تقع بلدة إيربن بالقرب من كييف. العالم يسأل :هل هذه المباني المدمرة التي نشاهدها على شاشات القنوات الإخبارية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي كانت قبل الغزو الروسي خالية من السكان؟
هل الضحايا (نازيون فعلا؟) أم هم مدنيون لا حول لهم ولا قوة، أصبحوا هدفاً عسكريا (مشروعاً؟) لجيش بوتين ( المحرر؟!).
في الاخبار ان الاحزاب والجماعات اليمينية المتطرفة في أوكرانيا حصلت خلال الانتخابات النيابية الاخيرة على نسبة تزيد قليلا على 2% فقط من أصوات الناخبين!
ونحن نتجاوز فترة الشهرين على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، اخذت الحرب تكتسب طابع مباراة كرة قدم. المشجعون من كلا الفريقين يصرخون ألما عند اقتحام الخصم شبكة دفاع فريقهم، والآخرون من مشجعي الفريق الخصم يفرحون لكل هدف يحرزه فريقهم المفضل. شاهدنا ذلك عندما أغرقت صواريخ نبتون الاوكرانية أم السفن الحربية الروسية “موسكفا” فتعكرت أمزجة داعمي بوتين وروسيا، فيما ابتهج أنصار زيلينسكي وأوكرانيا وانعكس ابتهاجهم لمعاناً في عيونهم فرحاً بقرب الانتصار.
حرب بوتين الفاجرة هذه اعادت الى ذاكرتنا حروب كثيرة في العالم من بينها ،الحرب على جزر فوكلاند عام 1982. في ذلك الوقت احتلت هذه الحرب مساحات واسعة في الميديا التي تتحكم الأحزاب الشيوعية الحاكمة بنهجها التحريري . في الدول السائرة في المدار السوفياتي آنذاك، كانت الرقابة السياسية تختار الخبر الذي تعتبره الأهم عالميا على حساب الأخبار الدولية الاخرى التي في الواقع لم يكن يصل منها الى آذان الناس سوى تلك المملة المنتقاة بعناية من الرقابة الأمنية. أخبار حرب الارجنتين وانجلترا كانت “هيت”(بمثابة سبق صحافي) من بين الأخبار المسموح بها وكلها تصب في صنف “المعلومات والاخبار الترفيهية”. في الحقيقة اعتاد الناس على “حنفية” الأخبار الرسمية ، لدرجة نمو جموح في نفوسهم لمزيد من الترفيه . هذه الأخبار حولت الحروب في واقع الحال الى لعبة أكثر إثارة من كرة القدم التي كانت الأنظمة الشيوعية الاستبدادية تحرص على دفع الأموال الطائلة لتمكين قنواتها التلفزيونية من الحصول على شراء امتياز عرضها بغية إشغال الجمهور عن همومه الاساسية.
السيدة الحديدية و والجنرال جاليتري وجزر الفوكلاند
استولى النظام العسكري في الأرجنتين على جزر الفوكلاند، بغية تسخير هذا الانتصار لزيارة رصيده الشعبي المتردي .كانت بريطانيا العظمى احتلت هذه الجزر قبل قرن من الزمان. الفوكلاند هي جزر غير مأهولة تقريبًا يبلغ عدد سكانها 3000 نسمة وعدة ملايين من الطيور، وأهمها طيور البطريق البحرية. تقع هذه الجزر في أقصى الجنوب في المياه الباردة. الا ان السيدة الحديدية مارغريت تاتشر لم تتلكأ أو تتردد وتفكر طويلاً قبل اتخاذ قرارها التاريخي في إرسال سفن البحرية البريطانية للدفاع عن أراضي الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، واسترجاعها من “المحتل”. ومع أن هذه الجزر تقع على بعد 15000 كيلومتر من لندن، إلا أن هذا لم يكن يعني شيئا للسيدة الحديدية، فالمهمّ هو حماية أملاك الامبراطورية واسترجاع المسلوب منها . ما أتذكّره من هذه الحقبة هو أن أيا من الجانبين المتقاتلين لم يعلن بدء حرب ضد الدولة الأخرى. كما وكأن الأمر ليس أكثر من شجار بين اثنين يصل الى حد التقاتل على مكان في موقف عام للسيارات!
الرأي العام العالمي يقف دائما إلى جانب الضحية و الضعيف الذي يتعرض للضرب. ولكن هذا لا يمنع أن يشذّ الكثير من الناس الغارقين في متاهات نظرية المؤامرة والدعاية والأخبار الكاذبة التي غزت وسائل التواصل الاجتماعي مع تزايد أعداد “البوتات”(الحسابات الوهمية التابعة للجيش الالكتروني الروسي) على الانترنت في الانجذاب إلى خطاب بوتين والاعجاب بدوافعه. هذه المواقع الالكترونية التي تصدر ولها حسابات في وسائل التواصل نجحت في استغفال عقول الملايين من الناس، لانهم تخلوا عنها ببساطة. ما نراه ونراقب مساره كل يوم هو أن العالم والدول والمجتمعات على اختلافها القريبة والبعيدة ،الغربية والشرقية، والجنوبية والشمالية ،انقسمت الى فريقين بالضبط مثل مشجعي فرق كرة القدم. تزدحم ملاعب كرة القدم ويحتشد فيها من يعرفون بإسم الهوليغانز ( الزعران). يتكرر المشهد اليوم مع الحرب الطاحنة في أوكرانيا. التفاهة اصبحت عنوان الحقبة التي نعيشها لاننا نشهد السقوط الأخلاقي نفسه الذي عشناه ورأيناه في حروب العراق وسوريا واليمن ولبنان والقائمة تطول.
يستمتع المشجعون بكل هدف يسجله فريق الأرجنتين ويحرزه النظام العسكري للجنرال يوبولدو جالتييرى. الفرحة والهياج والحماسة ترتقي إلى غيبوبة مع كل انتصار، وتحتدم مع إغراق الارجنتين 6 سفن حربية بريطانية . الا ان السيدة الحديدية لم تدع هذه الإهانة تمرّ، اذ سرعان ما انتقمت لها واستعادت كرامة المملكة الجريحة بتدمير ثلث ترسانة طائرات الأرجنتين الحربية، ولم تدّخر وقتا في سرعة هذا التدمير حيث ضربت بقسوة “قرة عين” الأرجنتين السفينة الحربية الرئيسية التي كانت اشترتها من الولايات المتحدة التي استخدمتها في الحرب العالمية الثانية.
مشجعو بوتين اليوم لا يختلفون عن مشجعي ذلك الزمان، ها هم يهلّلون ويرقصون على انغام اغاني الديسكو مع كل مذبحة واغتصاب وتدمير للمدارس والمستشفيات ومراكز الفنون والثقافة التي يرتكبها جنود بوتين، ويطالبونه بمزيد من التدمير والقتل على الرغم من أنهم، وعلى مر العقود، ضحايا دائمين للقتل والتهجير القسري والتدمير.
هؤلاء المشجعون يقضون جزءا كبيرا من أوقاتهم في مطالعة الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة قناتيّ “روسيا اليوم” و”سبوتنيك” لسماع مزيد من الأخبار التي تفرحهم، ولكي يحصوا كل طائرة تسقط وكل سفينة تغرقها القوات الغازية. هذا ما يفعله أيضا داعمو ضحايا العدوان الروسي، ولو بدرجة اقل، لانهم ليسوا اغلبية على الاقل عندنا في الشرق الاوسط ومجتمعاتنا في الشتات التي هاجرت الى الغرب هربا من حكام يشبهون بوتين.
نتذكر من الأرشيف وما علق في رؤوسنا من تلك الأيام ( الغابرة) كيف ان تاتشر غضبت من فرنسا التي كانت باعت الأرجنتين طائرات مقاتلة من طراز ميراج (قبل الحرب). هذه الطائرات لسوء حظ باريس كانت مزودة بصواريخ Exose المصنعة خصيصاً لتحطيم السفن البحرية، ولولاها لما كان جالتيري تمكّن من إغراق سفن الحليف البريطاني. التاريخ يعيد نفسه ،اذ ان لافروف الان يعاتب نظيره التركي مولود جاويش اوغلو لتزويد انقرة اوكرانيا قبل الحرب بطائرات الدرون ( بيرقدار) التي دمرت نصف الدبابات الروسية التي كانت تطوق وتستعد لاحتلال كييف. انقرة حليفة موسكو في سوريا وعدوتها في اذربيجان وليبيا تزود أوكرانيا بهذه الطائرات ولكن بشكل غير مباشر عبر بولندا. ليس بمقدور لافروف العدواني والشرس ان يطلق حمم غضبه مع رئيسه على أردوغان لأن المصلحة تقتضي ضبط النفس .
لم يكن هناك أي شكّ في فوز بريطانيا بهذه الحرب واعادتها للجزر إلى أحضانها وإلحاقها الهزيمة بالديكتاتور الأرجنتيني . بالطبع نحن لا نستطيع تأكيد ان بوتين قادر على إعادة أوكرانيا إلى الحظيرة السوفياتية، فالحرب تستعر والحلف الأطلسي كما يبدو لا يفكر بترك بوتين ينتصر، فهذه الحرب ليست كحروب العراق و سوريا و ليبيا ولا حتى لا افغنستان، لان مصير الغرب والأطلسي وأمريكا موضوعة على المحكّ. الجميع يتذكر كيف أنّ الرئيس الروسي اعتبر في أحد خطبه أنّ تفكّك الاتحاد السوفياتي وموته كالمريض بالسرطان الذي لا أمل في إنقاذ حياته بأنه “اكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”. لا شئ تغير في الفوكلاند بعد أن استعادتها بريطانيا، فهي لا تزال موطنًا لثلاثة آلاف شخص فقط.
حرب الفوكلاند استمرت بشراسة 74 يومًا، قتل خلالها 255 بريطانيًا، و 964 أرجنتينيًا معظمهم بحارة من الطراد الغارق. لا شيء بالمقارنة بما يفعله بوتين وجيشه وجهاديو قادروف( قاديروفيتسي) من قتل و اغتصاب وتدمير وقصف لايقل ضراوة عن ما ارتكبته من جرائم حرب في غروزني وسوريا تحت أنظار العالم الذي راقب بصمت ما كان يفعله القيصر طيلة السنوات العشر الأخيرة في لوغانسك ودونيتسك والقرم وسوريا وليبيا وجمهورية افريقيا الوسطى ومالي والسودان من جرائم وتهجير وتحويل بلدان المنطقة الى دول فاشلة. هل بمستطاع أحد التكهن متى ستنتهي حرب بوتين وكم ستطول؟ اذا صدقنا تصريحات الاستخبارات الاميركية فهي ستستمر شهورا اخرى، وربما سنوات ما يعني مزيدا من الضحايا والدمار والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية والغذائية في كل دول العالم، وربما تخرج الأوضاع عن السيطرة .
إقرأوا أيضاً:
لماذا تستمر الدبلوماسية الغربية مع روسيا بالفشل؟
كانت المحلّلة الأميركية الشهيرة آن آبلباوم قد تساءلت في مقالة لها في في مجلة “ذي اتلانتك” بعنوان “لماذا تستمر الدبلوماسية الغربية بالفشل ؟”، قبل أسابيع معدودة من غزو روسيا لاوكرانيا قائلة: “يا إلهي ، كم أحسد ليز تروس على الفرصة التي أتيحت لها بلقاء لافروف! يا إلهي ، كم أنا آسفة لفشلها التام في اغتنامها هذه الفرص. بالنسبة لأولئك الذين لا يعرفونها او لم يسمعوا بإسمها من قبل، تروس هي وزيرة الخارجية البريطانية التي سافرت إلى موسكو لتبلغ نظيرها الروسي ، سيرغي لافروف التالي”أن روسيا ينبغي ألا تغزو أوكرانيا!”.
الواقع ان هذه الرحلة كانت فاشلة. تبين هذا في المؤتمر الصحفي الجليدي او الخشبي، لان لافروف كان لا يسمع فيما ضيفته لا تتكلم. الفضيحة الكبرى هي أن لافروف استغل جهل الوزيرة البريطانية التي خلطت أسماء مدن روسية بأخرى أوكرانية ، واستغل ذلك لاهانتها وإذلالها أمام المراسلين من الميديا الدولية. لقد فعل لافروف هذا مرات عديدة من قبل. في العام الماضي، كان لئيمًا مع الممثل الأوروبي الأعلى للشؤون الخارجية جوزيب بوريل. إنه معاد للمؤتمرات الدولية ووقح مع الصحفيين. لم يكن سلوكه في كل هذه الحالات مصطنعا، بل مقصودا وربما كان هذا جزءاً من شخصيته العنجهية. لافروف ، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدم العدوان والسخرية كأدوات لإظهار الازدراء لمحاوره، والإيحاء بأن المفاوضات عديمة الجدوى حتى قبل أن تبدأ، لإثارة الخوف واللامبالاة. الأمر المهم بالنسبة إليه هو إجبار الطرف الآخر على الدفاع عن نفسه أو إرغامه على التخلي طوعاً عن المفاوضات معه باشمئزاز. لكن برأي أبلباوم “أن تروس كان بإمكانها أن تبدأ المؤتمر الصحفي على النحو التالي:
مساء الخير سيداتي وسادتي الصحافة. يسعدني أن أنضم إليكم بعد الاجتماع مع زميلي الروسي سيرغي لافروف. هذه المرة لم نهتم بمناقشة الاتفاقيات التي لا ينوي الوفاء بها ولا الوعود التي لاتساوي حتى بنس واحد”. بدلاً من ذلك أبلغته “أن غزو أوكرانيا سيؤدي إلى تكاليف باهظة للغاية – أعلى مما كان يتخيله بوتين ولافروف في أي وقت مضى. الآن نخطط لوقف استيراد الغاز الروسي تمامًا – ستتلقى أوروبا إمداداتها من الطاقة من أماكن أخرى. نحن نستعد الآن لمساعدة المقاومة الأوكرانية لمدة عشر سنوات، إذا لزم الأمر. نضاعف دعمنا للمعارضة الروسية والإعلام الروسي المستقل أضعافاً مضاعفة. نحن نريد التأكد من أن موسكو ستفهم تكلفة وقوع الغزو، وتعي جيدا أنها إذا كانت تريد تغيير النظام في أوكرانيا ، فسنعمل نحن ايضا على تغيير النظام في روسيا”. وأضافت أبلباوم: “كان بمقدور تروس أو بوريل قبلها إضافة لمسة من الإهانة الشخصية للافروف على طريقته تماما، كأن تقول له أمام الصحافيين:”لنتساءل بصوت عالٍ كيف يدفع لافروف براتبه الرسمي تكاليف شراء هذه الممتلكات الفخمة التي تسكنها عائلته في لندن؟”. كان يمكنها فوراً ان تعدد أسماء الكثير من موظفي الخدمة المدنية الروس الآخرين الذين يرسلون أطفالهم للدراسة في باريس أو لوغانو. كانت تستطيع أيضاً أن تعلن أن جميع هؤلاء اولاد المسؤولين الروس يستقلون الآن طائرات العودة الى بلادهم روسيا ليكونوا في المنزل مع أهاليهم من دون رجعة: لن يكون هناك المزيد من المدارس الأمريكية في سويسرا! لن يكون هناك المزيد من المشي في نايتسبريدج! لن يكون هناك المزيد من اليخوت في البحر الأبيض المتوسط والبحار الأخرى!”.
بوتين لا يحتقر البروتوكول الدبلوماسي ويبغض الاتفاقيات الدولية
بالطبع ، لن تقول تروس – كما بوريل وماكرون والمستشار الألماني شولتس الذين ذهبوا الى موسكو ونال كل واحد منهم نصيبه من السخرية والإذلال أي شيء من هذا القبيل، حتى ولو في السر. إنه لأمر مأساوي أن القادة والدبلوماسيين الغربيين، الذين يحاولون حاليًا منع الغزو الروسي لأوكرانيا، ما زالوا يعتقدون أنهم يعيشون في عالم تسود فيه القواعد والقانون، حيث يكون البروتوكول الدبلوماسي مفيدًا ويجري تقييم الكلام المهذّب. يعتقدون جميعًا أنهم عندما يذهبون إلى روسيا ، فإنهم يتحدثون إلى أشخاص يمكن تغيير آرائهم من خلال النقاش أو الحوار المنفتح و الحضاري. إنهم يعتقدون أن النخبة الروسية مهتمة بأشياء مثل “سمعتها”. الأمر ليس كذلك ابداً، تؤكد ابلباوم: “عندما نتحدث عن الجيل الجديد من المستبدين، سواء في روسيا أو الصين أو فنزويلا أو إيران، فإننا نتعامل الآن مع شيء مختلف تمامًا: نحن نتعامل مع أشخاص غير مهتمين بالاتفاقيات والمواثيق والمعاهدات ، أشخاص لا يعيرون أي اهتمام سوى للقوة الغاشمة”. وتتساءل مرة اخرى: “هل سمعت من قبل بوتين يتحدث عن هذا؟ بالطبع لا. كما أنه لا يبدي أي قلق بشأن سمعته المتهاوية والمحتضرة، فهو يحاول دفع خصومه للوقوف على أصابع أقدامهم بفعل ما يردّده من أكاذيب في قوالب خشبية جاهزة”. كما و ان لافروف لا يهتم إذا كان مكروهاً، لأن الكراهية كما يعتقد تمنحه هالة من القوة”.
حرب الفوكلاند وغيرها من الحروب الكبيرة والنزاعات العسكرية الصغيرة ، ستستمر هي الأخرى بعناد، ومعها تستمر حياة البشر كما هي من دون تغييرات دراماتيكية مصيرية، ولكن الغارقين في بحر القصف والدمار والموت، هم اكثر من يعرف ما الذي يتغير في حياتهم اليومية وحياة الاخرين الذين معهم في هذه المطحنة الدموية .
عندما اندلعت حرب القوكلاند واستعرت، خرجت فرقة الروك الإنجليزية “بينك فلويد” بألبومها الشهير “Final Cut“، الذي يتضمن أغنية “ارفعوا أيديكم القذرة عن صحرائي”.
وعلى هذا المنوال ،في العام 1979 احتل بريجنيف أفغانستان ، وفي 1982 فرضت اسرائيل حصارها على بيروت ووضعت يدها على جزء منها ليس قليلاً، وقام الجنرال غاليتري الجريء بإحراق الأسطول البحري البريطاني وسارعت ماغي للانتقام من أسطوله الجوي والبحري، وإهانة رتبته العسكرية بالحاق الهزيمة به وبجيشه، واستعادت الفوكلاند. أوكرانيا الصامدة هي الاخرى انتقمت لمذبحة بوجا بتدميرها لؤلؤة البحرية السوفياتية “موسكوفا”، وبهذا تكون قد وجّهت إهانة جديدة لبوتين عندما قصمت ظهر هيبة جنرالاته بأوسمتهم اللامعة و جيشه الذي انسحب من أطراف كييف يجرّ معه أذيال الخيبة والهزيمة .
في السنوات التالية لحرب الفوكلاند أي بعد استعادة بريطانيا سيطرتها على الجزر، ورد في نشرات الاخبار البريطانية أن 300 جندي بريطاني من الذين شاركوا في العملية العسكرية أقدموا على محاولات انتحار، وفسر أطباء النفس ذلك بما يعرف بإسم – متلازمة ما بعد الحرب – واتضح أن ضحاياها كانوا أكثر من الذين سقطوا قتلى في الحرب. 300 أو 500 شخص انتحروا دخلوا كرقم في الإحصاءات. المشكلة ان مئات القتلى والضحايا يصبحون مجرد أرقام، وجداول احصائية لا اكثر. هذا حدث في حروب العراق وسوريا والكويت وايران… الخ.
نصير وحامي الاقليات حفّار القبور الجماعية
لكن في الواقع ان هذه ليست مباراة لكرة القدم ، بل أفعال جنونية وحفلات دم. بوتين يدمر المدن الاوكرانية، كما كان يفعل مع المدن السورية. واغراق موسكفا، ـو تحطيم دباباته وإسقاط طائراته لن يوقف اغراق اوكرانيا في الدم، بل سيجعل الأوضاع أسوأ وأسوأ بكثير، لان حشر بوتين في الزاوية وهو ما يفعله الغرب الان، يحوّله إلى شخص فاقد السيطرة على قراراته وأفعاله. يواصل الأوكرانيون الفرار من مدنهم المدمرة، وهو ما فعله السوريون الذين أصبحت أشلاء شعبهم في كل العالم. ولكن الهجرة الكبرى وربما الدائمة لم تبدأ بعد. إنها الحرب العبثية التي لا غالب فيها ولا مغلوب في نهاية الأمر!
بوتين الذي يدّعي ويفخر بأنه حامي الأقليات الدينية في الشرق الاوسط، ونصير الكنيسة الارثذوكسية التي رفع مقامها الى أعلى المستويات في بلاده، وجعل بطريركها كيرل وسيطه الى الرب، شنّ حرباً مدمرة ضد دولة ارثذوكسية مواطنوها مسيحيون ارثوذوكس مثله ومثل شعبه، وتصوروا حصل ذلك بمباركة من الكنيسة الروسية التي كانت باركت من قبل حرب بوتين الشريرة ضد سوريا وشعبها، وجعلتها في مصاف الحروب المقدسة. ولسخرية القدر نرى أن القيصر الروسي الذي فشل جيشه في احتلال ولو مدينة اوكرانية واحدة، بسبب صمود أهلها وجيشها، يلوذ بجهاديي قادروف المشهورين بوحشيتهم وقذارة افعالهم، والمرتزقة من ميليشيات الأسد ولواء القدس الفلسطيني في سوريا ومرتزقة ليبيون ،ساعدوا ميليشيا فاغنر ضد شعبهم، ويستدعيهم لنصرته ولخوض معاركه ضد اخوته المسيحيين الارثذوكس الذين تشدق بحمايتهم من حكامهم( النازيين)!
لا يمكن لبوتين أن يفوز بغير أوكرانيا خارج الناتو، وربما هذا لن يحدث لأنه يعتمد على المواجهة الاكبر بين روسيا والولايات المتحدة، ولكن بالتأكيد سيكون بإمكانه أن يتابع عبر التلفزيون احتفالات انضمام السويد وفنلندا الى الحلف الاطلسي. مشاعر الخوف والكراهية المستعرة والمتبادلة الآن بين الروس والاوكرانيين لن تؤدي سوى إلى ذلك، ولن تندمل بين الشعبين جروح هذا العدوان الذي يحظى بتأييد ودعم 80% من الشعب الروسي، وفقاً لاستطلاع الرأي الذي أجراه مركز( ليفادا) الروسي المستقل.
حتى لو تمكن بوتين من احتلال كييف، فليس لديه ما يفعله بعد ذلك. ما الذي حققه في عدوانه على سوريا غير الدمار و التهجير وحماية الاسد وعصابته؟ لا يمكنه قتل أو اعتقال زيلينسكي – عليه أن يوقع معاهدة سلام مع شخص ما ذات يوم. إذا وضع رئيسًا مواليًا لروسيا (أصبح الأمر مستحيلًا بالفعل فمن يتجرأ من الأوكرانيين؟)، فلن يكون شرعيًا ولن يتعامل معه أحد. كما أنه من المستحيل إبقاء مثل هذا البلد الضخم محتلاً. وستدفع روسيا حتماً تعويضات جسيمة ذات يوم كما فعل العراق الذي دفع قبل أشهر القسط الأخير للكويت من تعويضات فرضتها الأمم المتحدة قيمتها 55 مليار دولار. سوف يفهم بوتين أنه كلما انتهت هذه الحرب بشكل مبكر وبسرعة ، كلما كان ذلك أفضل له ولروسيا. التاريخ القريب و البعيد يحفل بالامثلة.
الذين يريدون كسب الحرب ينبغي ان يدركوا ان الحرب لن تنتهي، لأن لا أحداً من الفريقين لن يسمح بانتصار الفريق الخصم. العالم كله يسير اليوم على حافة الهاوية. نحن نتعامل مع زعيم فقد إحساسه بالواقع ولديه صواريخ نووية. عندما تنطلق هذه الصواريخ، هل يهم إن كانت شبه جزيرة القرم روسية أم أن دونيتسك ولوهانسك لم تحظيا بوضع خاص ، على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات مينسك؟ وهل سيكون بمقدور بوتين واوليغارشييه وجنرالاته والمدافعين عن طروحاته من المثقفين والسياسيين ان لا تكون اوكرانيا جزءاً من الاطلسي او ان تكون غير مسلحة، وان تكون بلا نازيين؟ هل روسيا فعلا خالية من النازيين؟ وهل ان بوتين خلال العقد والنصف الاخير لم يمول ويساهم في تشكيل الحركات الشعبوية و النازية في أوروبا؟ اليس بوتين هو من منح مرشحة الرئاسة الفرنسية مارين لوبين 9 ملايين يورو للوصول إلى السلطة؟ أليس بوتين هو من اخترق المنظومات السياسية والمالية والإعلامية في اوروبا ودول الأطلسي بأمواله القذرة التي يغسلها الأوليغارشيون المقربون منه، أصحاب القلاع واليخوت والصحف وقنوات التلفزة ومئات مليارات الدولارات المسروقة من الشعب الروسي و التي تحولت الى استثمارات ضخمة وعقارات فخمة في عواصم الغرب ومصارفه ومنتجعاته السياحية؟
الحكومة البريطانية نفسها كانت قد قدّرت حجم الأموال الروسية القذرة التي تدفقت على المملكة بحوالي 100 مليار جنيه إسترليني في العام2016. وفي عام 2020، قالت لجنة البرلمان للأمن والاستخبارات إن الأوليغارش الروس انجذبوا إلى لندن بسبب “القوانين المرنة و الضوابط القليلة على الاستثمارات الروسية او تلك الاموال عديمة المصادر المشروعة، بالإضافة إلى ما يوفره رأس المال في لندن وسوق العقارات لهم من فرص للاستثمار”. وبحسب منظمة الشفافية العالمية” هناك عقارات بيعت في لندن بمال روسي مشبوه قيمته مليار جنيه إسترليني”. واتهم النائب المحافظ جون بينروز، مسؤول مكافحة الفساد حكومة بوريس جونسون بتأخير قانون الجريمة الاقتصادية، الذي من شأنه أن يكشف عن تلاعب أصحاب المصالح والشركات الوهمية بالقوانين والأنظمة لشراء عقارات في بريطانيا. واقترح مركز التقدم الأمريكي القريب من إدارة بايدن جهدا مشتركا على جانبي الأطلنطي “لتحفيز تحرك قوي من حكومة بريطانيا” في مجال مكافحة الأموال غير المشروعة وغسيل الاموال القذرة.
في هذا التقرير الذي أعده مسؤول رفيع عمل في ادارة باراك أوباما، وتناول فيه كيف تحولت “لندن سيتي” الى بؤرة للاموال الروسية القذرة، يحدد مجموعة من الإجراءات الكفيلة بالتخلص من الأليغارش المرتبطين بالكرملين، معتبرا هذه المهمة” تحدياً كبيراً نظراً إلى العلاقة القوية بين المال الروسي والحزب المحافظ الحاكم و مؤسسات الإعلام و مكاتب سماسرة العقارات وأرباب الصناعة والمؤسسات المالية”. ويسود اعتقاد أن حزب المحافظين تلقى عدة ملايين من الجنيهات الاسترلينية من متبرعين على علاقات مع روسيا منذ تولي جونسون رئاسة الحزب العام 2019. وكان تقرير لصحيفة “صنداي تايمز” (The Sunday Times) ) أماط اللثام عن تفاصيل مثيرة، تكشف تعيين رجل أعمال روسي في مجلس اللوردات، برعاية ودعم من جونسون الذي تربطه علاقة صداقة قوية مع يفغيني ليبيديف، متجاهلا تقارير صادرة في سنة 2020 من المخابرات الداخلية البريطانية “إم آي 5” (MI5) وكذلك مكتب المخابرات العسكرية “إم آي 6″ (MI6).. ووصفت تقارير المخابرات رجل الأعمال الروسي بأنه” قد يشكل خطرا محتملا على الأمن القومي للبلاد”. كما وتحدثت الصحافة البريطانية عن “تدخل مباشر من جونسون لتغيير تقييم المخابرات”، ورأت الصحافة ” حصول اتفاق سري بين جونسون والمخابرات لسحب هذا التحذير”.
كان يفغيني لبيديف في نسج علاقات قوية مع النخبة السياسية البريطانية، بفضل امتلاكه لتكتل إعلامي مؤثر في الساحة البريطانية، فهو مالك لأغلبية الأسهم في جريدة “إيفنينغ ستاندارد” (Evening Standard) وصحيفة “إندبندنت” (Independent) وقناة “لندن إيفنينغ” (London Evening).
وظل الشاب الروسي الأصل دائماً علامة استفهام للصحافة البريطانية والأميركية، خصوصا علاقته القوية جداً مع رئيس الوزراء بوريس جونسون والتي ظهر أنها تعود لحوالي عقد من الزمان، وهو ما دفع صحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) للقول إنه “لا أدل على العلاقة الحميمية بين الروس والمؤسسات البريطانية من يفغيني ليبيديف”.
وكانت لجنة الأمن والاستخبارات في البرلمان قد حثت الحكومة على إغلاق ما أسمتها “مغسلة لندن”. وقال رئيسها النائب المحافظ توم توغينات : “حماية بريطانيا تعني حمايتنا من الفساد الخارجي، ونحن لسنا بحاجة للولايات المتحدة كي تطلب منا ذلك”.
ويعزو البعض تأخير قانون الجريمة الاقتصادية لزعيم المجلس لجاكوب ريز- موغ، ويشيرون إلى أنه يرفض تخصيص وقت برلماني لمناقشة القانون.
ولفتت “التايمز” إلى أنّ ممثلي الحكومة البريطانية رفعوا علامة النصر فوق نيويورك عندما قرر رجال الأعمال الروس اختيار السوق المالي في لندن لاستثمار أموالها.
وقال توم كيتنغ من مركز دراسات الجريمة المالية والأمن في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في مناقشة أمام البرلمان في العام 2017: “فرشنا السجادة للمال” و”لم نشعر بالقلق من هذه الأموال، ولم نر فيها خطرا أمنيا”.
أصدرت لجنة الأمن والاستخبارات تقريرا في العام 2020 أكدت فيه ما حذر منه الناشطون لسنوات عدة، إذ أكدت “أن الاوليغارش الروس يدينون بثرواتهم الطائلة إلى العلاقة مع الكرملين وبوتين بالتحديد، ونجحوا مع ذلك بشراء العقارات والممتلكات و الشركات البريطانية وبطريقة لا رجعة فيها، وفي هذا كله استخدموا المال المسروق من الدولة الروسية”.
لماذا تستمر الدبلوماسية الغربية مع روسيا بالفشل؟
المحلل الاميركي ديفيد إغناطيوس يشير في مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست” “إن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين يخوضون سباقا مع الزمن لتزويد أوكرانيا بالأسلحة والذخيرة الكافية لوقف هجوم الموجة الثانية الضاري الذي شنته روسيا ضد الجزء الشرقي من البلاد”. وأضاف: “القادة العسكريون الأمريكيون يعتقدون أن الأسبوعين أو الأربعة أسابيع القادمة ستكون حاسمة. إذا لم يتمكن الروس من التغلب على القوات الاوكرانية في الشرق، فسوف يتبع ذلك مأزق دموي طويل، وتؤدي العقوبات إلى إعاقة الاقتصاد الروسي والخسائر المتزايدة إلى إضعاف معنويات الجيش وتؤجج الانقسامات في المجتمع الروسي وفي أوساط النخبة الحاكمة”. وقال إغناطيوس إن ما ينتظرنا في أوكرانيا هي معركة وحشية للأسلحة التقليدية، تذكرنا بمعركة الدبابات والمدفعية التي تم خوضها عبر السهوب الأوكرانية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن من المستحيل التنبؤ بالنتيجة والمخاطر هائلة. هذه المعركة ستحدد
ليس فقط مستقبل أوكرانيا، بل ميزان أوروبا لعقود قادمة. ولعل أكثر ما يثير الاهتمام ويلفت الانتباه الى ما ينتظر العالم خلال الأسابيع القليلة المقبلة، هو التحذير الذي أطلقه مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز الأسبوع الماضي قائلاً: “بالنظر إلى اليأس المحتمل للرئيس بوتين والقيادة الروسية… لا يمكن لأي منا أن يتعامل باستخفاف مع التهديد الذي يمثله اللجوء المحتمل إلى الأسلحة النووية التكتيكية أو الأسلحة النووية منخفضة القوة”.
إقرأوا أيضاً: