ونستخدم هنا عبارة “أنقذت البشريّة” من وجهة نظر حكائيّة، مفترضين أن هناك خَطراً يُهدد “الجميع”، وقد ينسف “وجودهم” وينفي “أشباههم” من العالم، وفي المقابل هناك جهة، فرد أو مؤسسة، هي “فايزر” في حالتنا، قادرة على تقديم حلٍ أو صيغة سحرية من أجل إنقاذنا.
لا تهمنا العمليّة الحرفيّة لإنتاج الدواء في هذه القراءة، بل مكونات الحكاية الشعبيّة إن صح التعبير وهي: مرض خفيّ، خطر مهيمن، هلع جماهيري، حلّ سحريّ. يُقدم العِلم نفسه عبر هذه الحكايات بصورة مُبسّطة ذات خصائص أسطوريّة في بعض الأحيان، ما يمكّن “الجميع” من تداولها وتناقلها بعيداً من الحيثيات والتفاصيل، والأهم أن هذه الحكاية تتبناها السلطة لاحقاً، المسؤول الأوّل عن صحّة الأفراد.
حكايات ما قبل “فايزر”

بالعودة إلى “فايزر”، الحكاية الأولى هي اكتشاف “الفياغرا”، ذات الهالة السحريّة، تلك الحبة الزرقاء القادرة على “علاج” ضعف الانتصاب لدى الذكور، والتي فتحت باباً جديداً في العلاقة مع الطبيب. هذه الحبّة، وقفت بوجه مرضٍ صامتٍ، أعراضه الآنيّة الخجل، الإحراج، والعنف أحياناً، وتلك التي على المدى الطويل، تتمثل بتهديد القدرة على “التكاثر” والاستمرار.
المثير للاهتمام في حكاية اكتشاف الفياغرا هي المصادفة، فبينما كان العلماء والأطباء عام 1989 يطورون دواء لعلاج ضغط الدم المرتفع، لاحظوا أن واحدة من التركيبات الدوائيّة التي استخدموها، تزيد تدفق الدماء في القضيب الذكري، وإثر هذه المصادفة، ظهرت حبة الفياغرا، سلاح الرجل الخفيّ ومحقق أحلامه برهز لا نهائي.
حكاية الفياغرا تنتمي إلى تقاليد الحكاية العلميّة أو حكايات الاكتشافات العلميّة، تلك التي تظهر ضمنها المصادفة كعنصر سابق على لحظة الاكتشاف، هذه المصادفة إما خارج سياق البحث العلميّ ومختبراته، كحالة اكتشاف الجاذبيّة الأرضيّة، والتفاحة التي سقطت وألهمت نيوتن، أو مصادفة ضمن سياق العلم، كما حصل مع البنسلين، إذ سها ألكسندر فلامنغ عام 1929 في مختبره، وعاد لاحقاً لملاحظة عفن فطر البينلسوم.
يمكن التنويع إلى ما لا نهايّة في حكايات المصادفة ومكونتها، لكن ما يتشابه هو تلك الهالة التي تحيط بالاكتشاف العلميّ، بوصفه موجوداً في الطبيعة، وعلينا رصده وحسب، هذا الرصد قد يكون خارج سياق البحث العلمي بأكمله، لكن “عين” الباحث الخبيرة هي ما تجعله ممكناً، كونه يحدّق في المصادفة، ويفسّرها “علمياً”.
الأبطال الخارقون يواجهون أزمة، فهل أنهى فايروس “كورونا” عهد الأبطال الأفراد، هذا السؤال يطرحه نواه بيرلتسكي في مقالة في “الغارديان”، وفيه نكتشف أن المتخيلات التي قدمت في الصناعة الثقافيّة عن الأفراد المُنقذين أصحاب القوة والبداهة غير مجدية
حكاية اللقاح بحسب “فايزر” مثيرة للاهتمام، إذ رفضت الشركة بداية التمويل الفيدراليّ، كما أن الشركتين كانتا على يقين بأن “الأمر ليس رهاناً، بل اكتشاف، فكل ما يقع تحت أيديهم جديد” بحسب كاثرين جانسون الباحثة في شركة “فايزر”، أي أن هناك منهجيّة علميّة واكتشافاً مرافقاً لها لم يأتيا مصادفةً، بل إثر عملية طويلة كانت ترتبط بتطوير لقاح للإنفلونزا.
إقرأوا أيضاً:
استُبدلت المصادفة في حالة لقاح “كورونا” بالقرار التنفيذيّ، إذ يقول ألبيرت بورلا المدير التنفيذي لـ”فايزر” ورجل الأعمال، إنه يؤمن بثلاثة أشياء أنتجت اللقاح “قوّة العلم، الشركات الخاصة، والمعجزة التي تنشأ من اتحادهما”.
تثير هذه الكلمات القشعريرة حين ينطقها بورلا، خلاص البشريّة نتاج مُعجزة رأسماليّة تقودها الشركات الخاصة العابرة للقارات، لا العبقرية الفرديّة والهوس والتصميم والمصادفات المرتبطة بهما، أي لا مكان للعبقريّة الفرديّة بل المغامرة الرأسماليّة.
هذه النقلة من العبقريّة الفرديّة/ المصادفة إلى سطوة رأس المال وقراراته الحيويّة ورهاناته، ترتبط بالصناعة الدوائية نفسها، إذ شجعت الحكومة الأميركيّة الشركات الدوائيّة على إنتاج البنسلين بكميات صناعيّة، لكن في حالة الفياغرا، سلطة “فايزر” بقيت الأقوى، وللحفاظ على حصتها المهيمنة في السوق، أنتجت بديلاً أرخص عن الفياغرا، باسم Sildenafil، بنصف ثمن الحبة الزرقاء.
ثلاثة أشياء أنتجت اللقاح “قوّة العلم، الشركات الخاصة، والمعجزة التي تنشأ من اتحادهما”.
الأهم ولأن العالم حينها كان أقل جنوناً، تبنت السلطة ورجالاتها الفياغرا في مواجهة ضعف الانتصاب، إذ ظهر بوب دول الذي ترشح للرئاسة بمواجهة بيل كلينتون في إعلان للفياغرا عام 1998، ليفتح باب الجدل، وينتصر للعلم، ويكسر الإحراج المرتبط بهذا المرض.
على النقيض، عام 2019، في زمنٍ الوباء فيه معروف، ومُحدد ولا خجل في الحديث عنه، ظهر دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأميركيّة، وشكك بداية بالمرض، ثم اقترح حلاً سهلاً ورخيصاً، شرب الكلور والمُبيض.
البطل الخارق VS المدير التنفيذي
حكايات العلم في القرن الماضي تراهن على الفرديّة، والشخص العبقري، أو صاحب القوى الخارقة القادر على إنقاذ الجميع، كأي بطل خارق، كابتن أميركا، بات مان، أيرون مان، الخلاص مصدره الفرد ومرتبط باسم شخص واحد، جورج بوش قاتل صدام حسين، أوباما قاتل أسامة بن لادن، وعلى النقيض، الأوبئة مصدرها الشركات الخاصة دوماً، كشركة “أمبريلا” كما في لعبة resident evil، والتي طورت الفايروس الذي حول الناس إلى موتى-أحياء.
أما في الألفية الجديدة، وفي قراءة معاكسة للمنطق السابق، الأبطال الخارقون يواجهون أزمة، فهل أنهى فايروس “كورونا” عهد الأبطال الأفراد، هذا السؤال يطرحه نواه بيرلتسكي في مقالة في “الغارديان”، وفيه نكتشف أن المتخيلات التي قدمت في الصناعة الثقافيّة عن الأفراد المُنقذين أصحاب القوة والبداهة غير مجدية، فلا أحد منهم قادر على إنقاذنا من الوباء، ثم السلطة الأقوى في العالم، نصح رأسها بشرب الكلور، وهنا تظهر “فايزر” كبشارة للعصر الجديد، حيث لا مكان للفردانيّة، ولا للمصادفة، “الشركة” تمتلك الحلّ، أما “المعجزة” فليست سوى قرار تنفيذي، المسؤول عنه الـCEO.
إقرأوا أيضاً: