fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

حسام موافي: هجر الطب وعادى “أبو لهب”!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تحقيق الألم وتعيين المرض، بل ونقله الى الحيز الاجتماعي باعتباره وصمة ضمن سياق عدم الالتزام بالطاعة الدينية، ليس عفوياً في خطاب موافي، بل هو يصنع شبكة معقدة من الآليات الانضباطية والعقابية التي تؤدي أثرها اللامرئي، وتتوغل في الوجود الاجتماعي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“الدجل هو اللعب الذكي بآمال الناس ورغباتهم”، بهذه الكلمات الموجزة في الفيلم المصري “البيضة والحجر”، كان “مستطاع”، مدرس الفلسفة الذي جسّد دوره الفنان أحمد زكي، يفك شيفرة الخرافة وصناعها، أو بالأحرى أباطرتها، وهم يلعبون “لعبتهم الربانية” على عنق مخاوف وهواجس البشر وهزائمهم.

بخلاف الفيلم المصري، يبدو صعباً، في غياب الصورة (الواقعية وليست الدرامية تلك المرة) الكاملة، أن نعرف ما إذا كانت انعطافة الطبيب المصري، الدكتور حسام موافي، نحو خلط الدين بالعلم والقرآن بالطب، جاءت طوعاً أو كرهاً.

ليس مهماً فهم الميول الحادة والشخصية لأستاذ طب الحالات الحرجة في القصر العيني، والذي انتقل من كونه ضيفاً في برنامج للإعلامي محمود سعد، ويتناول قضايا طبية، ويرد على أسئلة المرضى والمتعبين، وأحياناً يمرر نبرة دينية خفيّة ومستترة في خطابه الطبي، إلى مقدم برنامج خاص بعنوان: “رب زدني علماً”.

الفارق أنّ الخلط التلفيقي والسحري بين الطب والقرآن، أو بالأحرى صحة الإيمان وسلامة الأبدان، لم يعد كما في السابق محدوداً، ويتم تمريره بالتلميح وعلى استحياء، لاختبار تأثيراته في المجال العام، إنّما بات صريحاً فجّاً.

أمسى هذا الخلط الفجّ يحمل صخب الإيمان الفوضوي التكفيري، بمعناه الطائفي المتشنج. ولطالما حاز المعرفة المطلقة والحقيقة التامة من دون نقاش أو احتمال بدائل.

سبق لموافي أن اتهم من هاجموه، عندما قال إن “المرض النفسي لا يصيب مؤمناً”، وأن “المتدين لا يقلق ومن ثم لا يصاب بالاكتئاب”، بأنهم فئة “لما تجيب سيرة الدين الارتكاريا تحصل”.

الدور الذي يؤديه الطبيب المصري يتقاطع مع مشهد عام، تتراكم فيه إغراءات صناعة المكانة المتوهّمة عبر استثمار فائض المقدسات والسيولة الدينية اللتين يتم توظيفهما هذه المرة عيادياً.

داخل عيادة الطبيب “الفضائية” ومع مشاهديه الافتراضيين، يباشر وصايته من خلال خطاب يبدو سهلاً ومرناً وشعبوياً، إلا أنه قائم على المصادرة والقمع والتنكيل.

وفي ما يبدو، ثمة رغبة محمومة في إعادة إنتاج وصناعة شخصية مماثلة للطبيب المصري، مصطفى محمود، صاحب البرنامج التلفزيوني: “العلم والإيمان”، نهاية سبعينات القرن الماضي، والذي لاقى قبولاً هائلاً بين الجماهير، بينما شكل وعي فئات ليست بالقليلة من الطبقات المتعلمة في فترة الصحوة الدينية، وصعود أفكار جماعات الإسلام السياسي. 

فالإلحاح، هنا، على شخصية يكون في مقدورها تقديم اليقين السهل الهادئ، وعدم تشتيت العقل في التفكير أو الاستغراق في الجدل والتشكيك. ويكاد لا يختلف كل منهما، على رغم تباعد الزمن واختلاف السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية، في المنهج أو حتى الموضوعات التي يتم تداولها بهدف الوصول الى النتيجة ذاتها، وهي ترميم الفجوات التي تتّسع بفعل الأزمات المختلفة، وتأثيراتها على الهوية والذات.

المثير للسخرية والامتعاض، أن موافي لم يشن هجومه على الشيوعية كما كانت نسخته الأقدم تعمل بفعل الصراعات الرائجة، آنذاك، مع الإسلام السياسي ووجود الاتحاد السوفياتي، بل قطع شوطاً أبعد من ذلك، واستدعى عم الرسول، أبي لهب، واعتبره “أغبى إنسان في العالم”. وذلك لكونه رفض الدعوة المحمدية وممانعته الشديدة للإيمان بالإسلام.

وبغض النظر عن مراجعة أو تقييم الشخصية التاريخية لأبي لهب، وكذا المعارضين لأفكار الطبيب المصري وتشخيص حالتهم بـ”الارتكاريا”، فإن أفكار الدكتور موافي لا تتوانى عن تعميم الاستقطابات الطائفية المتشددة، بالرؤية ذاتها التي تتبناها أدبيات الجماعات الإسلاموية، ويتشظى داخلها العالم إلى معسكرين، حتى وإن لم يقل صراحة “دار الإسلام” و”دار الحرب”.

يروج موافي بصيغة حمولتها التشكيك، أنه “حتى الآن لا توجد دراسات طبية أو علمية دقيقة عن الصيام، وأن ذلك يرجع إلى أن العلم المنتشر في العالم العربي مستمد من أوروبا”.

وقال: “للأسف الشديد، علمنا كله من أوروبا وأميركا، ولا توجد دراسات عن الصيام وتأثيره على القلب والرئة والكبد والمخ”، رافضاً بشدة أن تكون للصيام تأثيرات سلبية تؤذي صحة الإنسان، لا لشيء سوى أنه “لا يمكن ربنا هيفرض على الإنسان شيء يؤذيه على الإطلاق”.

التعاطي المشبوه مع الدراسات العلمية، لمجرد أن مصدرها أو مرجعيتها المعرفية في بيئة تبدو “معادية”، وفق أستاذ الحالات الحرجة بالقصر العيني، على رغم وفرة الدراسات الطبية والعلمية بخصوص الصيام في الغرب، إنما يهدف إلى وضع العلم على رف “الأطعمة الحلال”.

الدور الذي يؤديه الطبيب المصري يتقاطع مع مشهد عام، تتراكم فيه إغراءات صناعة المكانة المتوهّمة عبر استثمار فائض المقدسات والسيولة الدينية اللتين يتم توظيفهما هذه المرة عيادياً.

المرض بالتعريف هو “علة” أو خلل في الجسد، قد يكون عرضياً أو مزمناً، وأسبابه عدة، بعضها وراثي أو عدوى خارجية. لكنه، في خطاب موافي، وسيلة لضمان جسد اجتماعي منضبط، استغرقه التأديب والخوف.

كما أن المرض المباغت في خطاب الطبيب المصري، الذي ربما يحدث في “الساعة 8 صباحاً”، وفق دراسات، حسب زعمه، في إشارة تحديداً إلى جلطة المخ أو القلب، وتجنّب حدوثها يتطلب “الاستيقاظ من النوم ثم الرجوع إليه مجدداً، أو الوقوف والحركة ثم العودة إلى النوم”، قد يبدو مزحة سمجة.

غير أنه، في حقيقة الأمر، يؤشر إلى مستوى خطابه الذي يبطن وسائله غير المعلنة لتحقيق الطاعة، واستمالة الوعي الغرائزي ناحية الخوف الى أقصى درجة.

يقول موافي: “أنا كنت في هذا المؤتمر ولما سمعت الكلام ده خرجت برا القاعة وسجدت ركعتين شكر لله، وده يعلمنا إن صلاة الفجر بتمنعنا من حاجات كتير، سبحان الله فالصلاة خير من النوم حقاً، فصلاة الفجر حماية لينا جميعاً”.

زعم موافي أن الكثير من العلماء في مجال الطب اتفقوا كذلك على هذه النقطة، مشيراً إلى الدكتور مجدي يعقوب. والإشارة، هنا، التي ذكرها الطبيب المصري في برنامجه بخصوص مجدي يعقوب، بعيداً عن صحتها من عدمها، لها دلالة طائفية، ووجودها في هذا السياق، بشكل متعسف، يفضح دورها الوظيفي على طريقة بعض مشايخ السلفية بأن “الإنجيل يعترف أو تنبأ بنبوة محمد”.

تحقيق الألم وتعيين المرض، بل ونقله الى الحيز الاجتماعي باعتباره وصمة ضمن سياق عدم الالتزام بالطاعة الدينية، ليس عفوياً في خطاب موافي، بل هو يصنع شبكة معقدة من الآليات الانضباطية والعقابية التي تؤدي أثرها اللامرئي، وتتوغل في الوجود الاجتماعي.

الجسد المسكون بالهواجس والألم، في المصحة العقلية كما في العيادة أو داخل الحبس، هو سيرة شاقة لم تنقطع في التاريخ، وظل طقساً عنيفاً تتناوب عليه السلطة، أي سلطة، بهدف نزع حريته وتحقيق الانضباط الاجتماعي المتوقع والذي لا يمثل أي تهديد لأي قوى تاريخية أو سياسية.

ومن خلال الخطابات المماثلة التي ينشرها موافي، تتشكل ذوات ضعيفة، وهويات هشة، وأجساد لينة. فالجسد، الذي يتم انتزاع حريته، انتزاع الاعترافات/ الاستجوابات منه، بالطرق العقابية التقليدية أو التقنيات المغايرة وغير المباشرة، يخضع للتهميش والتحقير، ويتم وضعه في مرمى المرض والألم والموت والفناء. فيضحى موضوعاً للاستثمار السياسي والأيديولوجي، لصنع الألم والتأديب وفرض إكراهات الطاعة وإرادة القوة.

المريض النفسي المنتحر أو المتخلي عن صلاته وأصابته الجلطة الدماغية أو القلبية، كما يروج الطبيب المصري، توصيفات لا تعدو كونها أكثر من حيل عيادية، لنشر الألم وصنع مشاهد التعذيب، علانية، بقسوة واحترافية، لتغذية أو ملء الخوف في شرايين الجسد الاجتماعي.

موافي الذي سبق وقال “المرض النفسي لا يصيب مؤمناً، والمتدين لا يقلق ومن ثم لا يصاب بالاكتئاب، والشخص المؤمن، المسلم والمسيحي، أقل عرضة للإصابة بالمرض النفسي”، إنما يراكم أجساداً موصومة بالتحقير والانحراف، أو تحت الوصاية والتهديد الدائمين بعدم الاعتراف والنفي من المجال العام. وذلك لحساب أجساد أخرى تقع ضمن مجال النفوذ، ويكون من السهل استردادها، وحيازتها أو امتلاكها، بل تعبر عن قيمه ولغته. فالجسد هنا عبارة عن ذاكرة مجتمعية، تحمل تأثيرات متباينة وخطابات سياسية وتاريخية متفاوتة.

من بين الحيل التلفيقية التي يمارسها الدكتور حسام موافي، حديثه في إحدى حلقاته عن كتاب اشتراه و”يتكون من 400 صفحة، وكان باهظ الثمن وسعره بالدولار”. وعنوان الكتاب: «water». لكن الكتاب، الذي امتدت قراءته نحو شهر، وجد شيخ المسجد يقوله في أربع كلمات أثناء تلاوة إحدى آيات القرآن بصلاة الفجر ذاتها التي تقي من الجلطات.

الكتاب، وفق الطبيب المصري، يتناول مسألة “تخفيف المياه لمكونات الدم، إذ زادت على حدها المطلوب، ما قد يودي بحياة الإنسان. فعند دخول المياه، هناك 4 أعضاء هي ( القلب والكبد والكلى والمخ) تفزع للتخلص من هذه المياه، والجسم السليم لا يخزن الماء”.

وتابع: “خلصت الكتاب وسجدت لله شكراً إني فهمته، وبعدها نزلت أصلي لقيت إمام المسجد بيقول الكتاب في 4 كلمات”، وذلك في الآية الكريمة (وأرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ).

أسبقية القرآن في المعرفة، سواء كانت علمية طبية وفي الفلك، أو قانونية حقوقية وتشريعية، أو في مجالات العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية، لها هي الأخرى سوابق عدة ومريرة مع آخرين، أشهرهم مصطفى محمود وزغلول النجار، وكأنما التاريخ لا يمل في دائريته أن يكرر نفسه “مرة على هيئة مأساة ومرات أخرى في هيئة ملهاة”، بتعبير الفيلسوف الألماني كارل ماركس.

ولا تختلف هذه المواقف عما سبق وذكره الطبيب ذاته بخصوص مشاهداته اللافتة والمثيرة (؟!) في شوارع باريس، للدلالة على الإسلام المنتشر في الغرب، في حين يغيب بين المسلمين، وذلك على طريقة “وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين”.

قال موافي، إنه رصد نسبة العبوس، في فرنسا، خلال زيارته لها، منذ 15 عاماً. إذ وجد نحو 96 في المئة من المواطنين في شوارع فرنسا يبتسمون، في حين وجد 4 في المئة فقط عابسي الوجه، مشيراً إلى الحديث المنسوب الى النبي: “قال رسول الله ﷺ: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”، وعقّب قائلًا: “أقسم بالله طول ما أنت ماشي في فرنسا تجد هذا الحديث”.

حذر موافي، من مخاطر “الجري” عند التوجه إلى ‏الصلاة بالمسجد، لأنها تؤدي الى ارتفاع ضغط الدم‎، ونصح متابعيه، في البرنامج ذاته، بالالتزام بالسنة النبوية وفق الحديث المنسوب الى النبي: “إذا ‏أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم ‏فأتموا”.‏

عدم الانعتاق من هذا التاريخ الدائري الاجتراري، يبدو مثل “عقدة” طفولية، تؤدي حتماً إلى “ميل الطفل إلى أمثلة الراشد (التراث/ الدين) وإعارته قدرة كلية وسحرية”، حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي، جيرار ماندل.

01.05.2024
زمن القراءة: 7 minutes

تحقيق الألم وتعيين المرض، بل ونقله الى الحيز الاجتماعي باعتباره وصمة ضمن سياق عدم الالتزام بالطاعة الدينية، ليس عفوياً في خطاب موافي، بل هو يصنع شبكة معقدة من الآليات الانضباطية والعقابية التي تؤدي أثرها اللامرئي، وتتوغل في الوجود الاجتماعي.

“الدجل هو اللعب الذكي بآمال الناس ورغباتهم”، بهذه الكلمات الموجزة في الفيلم المصري “البيضة والحجر”، كان “مستطاع”، مدرس الفلسفة الذي جسّد دوره الفنان أحمد زكي، يفك شيفرة الخرافة وصناعها، أو بالأحرى أباطرتها، وهم يلعبون “لعبتهم الربانية” على عنق مخاوف وهواجس البشر وهزائمهم.

بخلاف الفيلم المصري، يبدو صعباً، في غياب الصورة (الواقعية وليست الدرامية تلك المرة) الكاملة، أن نعرف ما إذا كانت انعطافة الطبيب المصري، الدكتور حسام موافي، نحو خلط الدين بالعلم والقرآن بالطب، جاءت طوعاً أو كرهاً.

ليس مهماً فهم الميول الحادة والشخصية لأستاذ طب الحالات الحرجة في القصر العيني، والذي انتقل من كونه ضيفاً في برنامج للإعلامي محمود سعد، ويتناول قضايا طبية، ويرد على أسئلة المرضى والمتعبين، وأحياناً يمرر نبرة دينية خفيّة ومستترة في خطابه الطبي، إلى مقدم برنامج خاص بعنوان: “رب زدني علماً”.

الفارق أنّ الخلط التلفيقي والسحري بين الطب والقرآن، أو بالأحرى صحة الإيمان وسلامة الأبدان، لم يعد كما في السابق محدوداً، ويتم تمريره بالتلميح وعلى استحياء، لاختبار تأثيراته في المجال العام، إنّما بات صريحاً فجّاً.

أمسى هذا الخلط الفجّ يحمل صخب الإيمان الفوضوي التكفيري، بمعناه الطائفي المتشنج. ولطالما حاز المعرفة المطلقة والحقيقة التامة من دون نقاش أو احتمال بدائل.

سبق لموافي أن اتهم من هاجموه، عندما قال إن “المرض النفسي لا يصيب مؤمناً”، وأن “المتدين لا يقلق ومن ثم لا يصاب بالاكتئاب”، بأنهم فئة “لما تجيب سيرة الدين الارتكاريا تحصل”.

الدور الذي يؤديه الطبيب المصري يتقاطع مع مشهد عام، تتراكم فيه إغراءات صناعة المكانة المتوهّمة عبر استثمار فائض المقدسات والسيولة الدينية اللتين يتم توظيفهما هذه المرة عيادياً.

داخل عيادة الطبيب “الفضائية” ومع مشاهديه الافتراضيين، يباشر وصايته من خلال خطاب يبدو سهلاً ومرناً وشعبوياً، إلا أنه قائم على المصادرة والقمع والتنكيل.

وفي ما يبدو، ثمة رغبة محمومة في إعادة إنتاج وصناعة شخصية مماثلة للطبيب المصري، مصطفى محمود، صاحب البرنامج التلفزيوني: “العلم والإيمان”، نهاية سبعينات القرن الماضي، والذي لاقى قبولاً هائلاً بين الجماهير، بينما شكل وعي فئات ليست بالقليلة من الطبقات المتعلمة في فترة الصحوة الدينية، وصعود أفكار جماعات الإسلام السياسي. 

فالإلحاح، هنا، على شخصية يكون في مقدورها تقديم اليقين السهل الهادئ، وعدم تشتيت العقل في التفكير أو الاستغراق في الجدل والتشكيك. ويكاد لا يختلف كل منهما، على رغم تباعد الزمن واختلاف السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية، في المنهج أو حتى الموضوعات التي يتم تداولها بهدف الوصول الى النتيجة ذاتها، وهي ترميم الفجوات التي تتّسع بفعل الأزمات المختلفة، وتأثيراتها على الهوية والذات.

المثير للسخرية والامتعاض، أن موافي لم يشن هجومه على الشيوعية كما كانت نسخته الأقدم تعمل بفعل الصراعات الرائجة، آنذاك، مع الإسلام السياسي ووجود الاتحاد السوفياتي، بل قطع شوطاً أبعد من ذلك، واستدعى عم الرسول، أبي لهب، واعتبره “أغبى إنسان في العالم”. وذلك لكونه رفض الدعوة المحمدية وممانعته الشديدة للإيمان بالإسلام.

وبغض النظر عن مراجعة أو تقييم الشخصية التاريخية لأبي لهب، وكذا المعارضين لأفكار الطبيب المصري وتشخيص حالتهم بـ”الارتكاريا”، فإن أفكار الدكتور موافي لا تتوانى عن تعميم الاستقطابات الطائفية المتشددة، بالرؤية ذاتها التي تتبناها أدبيات الجماعات الإسلاموية، ويتشظى داخلها العالم إلى معسكرين، حتى وإن لم يقل صراحة “دار الإسلام” و”دار الحرب”.

يروج موافي بصيغة حمولتها التشكيك، أنه “حتى الآن لا توجد دراسات طبية أو علمية دقيقة عن الصيام، وأن ذلك يرجع إلى أن العلم المنتشر في العالم العربي مستمد من أوروبا”.

وقال: “للأسف الشديد، علمنا كله من أوروبا وأميركا، ولا توجد دراسات عن الصيام وتأثيره على القلب والرئة والكبد والمخ”، رافضاً بشدة أن تكون للصيام تأثيرات سلبية تؤذي صحة الإنسان، لا لشيء سوى أنه “لا يمكن ربنا هيفرض على الإنسان شيء يؤذيه على الإطلاق”.

التعاطي المشبوه مع الدراسات العلمية، لمجرد أن مصدرها أو مرجعيتها المعرفية في بيئة تبدو “معادية”، وفق أستاذ الحالات الحرجة بالقصر العيني، على رغم وفرة الدراسات الطبية والعلمية بخصوص الصيام في الغرب، إنما يهدف إلى وضع العلم على رف “الأطعمة الحلال”.

الدور الذي يؤديه الطبيب المصري يتقاطع مع مشهد عام، تتراكم فيه إغراءات صناعة المكانة المتوهّمة عبر استثمار فائض المقدسات والسيولة الدينية اللتين يتم توظيفهما هذه المرة عيادياً.

المرض بالتعريف هو “علة” أو خلل في الجسد، قد يكون عرضياً أو مزمناً، وأسبابه عدة، بعضها وراثي أو عدوى خارجية. لكنه، في خطاب موافي، وسيلة لضمان جسد اجتماعي منضبط، استغرقه التأديب والخوف.

كما أن المرض المباغت في خطاب الطبيب المصري، الذي ربما يحدث في “الساعة 8 صباحاً”، وفق دراسات، حسب زعمه، في إشارة تحديداً إلى جلطة المخ أو القلب، وتجنّب حدوثها يتطلب “الاستيقاظ من النوم ثم الرجوع إليه مجدداً، أو الوقوف والحركة ثم العودة إلى النوم”، قد يبدو مزحة سمجة.

غير أنه، في حقيقة الأمر، يؤشر إلى مستوى خطابه الذي يبطن وسائله غير المعلنة لتحقيق الطاعة، واستمالة الوعي الغرائزي ناحية الخوف الى أقصى درجة.

يقول موافي: “أنا كنت في هذا المؤتمر ولما سمعت الكلام ده خرجت برا القاعة وسجدت ركعتين شكر لله، وده يعلمنا إن صلاة الفجر بتمنعنا من حاجات كتير، سبحان الله فالصلاة خير من النوم حقاً، فصلاة الفجر حماية لينا جميعاً”.

زعم موافي أن الكثير من العلماء في مجال الطب اتفقوا كذلك على هذه النقطة، مشيراً إلى الدكتور مجدي يعقوب. والإشارة، هنا، التي ذكرها الطبيب المصري في برنامجه بخصوص مجدي يعقوب، بعيداً عن صحتها من عدمها، لها دلالة طائفية، ووجودها في هذا السياق، بشكل متعسف، يفضح دورها الوظيفي على طريقة بعض مشايخ السلفية بأن “الإنجيل يعترف أو تنبأ بنبوة محمد”.

تحقيق الألم وتعيين المرض، بل ونقله الى الحيز الاجتماعي باعتباره وصمة ضمن سياق عدم الالتزام بالطاعة الدينية، ليس عفوياً في خطاب موافي، بل هو يصنع شبكة معقدة من الآليات الانضباطية والعقابية التي تؤدي أثرها اللامرئي، وتتوغل في الوجود الاجتماعي.

الجسد المسكون بالهواجس والألم، في المصحة العقلية كما في العيادة أو داخل الحبس، هو سيرة شاقة لم تنقطع في التاريخ، وظل طقساً عنيفاً تتناوب عليه السلطة، أي سلطة، بهدف نزع حريته وتحقيق الانضباط الاجتماعي المتوقع والذي لا يمثل أي تهديد لأي قوى تاريخية أو سياسية.

ومن خلال الخطابات المماثلة التي ينشرها موافي، تتشكل ذوات ضعيفة، وهويات هشة، وأجساد لينة. فالجسد، الذي يتم انتزاع حريته، انتزاع الاعترافات/ الاستجوابات منه، بالطرق العقابية التقليدية أو التقنيات المغايرة وغير المباشرة، يخضع للتهميش والتحقير، ويتم وضعه في مرمى المرض والألم والموت والفناء. فيضحى موضوعاً للاستثمار السياسي والأيديولوجي، لصنع الألم والتأديب وفرض إكراهات الطاعة وإرادة القوة.

المريض النفسي المنتحر أو المتخلي عن صلاته وأصابته الجلطة الدماغية أو القلبية، كما يروج الطبيب المصري، توصيفات لا تعدو كونها أكثر من حيل عيادية، لنشر الألم وصنع مشاهد التعذيب، علانية، بقسوة واحترافية، لتغذية أو ملء الخوف في شرايين الجسد الاجتماعي.

موافي الذي سبق وقال “المرض النفسي لا يصيب مؤمناً، والمتدين لا يقلق ومن ثم لا يصاب بالاكتئاب، والشخص المؤمن، المسلم والمسيحي، أقل عرضة للإصابة بالمرض النفسي”، إنما يراكم أجساداً موصومة بالتحقير والانحراف، أو تحت الوصاية والتهديد الدائمين بعدم الاعتراف والنفي من المجال العام. وذلك لحساب أجساد أخرى تقع ضمن مجال النفوذ، ويكون من السهل استردادها، وحيازتها أو امتلاكها، بل تعبر عن قيمه ولغته. فالجسد هنا عبارة عن ذاكرة مجتمعية، تحمل تأثيرات متباينة وخطابات سياسية وتاريخية متفاوتة.

من بين الحيل التلفيقية التي يمارسها الدكتور حسام موافي، حديثه في إحدى حلقاته عن كتاب اشتراه و”يتكون من 400 صفحة، وكان باهظ الثمن وسعره بالدولار”. وعنوان الكتاب: «water». لكن الكتاب، الذي امتدت قراءته نحو شهر، وجد شيخ المسجد يقوله في أربع كلمات أثناء تلاوة إحدى آيات القرآن بصلاة الفجر ذاتها التي تقي من الجلطات.

الكتاب، وفق الطبيب المصري، يتناول مسألة “تخفيف المياه لمكونات الدم، إذ زادت على حدها المطلوب، ما قد يودي بحياة الإنسان. فعند دخول المياه، هناك 4 أعضاء هي ( القلب والكبد والكلى والمخ) تفزع للتخلص من هذه المياه، والجسم السليم لا يخزن الماء”.

وتابع: “خلصت الكتاب وسجدت لله شكراً إني فهمته، وبعدها نزلت أصلي لقيت إمام المسجد بيقول الكتاب في 4 كلمات”، وذلك في الآية الكريمة (وأرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ).

أسبقية القرآن في المعرفة، سواء كانت علمية طبية وفي الفلك، أو قانونية حقوقية وتشريعية، أو في مجالات العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية، لها هي الأخرى سوابق عدة ومريرة مع آخرين، أشهرهم مصطفى محمود وزغلول النجار، وكأنما التاريخ لا يمل في دائريته أن يكرر نفسه “مرة على هيئة مأساة ومرات أخرى في هيئة ملهاة”، بتعبير الفيلسوف الألماني كارل ماركس.

ولا تختلف هذه المواقف عما سبق وذكره الطبيب ذاته بخصوص مشاهداته اللافتة والمثيرة (؟!) في شوارع باريس، للدلالة على الإسلام المنتشر في الغرب، في حين يغيب بين المسلمين، وذلك على طريقة “وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين”.

قال موافي، إنه رصد نسبة العبوس، في فرنسا، خلال زيارته لها، منذ 15 عاماً. إذ وجد نحو 96 في المئة من المواطنين في شوارع فرنسا يبتسمون، في حين وجد 4 في المئة فقط عابسي الوجه، مشيراً إلى الحديث المنسوب الى النبي: “قال رسول الله ﷺ: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”، وعقّب قائلًا: “أقسم بالله طول ما أنت ماشي في فرنسا تجد هذا الحديث”.

حذر موافي، من مخاطر “الجري” عند التوجه إلى ‏الصلاة بالمسجد، لأنها تؤدي الى ارتفاع ضغط الدم‎، ونصح متابعيه، في البرنامج ذاته، بالالتزام بالسنة النبوية وفق الحديث المنسوب الى النبي: “إذا ‏أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم ‏فأتموا”.‏

عدم الانعتاق من هذا التاريخ الدائري الاجتراري، يبدو مثل “عقدة” طفولية، تؤدي حتماً إلى “ميل الطفل إلى أمثلة الراشد (التراث/ الدين) وإعارته قدرة كلية وسحرية”، حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي، جيرار ماندل.