الحدث ليلة أمس، لم يكن انقضاض شرطة مجلس النواب على المتظاهرين، ولا إحراق مناصري رئيس المجلس النيابي خيماً في ساحة الشهداء، ولا عمليات الكر والفر بين المتظاهرين والقوى الأمنية، فهذه وقائع غير جديدة، شهدنا مثلها لا سيما الأول من أمس. الحدث ليلة الأحد كان وصول محتجين من طرابلس وعكار إلى ساحة الشهداء وإعلانهم على الملأ أنهم لا يريدون سعد الحريري، وأن الأخير ليس خارج معادلة “كلن يعني كلن”.
لهذا المشهد مضمون سياسي كبير، وهو عطل مقولة أن تظاهرة ليل الأحد كانت طائفية. الثورة يوم الأحد كانت نفسها على نحوٍ لم تكنه طوال الأيام الستين الفائتة. هذه الحقيقة هي ما أشعل غضب خصومها، أكثر مما أشعله شعار “حرامي حرامي نبيه بري حرامي”، ذاك أن هذا الشعار يستجيب للكثير من الرغبات في جعل الانقسام المذهبي علامة هذه الانتفاضة ومعلمها. أما أن يأتي أهل عكار ويقولوا: “سعد سعد سعد ما تحلم فيها بعد”، فإن هذا سيكون علامة تحصن الانتفاضة من أي شبهة يسعى أهل النظام وإعلامه إلى تثبيتها. نزل الشماليون أمس، إلى بيروت وعجز أهل الممانعة عن اتهام سعد الحريري بتحريك الشارع للضغط على المشاورات في القصر الجمهوري. نزلوا ليقولوا لسعد الحريري “ارحل”، تماماً بالحماسة التي قالوا فيها لعون ولبري “ارحلا”.
“المؤامرة” لم تحظَ أمس، بفرصة لكي تكون خلفية المشهد. وما عزز ارتباكها مشهد موازٍ في الجامعة الأميركية في بيروت، هناك حيث طلب الحاضرون في حفلة موسيقية من رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيوة مغادرة الحفل فوراً. وفي هذه الحال، كان من الصعب على إعلام الممانعة أن يصدر صبيحة يوم الإثنين كلاماً محملاً بالشكوك والارتياب، لا بل أن هذا الاعلام خسر جولة في حربه على الانتفاضة. لكن الغريب أنه خسر الجولة بفعل استهداف الثورة خصومه التقليديين. فطرد فؤاد السنيورة من حفل موسيقى كان من المفترض أن يكون برداً وسلاماً بالنسبة إلى خصوم السنيورة ممن سبق أن جعلوا من الرجل عدوهم الأول، لكن المفارقة أن الواقعة أفقدتهم جوهر خطابهم في مواجهة الانتفاضة، أي ادعاءهم أنها ثورة ضد “حزب الله”.
نعم على السنيورة أن يشعر بأنه لا يستطيع حضور حفل فني في بيروت، وعلى بري أن يسمع أصوات الناس الذين يتهمونه بالسطو على دولتهم، وعلى ميشال عون أن يمضي ما تبقى له في القصر خائفاً. وعلى المصارف أن تتنازل عن أرباحها في السنوات الثلاث الأخيرة. أما “حزب الله”، فمأزقه أكبر
ها هي الانتفاضة تستهدف خصوم الحزب، ممن صورهم الأخير عملاء أبديين للغرب وللخليج. واللبنانيون إذ انتفضوا ضد فساد هؤلاء اكتشفوا أيضاً أن النظام الذي يضمهم إلى “حزب الله” وإلى التيار العوني سيكون حصن الحريري والسنيورة الأخير، تماماً كما هو حصن جماعة “8 آذار”.
بالأمس، أطاح أهل الشمال (السنة) بالمشاورات التي كانت ستفضي إلى تسمية الحريري، وصفقوا حين شاهدوا فؤاد السنيورة مغادراً الجامعة الأميركية. واليوم صباحاً، عجزت صحف الممانعة وتلفزيوناتها عن تصوير حدث الساحة بصفته مشهداً فئوياً، وتعطلت معادلة شارع في مقابل آخر. وهذا الأمر يلقي بأعباء كبيرة على آلة التجييش المذهبية التي تعمل في الشارع الشيعي، ذاك أنها فقدت ثيمتها الرئيسة المتمثلة بمقولة “الطائفة المستهدفة بمؤامرات الخارج”.
الأرجح أن عطلاً بدأ يصيب خطاب الانقسام جراء فقدانه “أعداء الداخل”، ذاك أن شرط اشتغاله هو مشهد الاستقطاب العتيد ومعادلة “شارع في مقابل شارعٍ”.
نعم الحريرية كانت الشريك الضروري لكي يستقيم لبنان في وظائفه التي حددها له نظام ما بعد الطائف. هذا الأمر استمر إلى ما بعد اغتيال رفيق الحريري، على رغم كل ما أعقب هذا الاغتيال من انقسامات. لا بل أن اغتيال الحريري حصل في لحظة قرر فيها الرجل الخروج من القواعد التي حددها له هذا النظام. أما ابنه، سعد، فقد عاد وانتظم في آلته، وصار جزءاً رئيساً فيها، وذروة هذا الانتظام كانت في تشكيله الحكومة التي أسقطتها الانتفاضة.
التمسك بالحريري اليوم هو تمسك النظام بهذه الآلية، وهي آلية إضافة إلى عدم صلاحها في هذه المرحلة، تنطوي على معدلات هائلة من الفساد والفشل، والأهم أنها تولت مهمة بمنتهى القذارة، تمثلت بالسطو على ودائع اللبنانيين ومدخراتهم مستعينة بنظام مصرفي كان شريكها في عملية السطو، وهو اليوم حاضر ناضر في مشهد الاحتقان، لا يشعر أصحابه بالخجل من قصة السرقة المعلنة التي نفذوها.
نعم على السنيورة أن يشعر بأنه لا يستطيع حضور حفل فني في بيروت، وعلى بري أن يسمع أصوات الناس الذين يتهمونه بالسطو على دولتهم، وعلى ميشال عون أن يمضي ما تبقى له في القصر خائفاً. وعلى المصارف أن تتنازل عن أرباحها في السنوات الثلاث الأخيرة. أما “حزب الله”، فمأزقه أكبر، ذاك أنه مقتنع بأن مثلث الفساد هذا يؤمِن له حاضنة لموقعه ووظيفته وسلاحه.