واحدة من أكثر الحقائق شهرة حول الهولوكوست، هي عدد الضحايا اليهود الذين قتلتهم ألمانيا النازية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. ربما من غير المستغرب أن يكون أيضاً رقم 6 ملايين، هو ما يستهدفه ناكرو الهولوكوست عندما يحاولون التشكيك في جوهر المسألة.
فمن أين جاء رقم “6 ملايين” هذا؟ وبالنظر إلى كمية الأبحاث الأصيلة التي أُنجِزت في العقود الأخيرة الماضية، هل ما زال العلماء المختصون في هذا الموضوع يعتبرونه دقيقاً؟
على ما يبدو، ذُكر الرقم للمرة الأولى الدكتور فيلهلم هوتيل، وهو ضابط نمساوي خدم في الرايخ الثالث (ألمانيا النازية)، وهو مؤرِّخ شغَلَ عدداً من المناصب العليا في وحدات “إس إس” (شوتزشتافل: منظمة كانت تابعة للحزب النازي الألماني، أنشئت عام 1925 وكلِّفت بمُهمِّة تأمين أدولف هتلر).

في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1945، كان هوتيل شاهدَ إثبات في محاكمات نورنبيرغ التي عقدت لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين. لاحقاً، في محاكمة أدولف أيخمان عام 1961 في إسرائيل، تحدَّث أيضاً من قاعة محكمة في النمسا مُحلَّفاً، وخضع لمجموعة مستفيضة من الأسئلة من قِبل الادِّعاء.
في الحالتين، وصَف هوتيل محادثةً دارت بينه وبين أيخمان -الضابط في وحدات شوتزشتافل الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية عن الترتيبات اللوجستية الخاصة بالإبادة الجماعية لليهود- في آب/ أغسطس من عام 1944 في بودابست. في شهادته عام 1961، تذكّر قائلاً إن “أيخمان أخبرني أنه، بحسب معلوماته، لقي حوالى 6 ملايين يهودي حتفَهم حتى ذلك الحين. مات 4 ملايين في معسكرات الاعتقال، أمّا الآخرون فمات بعضهم رمياً برصاص وحدات العمليات، أو لأسباب أخرى مثل الأوبئة، وغيرها”.
في موقعها على الإنترنت، استشهدت مؤسسة ياد فاشيم -مركز أبحاث الهولوكوست الرئيسي في إسرائيل- برقم أيخمان، ثم قالت إنّ التقديرات القديمة والحديثة التي أحصتها مجموعة من العلماء المختلفين، تراوحت بين 5 و6 ملايين.
وصل العلماء إلى مثل هذه التقديرات من خلال مقارنة بيانات التعداد السكاني في فترة ما قبل الحرب مع تقديرات عدد السكان التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم أن الألمان تعاملوا مع خططهم لإبادة اليهود، باعتبارها سراً حكومياً من الطراز الأول، فقد احتفظوا أيضاً بسجلات دقيقة لعمليات الترحيل والإعدام بالغاز؛ وتعدّ تلك السجلات أيضاً مصدراً بالغ الأهمية للبيانات.
في كتابه العتيق “إبادة اليهود الأوروبيين” The Destruction of the European Jews الصادر عام 1961، توصل راؤول هيلبيرغ -وهو من أوائل الباحثين- إلى رقم 5.1 مليون ضحية. وفي الطبعة الثالثة الصادرة عام 1985، قدَّم مُلحَقاً مطوَّلاً يشرح فيه كيفية حساب هذا الرقم التقديري.
وفي كتابها “الحرب على اليهود” The War Against the Jews الصادر عام 1975، لجأت لوسي دافيدوفيتش إلى سجلات المواليد والوفيات في فترة ما قبل الحرب، للتوصل إلى رقم أكثر دقة، والذي بلغ 5933900 ضحية. وقدَّم فولفغانغ بينز -أحد العلماء الألمان الأكثر موثوقية في هذا الموضوع- تقديراً يتراوح بين 5.3 إلى 6.2 مليون. في النهاية، استخدم كل واحد طريقته الخاصة للوصول إلى الرقم الإجمالي.
حتى مؤسسة ياد فاشيم نفسها تمتلك قاعدة بيانات إلكترونية خاصة بأسماء الضحايا، وهو مشروع مستمر تحاول من خلاله توثيق أسماء جميع الضحايا اليهود على يد النازيين. وتعتمد في ذلك على شهادات عائلات مَن قضوا وأصدقائهم، وعلى سجلّات وأرشيفات رسمية من هذه الفترة، ومعلومات من مشاريع تذكارية محلية. اعتباراً من مطلع 2012، قدَّرَت ياد فاشيم أنَّ قاعدةَ البيانات تضمّ ما يزيد قليلاً عن 4 ملايين فرد (لا يزال من غير الممكن تحديد الرقم الدقيق، لأن المؤسسة تعتقد أن مئات الآلاف من الأشخاص تتكرَّر أسماؤهم في السجلات).
عدد يتجاوز الإدراك
يعود أحد أكبر مصادر الغموض في هذه التقديرات إلى عدد اليهود الذين قُتلوا في الاتحاد السوفياتي. فبينما رُحِّل يهود الدول الأوروبية التي احتلّها الألمان إلى معسكرات الموت في الغالب، حيث كانت هناك سجلات جيدة إلى حد ما، نفذت عمليات القتل في الاتحاد السوفياتي، قوات أينزاتسغروبن (كتائب إعدام متنقلة)، بينما كان الجيش الألماني يشق طريقه شرقاً. ولأن سجلاتهم كانت أضيق وأقل شمولاً بكثير، فإنه يمكن فقط تقديم رقم تقريبي لأعداد القتلى اليهود: ما بين 800 ألف ومليون قتيل بشكل عام.
ربما يتجاوز إجمالي عدد عمليات القتل والإبادة التي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية حدودَ الإدراكِ البشريّ؛ إذ يُقدِّر المؤرخون أنَّ الخسائر العسكرية في كل الجهات -المسارح الأوروبية وساحات المحيط الهادئ- تجاوزت 25 مليون شخص، وتتراوح الخسائر في صفوف المدنيين بين 38 مليون شخص، إلى ما قد يصل إلى 55 مليون شخص، ما يعني أن ما بين 3 في المئة إلى 4 في المئة من إجمالي سكان العالم، لقوا حتفهم في هذا الصراع.
مع ذلك، يعدّ قتل يهود أوروبا فئةً مستقلة بذاتها، لا بسبب حجم الأعداد وإنما بسبب الأيديولوجية الكامنة وراء ذلك، والتي جعلت إبادةَ أمّةٍ بأكملها ومحوَ ثقافتها من على وجه الأرض أحدَ أهدافها الرئيسية. كان هذا أمراً فريداً من نوعه، لأن الدعاية النازية ركزت باهتمام على اليهود، باعتبارهم تقريباً سبباً خارقاً للشرور، وظلت آلة الحرب الألمانية مكرَّسة لقتل اليهود حتى آخر يوم في الحرب، وحتى بعد فترة طويلة من اكتشافهم بوضوح أنهم خسروا الحرب.
تتراوح الخسائر في صفوف المدنيين بين 38 مليون شخص، إلى ما قد يصل إلى 55 مليون شخص، ما يعني أن ما بين 3 في المئة إلى 4 في المئة من إجمالي سكان العالم، لقوا حتفهم في هذا الصراع.
بعبارة أخرى: كان قتل اليهود غاية في حد ذاته، وكان يستخدم لتحفيز الأمة الألمانية على تقديم تضحيات عظيمة.
مع ذلك، استُهدِفت جماعات وشعوب أخرى من قِبَل أيديولوجية الإقصاء النازية تلك؛ وكان الغجر أبرز تلك الفئات، مع تقديرات لأعداد القتلى تتراوح من 90 ألف إلى 1.5 مليون شخص. (أحد أسباب التباينات الشاسعة في التقديرات، يرجع إلى التكتُّم والصمت المتوارثين بين الغجر بخصوص ما عانوه وتحمَّلوه). تُعَدّ هذه الأعداد -نسبيّاً- مساويةً لِنسبة القتلى بين اليهود، بل حتى أعلى منها. لقد كان أسلوب حياة الترحال والبداوة -لا خلفيّتهم العرقيّة المفترَضة، وقد كانت آرِيّة- هو ما جعلهم أعداءً للنظام. وبالفعل، في أواخر عام 1943، تركّزت سياسة الإقصاء النازيّة على الغجر الرُحَّل غير المستقرّين، وأعلنوا أنّ أولئك الغجر الذين استقرّوا في مكان واحد سيُعامَلون وكأنهم مواطنون لذلك المكان.
إقرأ أيضاً: الجنس في المعتقدات اليهودية: كيف تعامل الحاخامات مع الأمر على مرّ الزمن؟
6 ملايين ليس رقماً دقيقاً، وإن من دون قصد. غير أنَّ الرقم الذي أصبح الآن جزءاً من الوعي الجماهيري لأكثر من 50 عاماً، ما كان ليستمر الاستشهاد به إذا لم يعكس حجم الحسابات العلمية التي أجريت في العقود التالية، وأكَّدَت هذا الرقم التقريبيّ.
هذا المقال مترجم عن haaretz.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.
لماذا يبعث كتاب “تفاهة الشر” الغضب في نفوس الإسرائيليين حتى الآن؟