية تتسع، لتؤدي إلى الشعور بضياع الهوية والتشتت بين هويتين، حتى العثور على تلك الهوية في بيئة العصابات، حيث يهتم الشباب بإنشاء هويتهم الخاصة، المؤسسة على الثقافة الذكورية وتمجيد القوة والمال.
ولكن بعيداً من المخدرات والبنادق وموسيقى الراب على وسائل التواصل الاجتماعي، يبقى السؤال بلا إجابة: لماذا تقتلون بعضكم البعض؟
يبذل صالحو جهداً لإيجاد علاقة سببية بين الإجرام والانتماء العرقي والثقافي للمجرمين، من خلال طرح أسئلة مركبة على من تمت مقابلتهم، على رغم حقيقة أن معظم أولئك الذين يظهرون في تلك البيئة ولدوا في السويد. يتم توجيه أسئلة متكررة حول التسويات الداخلية بين العائلات (نظام الدية)، التي تحدث خارج النظام القانوني السويدي. حتى لو أنكر جميع الناس هذه الشائعات، إلا أن صالحو يخلص إلى حدوث مثل هذه التسويات. ومع ذلك، لن نعرف أبداً كيف ومتى وفي أي سياق.
لكنه في الوقت نفسه، فشل في اختراق المفاهيم العنصرية الثقافية التي هيمنت على نقاش السياسة الأمنية عندما يتعلق الأمر بالعنف في الضواحي السويدية. بدلاً من ذلك، يعزز العنصرية الثقافية، التي هي في الحقيقة مجرد امتداد للعنصرية القائمة على العرق، من خلال إسناد قيم معينة إلى ثقافات معينة (في هذه الحالة الصومالية).
بكل الأحوال هو كتاب ثقيل. لا تمكن قراءته في جلسة واحدة. تشعر بالحزن وعليك أن تأخذ فترات راحة. بإمكان القارئ متابعة الشباب من خلال سجلات الخدمات الاجتماعية وشهاداتهم وقصص والديهم وسجلات الشرطة وقاعات المحاكم في السويد والدنمارك، وصولاً إلى المقبرة عند دفنهم…