الفكرة مرعبة حقاً، وهي تفوق في خطورتها ما أحدثته من قتلٍ وجرحٍ. فأن يتم تفخيخ نحو أربعة آلاف عنصر من حزب الله بكميات صغيرة من المتفجرات، وتفجيرهم بلحظة واحدة وعن بعد، فإن الأمر يتعدى الفشل الأمني. فمن ضغط على زر التفجير، فعل ذلك مع علمه أن الهدف غير مقتصر على من تم تفخيخهم، ذاك أنه يعرف أن هؤلاء في معظمهم يصرفون نهارهم برفقة عائلاتهم أو زملائهم أو هم يسيرون في الأسواق والمتاجر والشوارع، إلى جانب آخرين لا ناقة لهم ولا جمل بما يجري.
قضى القرار بإحداث نحو أربعة آلاف تفجير صغير. بنيامين نتانياهو وافق على العملية، إذاً هو من ضغط على زر التفجير. عن أي وعي صادر هذا الفعل، وعن أي أخلاق؟ فعناصر الحزب المستهدفون، في غالبيتهم، خارج الخنادق، والقرار بتصفيتهم يعني أن المطلوب ليس قتلهم، إنما أيضاً توسيع دائرة القتل لتشمل “بيئتهم” كما تُسمي الآلة الحربية الإسرائيلية أهل الضاحية الجنوبية لبيروت.
إنه الوعي الإبادي عينه، ذاك الذي تولى قتل أكثر من أربعين ألف فلسطيني في غزة. ثم إن استهداف “بيئة”، أي بيئة، من المفترض أن يكون جريمة حرب، ذاك أن الهدف يتعدى المقاتلين، وصولاً إلى أهلهم وأطفالهم، وصورتا الطفلين فاطمة عبدالله ومحمد كنج نموذجان عن حقيقة الاستهداف.
كان للانفجارات الصغيرة أثر مختلف هذه المرة، نوع من الاستهداف الانتقامي الذي يتعدى شروط القتل في الحرب. فقء الأعين وراءه نوع من التنكيل، وبتر الأصابع فيه قصاص يتعدى المقاتلين إلى أهلهم وذويهم، علماً أن الأعين والأصابع كانت أكثر ما أطاحت به الانفجارات الصغيرة.
لكن أوجه الرعب في المجزرة السيبرانية التي شهدها لبنان يوم الثلاثاء كثيرة، ومنها أن الخرق لم يعد حدثاً أمنياً يمكن تلخيصه بنجاح الموساد باختراق موضعي لأجهزة حزب الله، فحجم الخروقات الأمنية تحولت إلى حدث يصلح تناوله وتفسيره بما يتعدى الشروط الأمنية.
من الممكن أن تكون هذه الأجهزة أدوات لقتلنا، وإسرائيل سباقة على هذا الصعيد، لا بل إنها تبيع التكنولوجيا القاتلة لمن يريد من أشرار العالم.
نحن حيال مشهد سياسي أيضاً. الخرق صار أفقياً، ويبدو أن حزب الله ليس محصناً سياسياً منه. وهنا علينا أن نستعيد حقيقة أن الحزب ومنذ العام 2006 تحوّل إلى سلطة تنعم بنفوذ في معظم القطاعات اللبنانية، وهو ما يرشحه للترهل والانغماس في “نعيم السلطة”. وشهدنا فصولاً كثيرة من هذه الحقيقة في العقدين الفائتين، ولعل أبرز فصل كان دخول مسؤول كبير منه إلى قصر العدل (وفيق صفا) وتهديده قاضياً أمام أعين الصحافيين.
انخرط الحزب حتى أذنيه في الحرب السورية، وتحوّل في سوريا إلى سلطة موازية، وإلى ميليشيا تقيم الحواجز وتفرض الإتاوات. وللحروب الأهلية زواريبها وغنائمها، وهي أيضاً بيئة صالحة للاختراق والتجنيد، وللإسرائيليين صولات وجولات على هذا الصعيد، ولنا بتجربة سلطة حركة فتح في لبنان مثال على ذلك.
حزب الله سلطة، والسلطة سهلة الاختراق، لا سيما إذا ما وُجدت في بلد مفلس ويعيث الفساد فيه خراباً، ومن الصعب تخليص ممارسي الفساد، من غير ممارسيه (إذا وجدوا)، لا سيما وأن الجميع يعرف أن للحزب يداً فيه، ولحلفائه أيادي وأيادي.
نعم الاختراق الإسرائيلي لم يعد حدثاً أمنياً، فمساحة الاختراق تفوق المساحة المحصنة، وإذا كانت المجزرة السيبرانية ذروته، فهو شهد ذروات موازية وصلت إلى حد قتل المسؤول العسكري الأبرز في الحزب وعشرات من المسؤولين الآخرين ومئات من المقاتلين، الذين استهدفوا بعيداً عن خطوط القتال.
أما الضلع الثالث في مثلث الرعب الذي خلفته المجزرة السيبرانية، فهو أنها استهدفت منطقة في نشاطنا اليومي، هي اليوم الركن الرئيسي في أنشطتنا المهنية والاجتماعية والاقتصادية، ونعني هنا تلك الأجهزة المتعددة التي ما عاد من الممكن الاستغناء عنها. الهاتف واللابتوب، وصولاً إلى السكائر الإلكترونية.
من الممكن أن تكون هذه الأجهزة أدوات لقتلنا، وإسرائيل سباقة على هذا الصعيد، لا بل إنها تبيع التكنولوجيا القاتلة لمن يريد من أشرار العالم. شركة NSO الإسرائيلية التي تعمل بإشراف الموساد نموذج عن ذلك، وهي باعت أجهزة التنصت لأكثر الأنظمة قمعاً وبطشاً. لكننا مع واقعة الـ”بايجرز” انتقلنا من التنصت إلى القتل المباشر، وهذه التقنية من الممكن أن تسوَّق لمن يرغب في القتل أيضاً.
نعم نحن في طريقنا الى فقدان الثقة بهذه الأجهزة التي تحاصر حياتنا. الهاتف يمكن أن يتحول إلى جهاز تنصّت علينا، واللابتوب يمكن أن يمثل فرصة للسطو على حياتنا الخاصة والعامة، والـ”بايجرز” صار وسيلة قتل. الوجه الشيطاني لهذه المصائر يتمثل في أن أشراراً قرروا توظيف وسائل رفاه البشر وتقدمها إلى وسائل لقتلهم.
إقرأوا أيضاً: