على مدار عقود، وبصورة خاصة في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، خاضت النساء في سوريا معارك صعبة لنيل حقوقهن السياسية والمدنية. لكن مع كل خطوة إلى الأمام، تظهر موجات جديدة تسعى لإعادة النساء إلى المربع صفر، فيصبح النقاش محصوراً في قضايا اللباس والمظاهر الخارجية. من بين هذه الممارسات، ما صنفته الإدارة الجديدة على أنه “تصرفات فردية”، مثل حملات دعوية تمثّلت بتعليق منشورات إرشادية في الشوارع تحدد اللباس الشرعي للنساء، وإجراء حملات دعوية ميدانية تتضمن توزيع ألبسة إسلامية على النساء. قوبلت هذه الحملات بمنشورات مضادة تشدد على حرية اللباس للنساء، بمختلف أشكاله.
في خضم هذا المشهد، يبرز سؤال محوري: هل علينا الاستجابة لهذه الموجات التقييدية والانخراط في معركة الرد عليها؟ أم يجب الترفع عنها والمضي قدماً من حيث وصلنا في النضال النسوي؟ النقاش هنا لا يدور فقط حول طبيعة الرد، بل حول جدواه في ظل المشهد السياسي والاجتماعي الحالي. فالانجرار إلى هذا النوع من الجدالات قد يعيد صرف الأنظار عن قضايا المساواة السياسية والاقتصادية. في المقابل، تجاهل هذه التصرفات قد يُفسر كتخاذل أمام محاولات تقويض مكتسبات حققتها النساء بجهود نضالية طويلة، وتكون فاتورته باهظة على المدى الأبعد.
وضع المناشير في سياقها السياسي أو حملات اللباس الشرعي: تصرفات فردية أم منهجية منظمة؟
في معرض التفكير بالسؤال النسوي: نرد أو لا نرد، وكيف نرد؟ يتوجب قراءة هذه “التصرفات الفردية” في سياقها السياسي والاجتماعي الأوسع.
تُظهر السياسات والتصريحات الأخيرة للحكومة الجديدة في سوريا، توجهاً واضحاً نحو إعادة هيكلة أدوار النساء في المجتمع ضمن إطار تقليدي، يُعيد تأكيد ما يجري تقديمه بوصفه “الفطرة الطبيعية” للمرأة. في هذا الإطار، شكّلت تصريحات عائشة الدبس مديرة مكتب شؤون المرأة، وعبيدة أرناؤوط المتحدث باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية في سوريا، مؤشراً أوضح على هذا التوجه. أكدت الدبس ضرورة أن “تتبنى المنظمات النسوية النموذج الذي تسعى الإدارة الجديدة إلى بنائه”، مشيرةً إلى أن “الاختلاف الفكري غير مرحب به” معها، مركزةً على دور المرأة “الفطري” داخل الأسرة. من جانبه، صرح أرناؤوط أن “طبيعة المرأة النفسية والبيولوجية لا تتناسب مع مناصب قيادية مثل وزارة الدفاع”، مما يعكس رؤية تمييزية تُقصي النساء عن الأدوار القيادية.
أما على صعيد السياسات التي تعكس هذا الخطاب، فقد جاءت تعديلات المناهج الدراسية لتلغي شخصيات تاريخية نسائية بارزة مثل الملكة زنوبيا وتهمّش المحتوى الفلسفي، وبرروا هذا التعديل بأنه حذف من مناهج الديانة الإسلامية فقط. إضافة إلى ذلك، انعكست هذه الرؤية في حالات الفصل الجنسين داخل وسائل النقل العام، وهو إجراء يهدف – وفقاً للتبريرات غير الرسمية – إلى فرض معايير اجتماعية جديدة ترتكز على تقاليد الفصل بين الجنسين. كما جاءت تصريحات منسوبة إلى مدير إدارة رخص القيادة، عبد العظيم صادق، شددت على حصر تدريب النساء على القيادة بمدربات نساء، لتعزز هذا النهج، إذ اعتُبر ذلك وسيلة لتقليل التوتر الذي قد تشعر به النساء عند وجود مدربين ذكور، مما يعكس خطاباً يُعيد تعريف أدوار المرأة بناءً على “طبيعتها” المفترضة. ولعل الإشارة الأكثر وضوحاً تتمثل في تعيين شادي الويسي وزيراً للعدل في الحكومة المؤقتة، وعدم التراجع عن هذا التعيين، أو حتى إصدار توضيح حول إشرافه على عمليات إعدام لنساء بتهم “الإفساد والدعارة”، موثقة بالفيديو ومنتشرة على نطاق واسع.
برغم وضوح التوجهات التقليدية للإدارة السورية الجديدة في ما يتعلق بالنساء، إلا أن هناك تخبطاً ملحوظاً وتراجعاً عن بعض التصريحات والإجراءات، يعكس عدم استقرار هذا الخطاب. يبدو أن جزءاً من هذا التراجع يعود إلى ضغط الاحتجاجات الشعبية والنسوية، التي رفضت السياسات التقييدية وحاولت التصدي لمحاولات تقليص حقوق النساء. مع ذلك، هذا التراجع لا يبدو مبنياً على مراجعات فكرية حقيقية أو حوارات مستنيرة تشمل خبيرات نسويات، أو خبراء في قضايا النوع الاجتماعي، بل محاولة لتخفيف حدة الانتقادات في ظل تصاعد الرفض الشعبي لهذه التوجهات.
في المقابل، تجد الإدارة الجديدة نفسها في ورطة معقدة بين إرضاء التيارات التقليدية المتشددة داخلها، التي تسعى إلى فرض رؤية محافظة تقيّد دور النساء، وبين تلبية متطلبات المجتمع الدولي.
صرح العديد من الفاعلين الدوليين بأنهم سيراقبون سياسات الإدارة وأقوالها، مؤكدين أن منح الشرعية للإدارة الجديدة سيكون مشروطاً جزئياً بالالتزام بالمساواة بين الجنسين وضمان حقوق النساء. هذا التوازن بين الضغوط الداخلية والخارجية يضع الإدارة في موقف غير مستقر، حيث تبدو سياساتها مترددة ومجزأة، مما يثير تساؤلات حول جدية التزامها بتعزيز المساواة، ومدى قدرتها على تقديم رؤية تنموية شاملة وعادلة تراعي حقوق النساء ضمن عملية بناء مستقبل البلاد.
تُظهر السياسات والتصريحات الأخيرة للحكومة الجديدة في سوريا، توجهاً واضحاً نحو إعادة هيكلة أدوار النساء في المجتمع ضمن إطار تقليدي، يُعيد تأكيد ما يجري تقديمه بوصفه “الفطرة الطبيعية” للمرأة.
القوى الديمقراطية في قلب المعادلة
هذا الحصر للمصير السياسي في سوريا، بين رؤية الحكومة المؤقتة وضغوط المجتمع الدولي، ليس فقط تقليص للانتقال ورسم المستقبل للطرفين، بل هو أيضاً تجاهل لدور القوى الديمقراطية السورية التي يجب أن تأخذ مكانها المشروع والضروري في هذه المرحلة الحساسة. لا يمكن الحديث عن مستقبل عادل وشامل من دون تمكين هذه القوى من قيادة مشروع تغييري يعتمد على قيم الحرية والكرامة والمساواة. وفي هذا السياق، أجد نفسي مدافعة عن النضال السلمي بكل أشكاله، خصوصاً النسوي منه، الذي يُثبت مرة تلو الأخرى أنه قادر على تفكيك منظومات القمع، وإعادة بناء المجتمع على أسس تعكس تطلعات جميع فئاته. النضال النسوي هو استراتيجية مستدامة لزرع قيم المساواة في عمق العملية التغييرية، وهو ما يُعد ضرورياً في مواجهة محاولات تهميش النساء وإقصائهن عن مواقع القيادة وصنع القرار.
تعكس مسألة “مناشير اللباس”، التي أُطلق عليها بسخرية “حرب المناشير”، بُعداً أعمق يتعلق بالصراع على هوية الفضاء العام في مرحلة ما بعد النزاع. المناشير هنا أداة مقاومة سلمية تعبّر عن محاولات استعادة هذا الفضاء كمنصة للتعددية والتنوع، في مواجهة مساعٍ لفرض أيديولوجيا واحدة تُرسم بأدوات القوة. هذا الشكل من النضال السلمي يكشف عن إدراك لأهمية الرموز والدلالات البصرية في تشكيل الوعي الجمعي، وإعادة تعريف علاقة المواطنين ببيئتهم العامة، خاصة في مجتمعات تسعى للخروج من سنوات طويلة من الهيمنة العسكرية أو الأيديولوجية.
ما يجعل هذا الصراع أكثر تعقيداً هو أن المناشير بدايةً، جاءت من شعور بالدعم من جهات مسلحة تدّعي شرعية دينية وسياسية، حتى وإن لم يكن دعماً معلناً. وهو ما يُبرز أزمة غياب العدالة الانتقالية وآليات الديمقراطية في إدارة المرحلة الحالية. فضاء الشارع، الذي من المفترض أن يكون مساحة للتعبير الحر والتفاعل الاجتماعي، يتحول إلى ميدان لإعادة إنتاج الهيمنة، حيث تُستخدم أدوات ظاهرها بسيط كالمناشير والملصقات، لتثبيت سلطة جديدة تدّعي أحقيتها بإعادة تشكيل المجتمع وفق رؤيتها الأحادية. في هذا السياق، يصبح الدفاع عن التعددية في الفضاء العام مواجهة رمزية لرفض الاستبداد، ومحاولة لتثبيت حقوق المواطنين في رسم ملامح مجتمعهم.
النضال السلمي وأدواته التقليدية، مثل المناشير والملصقات والشعارات في الفضاء العام، يحملان أهمية مزدوجة؛ رمزية وعملية. على المستوى الرمزي، يعبّر النضال السلمي عن قوة الموقف الأخلاقي، حيث يواجه القمع والتسلط من دون اللجوء إلى العنف، مما يجعله أداة شرعية تتحدى سرديات السلطة التي غالباً ما تُبرر إجراءاتها بذريعة حفظ الأمن أو مكافحة التمرد. هذه الأدوات التقليدية تكفل قدرة الأفراد والجماعات على إيصال أصواتهم والاحتفاظ بحيز من السيطرة على واقعهم، حتى في ظل اختلال موازين القوة.
أما على المستوى العملي، فإن هذه الأدوات تمتلك فعالية كبيرة في خلق مساحات تفاعلية ومفتوحة للتعبير والتواصل داخل المجتمعات، خاصة تلك التي تعاني من القمع أو التقييد السياسي. المناشير والملصقات، برغم بساطتها، تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والفضاء العام، بجعل الجدران والأسطح الرمزية وسيلة لإعادة بناء هوية جماعية مقاومة. في بيئات ما بعد النزاع، تصبح هذه الأدوات التقليدية بمثابة بذور لخلق وعي مجتمعي جديد، يُقاوم محاولات الهيمنة ويفتح المجال لنقاشات حول التعددية والحقوق والمساواة.
بالإضافة إلى ذلك، النضال السلمي قادر على استقطاب التعاطف والتأييد الشعبي والدولي، إذ يظهر كخيار حضاري ومنظم يعبّر عن تطلعات مشروعة من دون الانزلاق إلى دوامة العنف. هذا التأييد يصبح ركيزة لدعم الحركة الحقوقية والسياسية، مما يمنحها قدرة أكبر على التأثير في معادلات السلطة، حتى في أكثر الظروف تعقيداً. لذا، فإن أدوات النضال السلمي ليست مجرد وسائل مؤقتة أو ردود فعل، بل هي استراتيجيات مستدامة لإحداث التغيير وترسيخ ثقافة مقاومة عادلة وتقدمية.
والجمهور المستهدف هنا هو السلطة والمجتمع على حد سواء. تعليق منشور على جدار أو كتابة عبارة في ساحة عامة هو إعلان صريح للسلطة بأن هناك من يراقب، يعترض، ويُصر على استعادة الفضاء العام ليعكس تنوع المجتمع. أما بالنسبة للمجتمع، فهي رسالة تفتح باب التأمل والتساؤل، وهي دعوة واضحة للانحياز إلى قيم التعددية والحرية. للسلطة، هي تذكير دائم بأن الصمت لن يكون خياراً مستداماً، وأن أي محاولة لتقليص المساحات العامة أو تهميش الأصوات ستواجه حضوراً مستمراً على الجدران وفي الشوارع، حضوراً يعيد التأكيد على أن الفضاء العام ملك للجميع، وأن فرض الإقصاء سيُقابل بحضور مستمر في الشوارع، على الجدران، وفي كل زوايا الفضاء العام.
توازي المسارات: قوة التنوع في النضال
لم أستغرب مقابلة المنشورات المضادة التي تدافع عن حرية اللباس برفض من فئة اعتادت التقليل من أهمية هذه القضايا، معتبرةً إياها هامشية وغير مركزية، بل ربما محاولة لحرف النظر عن القضايا الكبرى. لكن هذا المنطق يتجاهل حقيقة أن السكوت ليس خياراً في مواجهة محاولات فرض الهيمنة حتى على التفاصيل اليومية. ويعكس تجاهلاً عميقاً للتشابك بين ما يُعتبر “صغيراً” أو “رمزياً” وبين القضايا الكبرى التي تتعلق بالحريات والعدالة. حرية اللباس ليست معزولة عن نضال أشمل يتناول سيطرة السلطة على أجساد الأفراد واختياراتهم اليومية، فهي جزء من مقاومة تسعى لاستعادة الحق في تقرير المصير الشخصي، الذي يُعتبر في قلب أي مشروع تحرري أو ديمقراطي.
لا يمكن فصل هذه القضية عن الحقوق السياسية والاجتماعية، إذ إنها تكشف البنية الثقافية والفكرية للأنظمة القمعية، السياسية والمجتمعية، التي تستخدم التفاصيل اليومية أداةً للهيمنة. الدفاع عن حرية اللباس لا يحرف النظر عن القضايا الكبرى، إذ إنه يعزز الفهم العميق للرابط بين التفاصيل اليومية والمعركة الأوسع من أجل الحرية والتحرر.
أحد أبرز الأمثلة هو النضال النسوي في إيران ضد فرض الحجاب الإجباري، حيث أصبحت قطعة القماش رمزاً للمقاومة في وجه نظام شمولي يسعى لفرض سيطرته على أجساد النساء، وعلى حرياتهن الشخصية والاجتماعية والسياسية. هذه الحركة النسوية لم تُعتبر انحرافاً عن القضايا الكبرى، على العكس أثبتت أنها جزء لا يتجزأ من النضال العام ضد القمع والاستبداد.
من المهم أن نشير هنا إلى أن النضال من أجل الحرية والعدالة ليس مساراً أحادياً، إنما شبكة من القضايا التي تتطلب توازي المسارات لتحقيق تغيير جذري ومستدام. تتداخل اليوم في سوريا القضايا السياسية، الاجتماعية، والثقافية بشكل يجعل من المستحيل حل إحداها بمعزل عن الأخرى. هنا، يصبح العمل ضمن مسارات متعددة أمراً حتمياً وضرورة عملية، حيث تركز كل مجموعة على جانب محدد، لكن هذه التعددية في الجبهات تحتاج إلى تنسيق وثيق يضمن ألا تتحول إلى تشتت أو تضارب في الأهداف.
ما يجعل هذا النموذج فعّالاً هو إدراك أن كل قضية، مهما بدت صغيرة أو رمزية، هي جزء لا يتجزأ من منظومة النضال الأكبر. الدفاع عن حرية اللباس، على سبيل المثال، لا يتعلق فقط برفض الهيمنة على أجساد النساء، بل يرتبط بشكل أعمق بمعركة استعادة الفضاء العام كمساحة للتعددية والاختلاف. في المقابل، التركيز على القضايا السياسية الكبرى مثل الانتقال الديمقراطي، يعزز السياق الذي يجعل هذه الحريات الفردية ممكنة ومحمية. التنسيق هنا لا يعني بالضرورة توحيد الجهود في اتجاه واحد، فالهدف خلق تفاعل ديناميكي بين المسارات المختلفة، بحيث تصبح كل معركة إضافة نوعية تدعم الأخرى.
توازي المسارات، إذا نُفذ بشكل صحيح، يمنح الحركة النضالية عمقاً ومرونة. فهو يسمح لكل مجموعة بالتركيز على خبراتها وأولوياتها، بينما يعمل التنسيق على إبقاء الأهداف الكبرى واضحة. بهذا الشكل، لا تصبح معركة اللباس أو الفضاء العام عنصراً محورياً في مشروع أشمل لإعادة بناء المجتمع على أسس أكثر عدالة وتعددية. هذه الرؤية تُخرجنا من حصر النضال في رد الفعل، باتجاه استثمار في استدامة النضال عبر خلق منظومة متكاملة تعمل في انسجام، حتى لو اختلفت أولوياتها ظاهرياً.
الجدران التي تحولت إلى لوحات إرشادية تُحدد ما يجب أن ترتديه النساء، أصبحت ساحة للصراع على معنى الفضاء العام ومعايير الحرية.
هذا الاشتباك لا يكشف فقط عن معركة على التفاصيل اليومية، بل يوضح أن الانتقال الديمقراطي في سوريا يمكن أن يبدأ من هنا، من جدران تصر على أن تكون شاهدة على الحرية، لا أدوات للقمع.
إقرأوا أيضاً: