لم يكن قرارنا أنا وأخي الذهاب إلى الحلاق الرجالي بعد العطلة النصفيّة بالأمر السهل، فـ”صالون الحلاقة” الأقرب إلى قريتنا المعزولة يقبع في البلدة المجاورة والتي تحتاج 15 كلم من السير ذهاباً ورجعةً، فرضت علينا هذا المسير أزمة الوقود التي أوقفت حركة البلاد.
ما الذي قد يُعينُ مراهقين على السير 15 كلم لحلاقة شعورهم برفقة أمهما؟ بدا الضحك والسخرية ملجأنا الوحيد، ومن الجيد حقّاً أن مخزوننا الكوميدي لا يتعلق بمادة ما، ولا يعمل على أي نوع من الوقود، تخيل أن تقف في طوابير إضافية للحصول على إعانة من الضحك!

نكات أجدادنا منتهية الصلاحية
بعد محاولاتٍ فاشلة لم نجد سيارة أجرة توصلنا إلى محل الحلاقة، أصرّ أخي الصغير على أن نذهب خوفاً من قانون المدرسة الذي يعاقب الطالب إذا كان شعره طويلاً، لم أستطع إلا أن أوافق، في مثل عمره لم أجرؤ على إطالة شعري ولو مرة واحدة.
قررتْ والدتي أن ترافقنا في هذه الرحلة الطويلة، لم أكن راضياً عمّا يحدث وبخاصة إجبارنا على السير كلّ هذه المسافة مردداً الشتيمة تلو الأخرى مع كل نفس متسارع، ازداد الغضب داخلي كلما مرّت من طريقنا المقطوع سيارة ضخمة “مفيّمة” وبلا رقمٍ تعريفي، إنّها مركبات دخلت البلاد من طريق التعفيش (السرقة)، هذه السيارات لا تشبهنا نحن الذين يؤامهم أقدامهم. إنها لا تتعب مثلنا، لا تقف في طوابير طويلة، ولا تفرغ من الوقود… هذه السيارات وإن كانت تشاركنا في شيء واحد فهو أن سعرها يقارب رقم فدية تُطلب مقابل إطلاق سراح مخطوفٍ.
لم تنجح نكات والدتي القديمة والبالية طوال الطريق في إضحاكنا، فهي نكات أضحكتها وهي طفلة، وعندما عجزتْ عن إضحاكنا انتقلت إلى الغناء، طالبةً مني صورة للذكرى لكن هاتفي المحمول في المنزل وبطاريته فارغة والكهرباء لم تأتِ منذ أيام.
على هذا الطريق بين قريتين في مدينة السويداء حصلتْ حوادث كثيرة، يُقال إن السيد المسيح قد عبره خلال سفره إلى الأردن، كما أنه يربط بين قصري الإمبراطور فيليب العربي اللذين أقامهما للاصطياف، يأتيهما حين الحرّ، بينما ينتصب على جانبيه تلان بركانيان يعلوهما مقامان صغيران للعبادة، يتحول الطريق ذاته ليلاً إلى ساحة للخطف والقتل والسرقة، فقد قُتل شابٌ من القرية رمياً بالرصاص بعد محاولة سرقة فاشلة على هذا الطريق منذ بضعة أشهر.
وبينما تستمر والدتي في محاولة تخفيف كمدي أفكر بما لا نستطيع قوله ونفتته داخلنا لأننا سمعنا كثيراً بالأشياء التي تذهب ولا تعود. أسلوب السوريّ اليوم في تكديس الهموم أسلوبٌ وجوديٌّ، زاد من خلاله التأقلم الذاتي والتعود على كلّ ما يحدث. وهكذا تتناسب السخرية طرداً مع الخسارة في الواقع، فكلما طالت طوابير الانتظار ارتفعت أصوات الضحك في الحناجر.
ولأن المصاعب تأتي دفعة واحدة، اكتملت رحلتنا بخروج ثلاثة كلاب من إحدى مداجن تربية الدجاج المعزولة لتتجه نحونا مكشّرة عن أنيابها، استطعنا النجاة منها بمتابعة طريقنا بهدوء من دون النظر إليها حتى. هل يستحق قصّ شعرنا هذه المخاوف والمغامرات والأخطار كلها؟!

نضحك لأننا لا نستطيع قول الحقيقة
يسخر الحلاق من لهاثي حين وصولي مردداً: “بتشارط أنك جيت مشي؟”، ثم يتابع بلهجة أكثر جديّة: “أتعلم متى ستتوقف عن التعب؟”، ليشير إلى طائر محنط ومعلق على الحائط ويقول: “لما تصير صيّاد”، ثم يضحكُ مشيراً إلى نفسه. بدا المشهد تراجيدياً حين نظرت إلى المرآة ووجدت رأسي محاصراً بالطيور المحنطة المنعكسة من الجدار المقابل، رأسي في وسط المرآة والكثير من الأجنحة المشلولة من حولي والحلاق يشير بمقصّه نحوي ويسألني عن التسريحة التي أريد.
يفرض علينا الواقع التصرف بفظاظة أيضاً، فتجاهل تصرفاتنا ومشاعرنا هو ما يوصلنا إلى مراضاة الواقع أو ترويضه في أفضل الحالات، لا تستطيع أن تكون منضبطاً وتتبع القوانين حين تعمُّ الفوضى، بخاصة نحن الشباب الذين خرجوا من قُراهم ومدنهم إلى الجامعات للمرة الأولى فكان الواقع قاسياً، نحن الذين ما زلوا أطفالاً تُركوا في المدن الغريبة ليتعلموا، في مدن لا كهرباء ولا مواصلات ولا أحلام فيها.
أحد الأصدقاء من مدينة حماة يعاني كما الجميع من ظروف مادية صعبة يزيد في معاناته عدم وجود مواصلات جيدة بين منزله والجامعة وليحلّ مشكلته قام هذا الشاب بحمل عبوة بلاستيكية مملوءة بالبنزين الذي سحبه من دراجة والده، يحمل وائل (اسم مستعار) هذه القنينة في يده يومياً كما نحمل حقائبنا وأقلامنا وكتبنا الجامعية. وعند انتهاء الدوام يساوم أصحاب سيارات الأجرة على سعر التوصيل بقوله: “من هون لبيتي بدي ليتر بنزين، هي البنزين عليي وألف زيادة الك، بيمشي الحال ولا شوف غيرك؟”، نعم… وائل شجاع وذكي وكنّا لنبدو مثله لو امتلكنا يداً إضافية نحمل فيها الوقود، تخيل فقط، أنك طالب جامعي تدخل إلى كليتك وفي يدك زجاجة بنزين!

هدية أبي في عيد المعلم… قنبلة
اعتاد والدي التأخر في عمله وهو مدرّس خصوصيّ، في يوم لم يجد سيارة أجرة، والطرق إلى القرية ليلاً خطيرة يتجنبها السائقون، بالمصادفة تعرّف أحد طلابه القدامى إليه ووافق على إيصاله، لكن لإتمام هذه المهمة الخطيرة بخاصة ليلاً جلب السائق معه رجلين جلسا في المقعد الخلفي حاملين البنادق والقنابل. يروي أبي ما حدث معه وهو يناولني قطعتين من “المارشميلو”، أتأمل يديه اللتين حملتا المارشميلو تلك المسافة كلها. أعلم أن أبي متعب، جميعنا متعبون من المسافات التي نُذرنا لها، نصادفها أينما اتجهنا وتصبح أطول كلما أخذنا قسطاً من الراحة. ولو أردنا الشعور بالراحة علينا اختصار الطرق بدفع الآخرين ومحاولة الحصول على مقعد في الحافلة، لنتعلم الشراسة من دون أن نكترث لكبير أو صغير. أدفع الآخرين وأجلس في الحافلة، لأنه وإن كنتُ خجولاً أو مهذباً على المزاحمة، سأضطرُّ إلى ركوب سيارة أجرة لأدفع كلّ ما أملك ربما.
كسوريٍّ أنت أمام خيارين إمّا الموت من الانتظار أو الموت بقنبلة تُرمى عليك في محطة الوقود خلال شجار على الدور. هكذا يشكو العم أبو حسام ما حدث معه وأنا أنزل من سيارته، ليوقفني بصوته المرتفع: “منضل يومين ناطرين دورنا، وبيجي واحد أزعر بسيارة ضخمة ومفيمة وبلا نمرة ومعو سلاح، وبيعبي بنفس اللحظة!، شو بدك تعمل؟ ببهدلونا وبسمعونا كلام وبهددونا ونحنا كبرنا ما عاد قادرين نقاتل، ما عاد قادرين!”.
أهزّ برأسي له، من دون أن أضحك هذه المرة، كنت يائساً، تأسفت للرجل العجوز بحركة رأسي، أعلمُ أن الأسف وضيعٌ في هذه اللحظة… وأن شَعري قد طال مجدداً ويحتاج قصّة في أقرب وقت، أغلقت باب السيارة ومشيت نحو المنزل وسط الظلمة وأنا أفكر بتسريحة جديدة لا تحتاج الكثير من اللهاث.
إقرأوا أيضاً: