fbpx

كامران قره داغي شاهد على ثورة الكرد(١)

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدأ “درج” اليوم بنشر مقال اسبوعي للكاتب والصحافي الكردي العراقي كامران قرة داغي، هو عبارة عن شهادة لرجل كان شاهداً ومساهماً في معظم حقبات الصراع الذي خاضه أكراد العراق مع السلطات العراقية ومع دول الجوار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يبدأ “درج” اليوم بنشر مقال اسبوعي للكاتب والصحافي الكردي العراقي كامران قرة داغي، هو عبارة عن شهادة لرجل كان شاهداً ومساهماً في معظم حقبات الصراع الذي خاضه أكراد العراق مع السلطات العراقية ومع دول الجوار. عاصر كامران حقبة الملا مصطفى البارزاني في مراحل دقيقة من مراحل التفاوض والنزاع، وعمل كصحافي وكمترجم، ثم انتقل إلى الجبال، وغادر بعدها إلى أوروبا من دون ان ينقطع عن الأدوار التي استمر بتأديتها دعماً للقضية الكردية، سواء من موقعه كصحافي في جريدة الحياة اللندنية، أو كمدير لراديو صوت أوروبا الذي كان يبث من العاصمة التشيكية براغ، أو كوسيط بين القيادة الكردية وبين الأوساط السياسية الأوروبية.وبعد سقوط نظام صدام حسين عاد كامران إلى العراق ليعمل مستشاراً ومديراً لمكتب رئيس الجمهورية العراقية الراحل جلال طالباني.

الحكم الذاتي الكردي (1970-1974) من بريماكوف إلى دزاسوخوف

بعد أيام، تحديداً في 11 آذار/ مارس، تمر ذكرى 45 سنة على تجدد القتال بين الحكومة العراقية والحركة الكردية في العراق، وذلك بعد أربع سنوات تماماً من توقيع اتفاق للسلام بين الطرفين، نص على الاعتراف بالحكم الذاتي للأكراد، ضمن حدود ثلاث محافظات استثنيت منها وفقاً للاتفاق أقضية ونواح ظلت، إضافة طبعاً إلى محافظة كركوك بأكملها، وهي مناطق متنازع عليها حتى هذا اليوم، وشكلت دائماً سبباً رئيسياً لتجدد النزاع المسلح بين الأكراد والسلطات المركزية، وآخر فصوله في تشرين الأول/ أكتوبر 2016 غداة استفتاء على الاستقلال أجرته قيادة إقليم كردستان.

صدام حسين والملا مصطفى البارزاني في صورة أرشيفية

اتفاق الحكم الذاتي، الذي يصفه الأكراد بـ”اتفاق 11 آذار”، فيما النظام البعثي تمسك بتسمية “بيان 11 آذار”، وقعه زعيم الحركة الكردية والحزب الديموقراطي الكردستاني مصطفى بارزاني ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة صدام حسين.

التوقيع حصل في بناية صغيرة كانت مطلية بالأبيض، وتقع على مرتفع يطل على بلدة تشومان الكائنة على جانبي طريق هاملتون، نسبة إلى المهندس النيوزيلندي البريطاني ارشيبالد هاملتون الذي شيده بين 1928 و1932 وألف عنه كتابه “طريق عبر كردستان”. بعد توقيع الاتفاق أطلق الأكراد على البناية اسم “قصر السلام”. هي بالمناسبة البناية ذاتها التي أصبحت لاحقاً بعد تجدد القتال في آذار 1974، مقراً لإدارة الإعلام وإقامة العاملين فيها، وكنت أحدهم إذ كلفت مسؤولية قسم البث العربي في إذاعة “صوت كردستان”.  

المفارقة أن سنوات السلام الأربع تلك، تخللتها محاولات لشق الصف الكردي، إضافة إلى اغتيالات دبرتها المخابرات العراقية، نجحت في بعض منها وفشلت في أخرى، وكانت للتخلص من شخصيات كردية مثل زعيم الحركة الكردية الراحل مصطفى بارزاني ونجليه ادريس ومسعود… وبذلك سقطت آمال السلام الدائم.

على العكس كانت تلك السنوات مجرد فترة استراحة استعد الطرفان خلالها لمرحلة جديدة في القتال. أربع سنوات من سلام مفترض استحق صفة “سلام مسلح” وفق صحافي أجنبي لم أعد أتذكر اسمه. لكن ما علاقة ذلك كله بالشخصيتين السوفياتيتين المشار إليهما في عنوان هذا المقال، يفغيني بريماكوف وألكساندر دزاسوخوف؟ أدناه الأسباب والخلفيات وتفاصيل شاءت المصادفات أن أكون شاهداً على بعضها.

بعد تخرجي من كلية فقه اللغة والآداب، مختصاً في اللغة والأدب الروسي في جامعة سانت بطرسبورغ (لينينغراد آنذاك) وعودتي في 1968 إلى بغداد عملت في مجال الترجمة. بداية في القسم الروسي الذي استحدثته اذاعة بغداد الرسمية ثم في المركز الثقافي السوفياتي ومكتب وكالة “تاس” السوفياتية للأنباء.

ذات يوم من شباط (فبراير) 1970 جاء مدير المكتب أناتولي ماتيوشين برفقة ضيف عرفني إليه، قائلاً إنه يفغيني بريماكوف مراسل صحيفة “برافدا” في الشرق الأوسط. بريماكوف لم يكن، كما هو معروف، مراسلاً صحافياً عادياً إذ كان أيضاً وثيق الصلة بالقيادة السوفياتية والقسم الخارجي في جهاز الاستخبارات المشهور بالـ”كي جي بي”. وكانت القيادة السوفياتية تكلفه بحكم معرفته بالشرق الاوسط وعلاقاته مع زعماء فيها بمهمات خاصة يقوم بها تحت غطاء كونه مراسلاً صحافياً. بقية القصة عن توسطه بين بغداد وقيادة مصطفى بارزاني معروفة، إذ جاء إلى بغداد في 1970 حاملاً رسائل من القيادة السوفياتية إلى القيادتين العراقية والكردية، مفادها توسط موسكو لوقف النار وإيجاد حل للوضع الكردي. هكذا نجحت مهمة بريماكوف وأدت الوساطة السوفياتية إلى اتفاق 11 آذار للحكم الذاتي.

في شباط/ فبراير أيضاً (وربما في كانون الثاني/ يناير) لكن في 1974 جاء السوفياتي الآخر، ألكساندر دزاسخوف، إلى بغداد في مهمة تتعلق بالوضع الكردي مجددا لكن على عكس بريماكوف الذي جاء لإنهاء القتال وإحلال السلام، فإن دزاسوخوف المبعوث من القيادة السوفياتية، تركزت مهمته على إنقاذ السلام وتجنب تجدد القتال بين الطرفين. دزاسخوف كان قريباً من القيادة السوفياتية، متفرغاً لتمثيل بلاده في منظمة التضامن الأفرو – آسيوي نائبا لرئيسها وبحكم موقعه ذاك كانت له علاقات واسعة مع مسؤولين في القارتين خصوصا في الشرق الأوسط. ويبدو أن هذه الخلفية جعلت موسكو تختاره لمهمة الوساطة بين الكرد وبغداد.

يُشار إلى أن دزاسوخوف، وأصله من أوسيتيا الشمالية التي كانت وما زالت جمهورية فيدرالية في روسيا، أصبح في أواخر عهد غورباتشوف عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، لكن بعد تفكك الاتحاد السوفياتي نهاية هيمنة الحزب ترشح دزاسوخوف كمستقل لرئاسة أوسيتيا الشمالية وفاز بالمنصب.

وقتها في مطلع 1970 كنتُ تركتُ وكالة “تاس” وتفرغتُ للعمل في هيئة تحرير صحيفة “التآخي” الناطقة باسم الحزب الديموقراطي الكردستاني وتصدر في بغداد بالعربية. في تلك السنوات كنتُ غالباً ما أقوم بمهمة الترجمة بين وفود سوفياتية وعراقية وكردية. لذا كلفتُ بمرافقة دزاسوخوف مترجماً في لقاءاته مع الطرفين. حضرتُ بتلك الصفة لقاءين رئيسيين، أحدهما مع الوفد العراقي الذي رأسه نعيم حداد الذي كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم واللقاء الآخر مع وفد الحزب الديموقراطي الكردستاني برئاسة عضو مكتبه السياسي الراحل صالح اليوسفي.

كان اتفاق آذار ينص على فترة انتقال مدتها أربع سنوات قبل التأسيس الرسمي لمنطقة الحكم الذاتي على أن يحسم الطرفان قضايا معينة باجراء احصاء سكاني ومناطق كان الطرف الكردي يطالب بضمها إلى منطقة الحكم الذاتي ومسائل أخرى. لكن بغداد ماطلت متذرعة بأعذار مختلفة فلم تنفذ أياً من وعودها خلال سنوات “السلام المسلح”، الأمر الذي أسس لتوترات في العلاقات بين الطرفين. بالنسبة إلى الأكراد، فإن محاولات اغتيال زعمائهم وشق صفوفهم، عمّق عدم الثقة بحزب البعث الحاكم. القيادة الكردية من جهتها سعت سراً إلى تحسين علاقاتها مع إيران الشاهنشاهية التي لم تكن مرتاحة لاتفاق 11 آذار 1970، لأنه أزال عاملاً كان يضعف العراق ويشغله داخلياً ويمنعه من تشكيل أي تهديد لها.

ما سلف خلفية لموضوع مختلف يتعلق بالصراع العراقي – الإيراني، وتأثيره في الوضع الكردي أثناء تجدد القتال بين قوات البيشمركة والقوات العراقية بعد آذار 1974 حتى توقيع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران الذي وقعه في الجزائر العاصمة في السادس من آذار 1975، وأدى إلى انهيار الحركة الكردية المسلحة.

وقد أعودُ في مقال مقبل إلى أحداث تلك السنة كما شاهدتها. غير أنني أردتُ بالاشارة إلى هذه الخلفية الموجزة وربطها بالمحادثات التي أجراها الوفد السوفياتي في بغداد وحضرتها كمترجم عشية تجدد القتال بين القوات العراقية والكردية.

المبعوث السوفياتي دزاسوخوف كان يدفع في اتجاه التوصل إلى اتفاق على التطبيق الرسمي لقانون الحكم الذاتي، تجنباً لتجدد القتال وضمان الاستقرار في البلد. لكنه كان يتحدث بأسلوبين مختلفين. مع الوفد البعثي كان يشيد بإنجازات الحكومة من جهة ويناشدهم من جهة أخرى بأن يحافظوا على الوضع الراهن مع الأكراد، ويحرصوا على رعاية الحكم الذاتي بما يضمن مصلحة العراق، مشيراً في آن واحد إلى حرص موسكو على تمتين العلاقات معه.

لكن دزاسوخوف كان حريصاً على ألا يتضمن كلامه أي تحذير ولو ضمنياً من أن موسكو قد تتشدد في علاقتها مع بغداد في حال لم تتوصل الحكومة إلى اتفاق مع الطرف الكردي. في المقابل، رئيس الوفد الحكومي كان يصر على أن بغداد حريصة على مصالح الأكراد، وأنها منحتهم حكماً ذاتياً، لم يكونوا يحلمون به وأنها نفذت كل التزاماتها بموجب “بيان 11 آذار” وعلى القادة الأكراد أن يقبلوا بما حصلوا عليه، وإلا فإن الحكومة ستتخذ ما تراه مناسباً من إجراءات لإعلان تطبيق قانون الحكم الذاتي كما هو، من دون تغيير، مشدداً على أن الحكومة عازمة على إعلان تطبيق القانون في موعده المحدد في الحادي عشر من آذار.

قصارى الكلام لم يبد طرف الوفد الحكومي أي استعداد لتليين موقفه، وكان واضحاً أن قيادته اتخذت قرارها ولا تراجع.

لكن في اللقاء مع الوفد الكردي كان دزاسوخوف صريحاً في تحذيره من مغبة تمسك القيادة الكردية بموقف متشدد يؤدي إلى قطيعة بين الطرفين ويهدد بتجدد القتال بينهما. الزائر السوفياتي لم يترك مجالاً للشك في أن القيادة السوفياتية تعتبر الحكم الذاتي الكردي مكسباً تاريخياً، على القيادة الكردية ألا تفرط به. الوفد الكردي استفاض في تفاصيل انتهاكات الحكومة خلال السنوات الأربع المنصرمة ومحاولاتها شق صفوفهم واغتيال زعمائهم وتسليح جماعات موالية للسلطة، استعداداً لما كانت القيادة الكردية تعتبره خطة حكومية لشن حرب جديدة ضد الأكراد، الأمر الذي أدى إلى عدم الثقة بنيات بغداد، وبالتالي فإن القيادة الكردية تصر على تأجيل بغداد إعلان تطبيق قانون الحكم الذاتي، لحين التوصل إلى حل للخلافات بين الطرفين.

لكن الوفد السوفياتي أصر على أن ذلك كله لا يمكن أن يشكل ذريعة للقطيعة مع بغداد والأفضل أن تقبل القيادة الكردية قرار الحكومة العراقية. وكان يشدد على أن الاتحاد السوفياتي صديق للأكراد، ويحرص على مصلحتهم وأنه بهذه الصفة يحذرهم من التعويل على وعود طهران بأنها ستدعم الأكراد ضد بغداد، مشدداً على أن ايران هدفها الوحيد هو توريط الأكراد في صراعها مع العراق وأنها ستتخلى عنهم حالما استدعت مصلحتها ذلك. في النهاية خرج الوفد السوفياتي من محادثاته مع الطرفين الحكومي والكردي بنتيجة واحدة، مفادها أن القطيعة آتية لا مفر منها.

وفي مساء 11 آذار 1975، أعلن صدام حسين في اجتماع عقد في قاعة الخلد التي كانت أكبر قاعة عامة في بغداد وقتها، تطبيق قانون الحكم الذاتي وإدارته المؤلفة من أكراد موالين للحكومة. ولم تمر سوى أسابيع قليلة حتى حشدت بغداد قواتها في مواجهة البيشمركة في المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، وفي مطلع نيسان (ابريل) شن الطيران الحربي أول غارات على الأكراد. شخصياً، كنتُ وقتها في منطقة تسمى ناوبردان على طريق هاملتون عندما تعرضت المنطقة لقصف جوي.

كنتُ وصلت إلى المناطق غير الخاضعة للحكومة وكنا نسميها “المناطق المحررة” في 12 آذار، أي بعد يوم واحد من الاجتماع الذي أعلن فيه صدام حسين تطبيق قانون الحكم الذاتي. وقصة ذلك كالآتي: في آخر محاولة للتوصل إلى اتفاق، وصل إلى بغداد وفد رفيع المستوى من القيادة الكردية للتفاوض مع الطرف الحكومي وحضر رئيس تحرير “التآخي” الراحل دارا توفيق، وكان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الديموقراطي الكردستاني، الذي اعتقل في بغداد في مطلع الثمانينات ولم يعرف مصيره حتى الآن. كنت آخر من بقي في الجريدة ومعي زميل وصديق قريب هو الراحل محمود البياتي. في 10 آذار، انتهت المفاوضات من دون التوصل إلى اتفاق، فغادر الوفد عائداً إلى كردستان.

قبل أن يغادر بفترة قصيرة جاء رئيس التحرير إلى مكتب الجريدة وسلمني نصاً لبيان باسم المكتب السياسي للحزب وطلب نشره في الصفحة الأولى من عدد اليوم التالي للجريدة، التي لم تكن وزارة الإعلام منعت صدورها حتى ذلك التاريخ. طلبت من المسؤول الفني أن يترك مساحة محددة بارزة في الصفحة الأولى، لكنني لم أسلمه البيان إلى أن اصبحت الصفحة جاهزة للطبع. وبعدما سلمته البيان غادرت إلى البيت.

لكن في منتصف الليل، تلقيتُ اتصالاً من مكتب الجريدة بأن أتوجه إلى مطابعها فوراً لمعالجة الموقف بسبب حضور ضابطين من جهاز الاستخبارات وطلبهما عدم نشر بيان المكتب السياسي (لاحقاً علمنا أن عميلاً للاستخبارات كان يعمل في المطابع هو الذي باح بأمر البيان). توجهت مع محمود في سيارته الفولكس واغن (بيتل) إلى المطبعة الكائنة في شارع الرشيد وسط بغداد. الضابطان أصرا على عدم نشر البيان وفي حال نشره فإن تعليماتهما من مسؤولي الجهاز تقضي بمصادرة العدد ومنع توزيعه. قلتُ لهما إن تعليماتي بدورها تقضي بنشر البيان، لذا سننشره لكننا لن نستطيع منع السلطات من مصادرة العدد. هكذا لم يصدر عدد اليوم التالي وبعدها توقفت الجريدة نهائياً، وعادت إلى الصدور في بغداد بعد إطاحة النظام البعثي في 2003.

في صباح اليوم نفسه إذ كنتُ في مكتب الجريدة الخالي إلا من موظف الاستقبال، جاء ضابط قدم نفسه بأنه مرسل من المجلس الوطني وسلمني بطاقة دعوة باسمي لحضور اجتماع مهم في الساعة السادسة من مساء اليوم التالي المصادف 11 آذار، وهو الاجتماع الذي أعلن فيه صدام بدء تطبيق قانون الحكم الذاتي. لكنني بدلاً من الانتظار حتى حضور الاجتماع قررت أن أغادر بغداد صباحاً إلى اربيل، ومعي شقيقي الأصغر محمود، وأمضينا ليلة هناك في بيت شقيقتي، وفي اليوم التالي توجهت وشقيقي إلى منطقة كسنزان القريبة من اربلي ومنها إلى “المناطق المحررة”.