يتم تجاهل منصة “بورن هاب” للأفلام الإباحيّة حين الحديث عن منصات البث والمشتركين فيها وعدد ساعات المشاهدة، الأمر أشبه بتابو متّفق على تجنّبه، استفادت منه المنصة لاحقاً لتطلق “الإحصاءات” التي تثير المخيّلة، كالأرقام التي تشير إلى كل بلد والفئات التي يُبحث عنها، إذ تقع مصر في المرتبة 20 ضمن فئة أكثر البلاد زيارة للمنصة، والمرتبة الأولى في زمن كل زيارة (11،12 دقيقة)، في حين كانت فئة “الجنس الشرجي” الأكثر بحثاً في السعوديّة.
تكشف الإحصاءات أن “بورن هاب” تتفوق على “نيتفليكس” في عدد الزيارات عالمياً، ناهيك بمساهمة صناعة البورنوغرافيا في تطور الإنترنت نفسه، إذ سبق “بورن هاب” موقع “يوتيوب” في تقديم الـThumbnails المتحركة، وتبويب خط الفيديو مع اختيار اللحظة المناسبة. وكما يُقال، كل تكنولوجيا حديثة توظف بداية في الصناعات العسكريّة ثم البورنوغرافيّة.
تواجه صناعة الإباحيّة ضربات متعددة مرتبطة بتاريخها نفسه، سواء من المحافظين الذين يريدون إلغاء الإباحية، أو جزء من التيار النسويّ الذي يرى في هذه الصناعة إهانة لجسد المرأة، لكن، البورنوغرافيا محميّة، هي شكل من أشكال حريّة التعبير ، لكن بعض الدول، كالعراق، تركيا، سوريا والأردن… تحجب هذه المواقع، وبالطبع لا حجب يقف بوجه إمكان الوصول إلى الإباحيّة.
الأهم أن من نراهم على الشاشة هم مؤدّون يمثلون أدواراً، أسا أكيرا، جوني سينز، أنطونيو سليمان، شوريف الطلياني، بل وحتى ميا خليفة، كلهم ممثلون، كل ما يحصل على الشاشة قائم على التراضي، حتى ولو كان شديد العنف.
المشكلة ليست إذاً في المؤدين المحترفين، بل ضمن فئة “الهواة” و”التسريب”، التي تُنشر تحتها أحياناً تسجيلات من دون التراضي سواء بخصوص النشر أو الممارسة الجنسية، وهذا ما يتضح حين البحث في المحتوى العربي، الواضح من بعض التسجيلات أنها نشرت من دون تراض أو تم تسريبها، بعكس مثلاً ما يشن من حملات على محتوى منشور بالتراضي كحالة الممثلة الإباحيّة الكردية سايا كريم، التي طاولتها التهديدات واعتُبر عملها إهانة “للشعب الكردي”.
هذه الضبابية حول مفهوم التراضي، هي بالضبط ما يراهن عليه أولئك الذين شنّوا حملة على “بورن هاب” و شركة “مايند غييك” عام 2020، إذ طاولت الشركة اتهامات “عمالة الجنس” و”الإتجار بالبشر” و”استغلال الأطفال”، والتي أدت إلى حذف الموقع أكثر من نصف محتواه (10 ملايين فيديو) في محاولة لمحاربة الحسابات غير الموثّقة التي تنشر ما لا يحصل بالتراضي.
الإشكاليات السابقة هي ما تدور حولها حكاية وثائقي “لقطة المال: حكاية بورن هاب” الذي بثته “نيتفليكس” حديثاً، في محاولة للإضاءة على الحرب التي شنّت على “مايند غييك”، الشركة الكنديّة المالكة لأشهر موقع بورن في العالم، والتي بلغت قيمة أرباحها 97 مليار دولار عام 2021 ( أرباح نيتفليكس للعام ذاته بلغت 11 مليار دولار).
لا يتحدث الوثائقي عن صناعة البورن بالأسلوب الذي نتخيله، أي أنه لا يشبه فيلم After Porn Ends أو The Dark Side of Porn، بل هو فيلم يناقش الحملة التي شُنت على المنصة وموقف المؤدين الإباحيين مما يحصل، أولئك الذين فقدوا أعمالهم، نتيجة ما يمكن تسميته بخطاب عداء للصناعة البورنوغرافية والقائمين عليها.
طاولت الاتهامات “بورن هاب” بوصفها تنشر محتوى لم يصوّر أو يسجّل بالتراضي. سواء كان الناشر هاوياً أو مسرباً، فهذا المحتوى ينشر عادة من دون موافقة أصحابه بهدف الفضيحة أو الابتزاز، الشأن الذي شهده العالم العربيّ بكثرة، كالفضائح الجنسية المسيسة، أو الانتقام الشخصيّ، أو عمليات الابتزاز اليومية، الاتهام الموجه الى “بورن هاب” مفاده أن المنصة تُتيح هذه المواد، التي قد يصل بعضها حد الاغتصاب وبورنوغرافيا الأطفال، التهمة التي لم تثبت على “بورن هاب”، فالوثائقي يتحدث عن حالة واحدة، بصورة أدق، مقالة “رأي” وليس تحقيقاً، نشرت في صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان “أطفال بورن هاب”، والتي تلوم المنصة على حادثة الاغتصاب التي تعرضت لها إحدى الفتيات بعمر الـ14 ، لا من خطفها واغتصبها وصوّر الفيديوات.
يكشف الوثائقي أن “بورن هاب”، كأي شبكة تواصل اجتماعيّ، تجمع بيانات المشتركين وتقدم المحتوى الخاص بكل مشترك، كـ”فيسبوك” و”إنستغرام”، ولا شيء جديد في ذلك، لكنْ هناك ضعف في نظام مراقبة المحتوى، ففي حين يمتلك “فايسبوك” 15 ألف مراقب محتوى، لا يتجاوز عدهم في “بورن هاب” الـ 300، وبالطبع يمكن أن يغيب عنهم فيديوات غير مرغوبة، ناهيك بالتقصير الذي يشمل خدمة إزالة الفيديو بعد الإبلاغ عنه، التي قد تصل مدتها إلى أسابيع، لكن المشكلة، أن الفيديو “يُحمل” مرة أخرى من مستخدم آخر، في انصياع للقاعدة الذهبية “لا شيء يختفي من الإنترنت”، خصوصاً أن “بورن هاب”، مثل “يوتيوب”، يمكن لأي شخص أن ينشر عليه فيديوات، ثم يحملها لنشرها مرة أخرى، وهذه بالضبط الإشكالية في منصة “بورن هاب”.
هذه الذاكرة الدائمة، حرّكت منظمات المجتمع المدنيّ والدولي للدفاع عن الحق بالنسيان، الشأن الذي لا يشار إليه في الفيلم، لكنه صعب التحقيق، ولا نتحدث عن الإباحية فقط، بل صورة القتلى والجرحى المتداولة دائماً، إذ خرجت من ملكية أصحابها بمجرد نشرها، سواء وافقوا أو لا، لأن الإنترنت ببساطة لا ينسى، ومهما حاولت “بورن هاب” وغيرها تقييد المحتوى و حصره، هناك منصات أخرى ستعيد نشره ومستخدمون سيحملونه ويعيدون نشره، أي بصورة ما، الحرب هنا ضد مفهوم الإنترنت نفسه، الذي يلخَّص بالقدرة على مشاركة المعلومات من دون حدّ.
تواجه صناعة الإباحيّة ضربات متعددة مرتبطة بتاريخها نفسه، سواء من المحافظين الذين يريدون إلغاء الإباحية، أو جزء من التيار النسويّ الذي يرى في هذه الصناعة إهانة لجسد المرأة
أزمة المستخدمين “الحقيقيين”
تجب الإشارة بدايةً، الى أن “بورن هاب” ليس مجرد “مُنتج” للأفلام الإباحيّة، بل أيضاً منصة لـ”العرض”، يمكن عبرها تحميل المحتوى الإباحي، وضمن هذا النموذج، فإن صانعي صنعون المحتوى هم نوعان، المؤدون المحترفون، أصحاب الصنعة، والهواة الذين يصنعون أفلامهم بأنفسهم. وهنا المشكلة، الفئة الثانيّة، التي تحمّل المحتوى الخاص بها، قد لا تكون شخصاً أو مجموعة تحاول الربح، بل شخص عادي يجمع فيديوات وتسجيلات ويقوم بنشرها.
الإشكاليّة التي تخلقها “حريّة” النشر هذه، هي استطاعة أي شخص ابتزاز أحدهم أو “فضحه” وتحميل الفيديوهات الخاصة به، وحلّت منصة بورن هاب هذه المشكلة عبر توثيق المستخدمين، أي أن أحداً لا يستطيع تحميل فيديو من دون بطاقة هويّة، كي تتم ملاحقته في حال خالف المعايير. لكن الحرب لم تتوقف، فقد قطعت شركات بطاقات الائتمان علاقتها مع “بورن هاب”، وبالتالي لم يعد بالإمكان الدفع واستلام النقود عبر المنصة، والضحية هنا، هم المؤدون المحترفون، الذين أصبحوا عاجزين عن العمل، أي بصورة أخرى فقدوا مصدر رزقهم، والمكان المضمون لعملهم ضمن بيئة آمنة.
أزمة الهواة
غياب المردود المالي للمؤدين دفعهم نحو “أونلي فانز” المنصة التي لا يمكن وصفها سوى ببورنوغرافيا الهواة، التي حاولت عام 2021 إلغاء المحتوى الإباحي ثم تراجعت بعد أسبوع. فتحت منصة “أونلي فانز” الباب أمام نوع جديد من المؤدين، أكثر انفتاحاً أمام المستخدمين، مع إمكانية التفاعل الآني، أي يمكن القول، نحن أمام نسخة إباحيّة من “انستغرام”، الشركة التي شعرت بالتهديد، فأغلقت صفحة “بورن هاب”، وعطلت الوصول إلى الممثلين الإباحيين، وخوفاً من طغيان “أونلي فانز”، وبحجة المساواة الجندرية، أتاحت نشر صور الحلمات، أي تمت الاستفادة من الصراع الهوياتي للحفاظ على المستخدمين.
وجد مؤدو البورنوغرافيا التقليديون أنفسهم أمام خسارة مالية وسوق يحاربهم، فلجأوا إلى “أونلي فانز”، يعملون تحت الطلب، ويجيبون عن أسئلة المستخدمين التي تتلخص بـ”افعلي هذا لأجلي” أو ” ما رأيك بصورة قضيبي”، وهنا نتلمس الإهانة التي تعرض لها مؤدو البورنوغرافيا، وجدوا أنفسهم أمام جيل جديد من “الإباحيين” الذي يعملون من منازلهم ويحصدون آلاف المشاهدات والمتابعات، وكأننا أمام أزمة المواطن الصحافي بوجه الصحافي المحترف، وصانع المحتوى أمام الكاتب، والمصور المحترف أمام حامل الموبايل. المشكلة إذاً اتصاليّة، شكل العالم يتغير، والبورنوغرافيون المحترفون يواجهون الهواة في “معركة” غير عادلة، ككارلي راي سامرز، التي انتقلت من صناعة الأفلام الإباحيّة، إلى التعليق عليها ضمن فيديوات تشبه تلك التي نراها على “يوتيوب” أو “تويتش”.
من هم الأعداء؟
يكشف الوثائقي أن الحملة المُقادة ضد بورن هاب وبعيداً عن الأفراد وأخلاقياتهم المتعددة، يترأسها جمعية شديدة المحافظة باسم National Center on Sexual Exploitation، والتي تحارب كل ما هو “مشين” وتدعوا إلى قيم الأسرة، ورئيساها يعادي المثليّة والخلاعة، لكن العدو الأشد ومن يجب أن يتهم في كلّ شأن المحتوى الإباحي المنشور دون موافقة، هم “الأنذال” من يستفيدون من المنصات المتعددة لخدمة أغراضهم الشخصيّة، هؤلاء لا يمكن محاربتهم عبر القضاء على بورن هاب، أو إيقاف أي موقع يسهل الوصول إلى هكذا محتوى، كون هذه التهمة تنطبق على غوغل، وفايس بوك، وغيرها، يصف البعض ذلك بأنه مهرب قانوني ومحاولة لتفادي المسؤولية، أي عدم تجريم المنصة الي تتيح الوصول لمحتوى “ممنوع”، لكن الأمر ينطبق على الانترنيت بأكمله، وكل منصات التواصل ومحركات البحث، ما يذكرنا أيضاً بـ”قانون الألفية للملكيّة الرقميّة -DMCA”، الذي يُحارب بشدة، خصوصاً البند الذي يطالب بإغلاق إي منصة تتيح الوصول إلى محتوى غير مرخص أو ينتهك حقوق الملكية، الشأن الذي ينطبق على كل منصات البحث، وكل ما هو “انترنت” لا فقط بورن هاب.
إشكالية الجسد المُنتهك
كل محتوى إباحي أو غير إباحي لم يتم تصويره ونشره بموافقة المشاركين به، هو جريمة، وتوثيق المستخدمين هو الحلّ الأفضل للجميع، ناهيك بأن الجسد المُنتهك، ولنقل ذاك الذي اكتسب انتهاكه من علنيته، يمتد أبعد من الجسد البورنوغرافي، منصات مشاركة الصور والفيديوهات البرونوغرافية شديد العنف، تحوي صور ضحايا المجازر، والعنف السياسيّ، لكن أليست منصات الأخبار مثلاً والتواصل الاجتماعي توفر هكذا مواد علناً ومجاناً، هنا نحن أمام سؤال إشكالي، يتعلق بكرامة الجسد الإنسانيّ نفسه، سواء كان إباحياً، أو مُعنفاً، إذ يمكن توزيع اللوم، على مراحل عدة، من انتهك، ومن صوّر، ومن نشر، ومن وفر النشر، ومن أتاح الوصول للمنشور، ومن أتاح مشاهدة ما هو منشور. نحن أمام سلسلة تواصليّة من الصعب تقنينها من جهة، ومن جهة أخرى، لا يمكن لوم جزء منها فقط.