fbpx

حلقات التعذيب في الجزائر: ماذا بعد اعتراف فرنسا بقتل موريس أودان؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أصدر الإليزيه بياناً أعلن فيه مسؤولية الدولة الفرنسية عن تعذيب وقتل الباحث في الرياضيات الشيوعي موريس أودان، المتّهم بمساعدة مجموعات المقاومة التابعة لجبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1957..قرار فتح الباب مجدداً على ملفّ التعذيب في الجزائر ومسؤولية فرنسا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
موريس أودان

في خطوة جريئة لكن منتظرة، تتماشى مع المسار الذي سلكه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في تعاطيه مع ماضي بلاده الاستعماري، أصدر الإليزيه بياناً أعلن فيه مسؤولية الدولة الفرنسية عن تعذيب وقتل الباحث في الرياضيات الشيوعي موريس أودان، المتّهم بمساعدة مجموعات المقاومة التابعة لجبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1957. الخطوة الشجاعة استكملها ماكرون في وقت لاحق بزيارة سريعة لمنزل جوزيت أودان، أرملة موريس أودان، وطلبه السماح والصفح عن هذه الصفحة السوداء من تاريخ فرنسا. “

قرارٌ تاريخي” بإجماع الصحافة الفرنسية قوبِلَ بترحيب جزائري وتحية من أقلام سياسية وأدبية وفكرية، يساراً ويميناً، وفتح الباب مجدداً على ملفّ التعذيب في الجزائر ومسؤولية فرنسا في نشر الوثائق التي بحوزتها كلها عن تلك الفترة.

من هو موريس أودان، الشيوعي الفرنسي الذي أصبح رمزاً لمناهضي الاستعمار؟

ولد موريس أودان في مدينة باجة التونسية حيث كان والده مسؤولاً عن الشرطة المحلية لسنوات قبل أن تنتقل العائلة إلى الجزائر وفرنسا ليكمل موريس تحصيله العلمي الذي بدأه طالباً في ليسيه Autun العسكرية ليعود إلى العاصمة الجزائرية رغبةً منه في دراسة الرياضيات في “ليسيه غوتييه”. حصل أودان على إجازة جامعية مطلع عام 1953 وتمّ تعيينه مساعداً للبروفيسور الفرنسي رينيه دو پوسّيل فبدأ يدرّس الرياضيات في العاصمة الجزائر، إلى جانب استكماله عمله البحثي في الدكتوراة التي حصّلها “غيابياً” في 3 كانون الأول/ ديسمبر 1957 في باريس وتناولت موضوع “المعادلات الخطية في الفضاء الاتجاهي”.

في سنوات التدريس الأولى تعرّف الشاب الذي عرف بمواقفه المناهضة للاستعمار إلى صبية تدعى جوزيت فتزوجا وأنجبا ثلاثة أولاد: ميشيل التي أصبحت لاحقاً باحثة رياضيات، ولويس وبيار.

انتسب أودان إلى الحزب الشيوعي الجزائري عام 1951 قبل تثبيته في مركزه التعليمي في جامعة الجزائر، وسرعان ما أصبح مسؤولاً عن “خلية لانجڤان” (cellule Langevin) -نسبة إلى الفيزيائي الفرنسي الكبير پول لانجڤان- في مبنى تجمّع وحدة الطلاب الشيوعيين وأصبح على علاقة وثيقة بقيادات جبهة التحرير الوطني، لا سيّما عبان رمضان والعربي بن مهيدي وكان المسؤول الأول عن تهريب الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري العربي بوهالي من العاصمة الجزائر عام 1956.

بعد عجز فرنسا عن كسر الثورة وإخمادها أطلقت في كانون الثاني/ يناير عام 1957 معركة الجزائر العاصمة وأعطى الجنرال بول أوساريس أوامره لكلّ من الجنرالين ماسو (Massu) وبيجار (Bigeard)، بممارسة كل الوسائل الوحشية التي تمكّن فرنسا من القضاء على الانتفاضة فحضر التعذيب والاغتصاب والقتل في تلك المعركة بشكل شبه يومي، وعلى رغم ذلك استطاعت مجموعات الجبهة نقل المعركة من أعالي الجبال إلى قلب العاصمة وقدّر عدد الفدائيين آنذاك بـ5000 شخص أشرفوا على عمليات كثيرة في العاصمة المحاصرة.

الرئيس ماكرون مع ابنة أودان

في آذار/ مارس 1957 آوى موريس أودان في منزله القيادي الشيوعي العمالي پول كاباييرو الذي كان في حاجة إلى علاج سريع تمّ بمساعدة أحد أطباء الحزب الشيوعي الجزائري. في مطلع حزيران/ يونيو من العام ذاته، قبل ساعات قليلة من التفجير الضخم الذي هزّ الكازينو على الكورنيش في العاصمة الجزائر، ألقت قوات فرنسية القبض على الطبيب وأجبرته على الاعتراف بعلاج كاباييرو في منزل أودان. صباح 11 حزيران، توجّهت مجموعة من المظليّين الفرنسيين بقيادة الضابط فيليپ إيرولان إلى منزلة أودان واقتادته إلى جهة مجهولة.

في كتابه “السؤال” (La Question)، يذكر هنري علاق الذي كان يشرف على تحرير صحيفة الجزائر الجمهورية أنّه كان آخر من رأى أودان عشية 11 حزيران وأنّ كلّ المعلومات بحوزته تشير إلى اقتياده إلى ڤيلا “البيار” في العاصمة، حيث تم تعذيبه أياماً عدة قبل أن يقتل بدم بارد. ويكشف علاق عن اسم الجنرال الذي قتل أودان بسلاح أبيض بعد جلسات تعذيب عديدة وهو روجيه ترنكييه، قائد وحدات المظليين الفرنسيين.

لكنّ كتاب بيار- فيدال ناكيه، رفيق أودان وبروفيسور في كلية الآداب في الجزائر، الذي صدر على شكل تحقيق عام 1958 يبقى الأكثر أهمية من حيث عرضه التفاصيل التي رافقت “اختفاء” أودان وإصرار الدولة الفرنسية على نفي مسؤوليتها عن اغتياله وتبنّيها رواية سخيفة تشير إلى هروبه وفقدان أثره بعد إلقاء القبض عليه. في هذا الكتاب يتبنّى ناكيه، استناداً إلى المدة الزمنية التي انقطعت فيها أخبار أودان (10 أيام بعد إلقاء القبض عليه) وإلى ممارسات الجنرالات أوساريس، بيجار وماسو الوحشية نظرية خنق أودان وقتله بسكين على يد الضابط الفرنسي شاربونييه في إحدى حلقات التعذيب بعد توقيفه.

في المقابل، بقي تعدّد الشهادات وتنوّع التحليلات في “قضية أودان”، مجرّد محاولات لحث السلطات الفرنسية المتعاقبة على الاعتراف بمسؤوليتها، على رغم عشرات الرسائل التي نشرتها صحف ومواقع (محسوبة على اليسار والشيوعية) آخرها موقع “ميديابارت” العام الفائت، فإنّ العمل الصحافي الذي أنجزه جان-شارل دنيو عام 2014 أعاد خلط الأوراق حول الجهة التي اتخذت القرار بإنهاء حياة أودان. عشية زيارة الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند الجزائر في حزيران 2014، عرضت فرانس ٣ في برنامجها الأسبوعي “Le Grand Soir 3” وثائقياً حول مقتل أودان حمل بصمة الصحافي دونيو يعرض فيه مقابلة مصوّرة مع الجنرال أوساريس، يعترف فيها بأنه الشخص الذي أعطى الأوامر لإنهاء حياة أودان، كما يقرّ بإشرافه شخصياً على قتل كل من العربي بن مهيدي وعلي بو منجل. فور عودته من الجزائر وجّه هولاند رسالة قال فيها إنّ أودان لم يمت متخفّياً، إنما في الاعتقال من دون أن يلمّح إلى مسؤولية رسمية أو اعتذار علني من عائلته.

لماذا فتح ماكرون ملفّ التعذيب في الجزائر: حسابات السياسة ومصالحة الماضي بالحاضر؟

أيام قليلة بعد انتخاب ايمانويل ماكرون وفي جملة التحضير للانتخابات النيابية العام الفائت، رفع باحث الرياضيات سيدريك ڤيلاني، والمرشّح آنذاك على لائحة “الجمهورية تمشي قدماً”، الصوت عالياً مطالباً بالحقيقة حول مسؤولية مقتل أودان تحت التعذيب. من على منبر “ميديابارت” نشر ڤيلاني الذي نجح في الوصول إلى البرلمان نائباً عن “الإيسون” (Essone) عريضة وقّعتها 40 شخصية علمية فرنسية، تطالب الرئيس الفرنسي بجلاء الحقيقة كاملة في تلك القضية التي تحوّلت إلى لغز فرنسي وتحوّل بطلها إلى رمز ملهم لكل المناضلين ضد الاستعمار.

بزيارته عائلة أودان وطلبه السماح والاعتذار من جوزيت أودان، وكلامه الشجاع عن “نظام اعتقال وتعذيب وضعته فرنسا لترهيب وقتل المواطنين في حرب الجزائر” يكون ايمانويل ماكرون قد خطا خطوة شبيهة بتلك التي قام بها جاك شيراك عام 1995، حين أعلن مسؤولية فرنسا الرسمية (حكومة ڤيشي) عن سوق آلاف اليهود في “ڤيل ديڤ” في باريس إلى معسكرات الاعتقال وغرف الغاز النازية.

لكنّ خطوة ماكرون، إلى جانب توجّهها السياسي الواضح ورغبتها في مصالحة تاريخية، تعيد الاعتبار أولاً للقيمة العلمية التي حملها أودان كباحث رياضيات وكمواطن إنسان ناضل من أجل استقلال الجزائر، شأنه شأن أسماء كثيرة رفعت اسمه وقضيته عالياً، يأتي في مقدّمها العالم الفذ لوران شفارتز (نظرية الإشارة التجريبية) والمؤرخ الكبير بيار-فيدال ناكيه.

بحسب القراءة الأولية للمؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا، فإنّ شجاعة ماكرون تكمن أولاً في فتحه أخطر ملفات حرب الجزائر، موضوع “التعذيب كسياسة إرهاب” الذي جعلته فرنسا لسنوات “تابو يضرّ بمصلحتها ويشوّه صورتها”، وثانياً في لجم أصوات يمينية انتقدت مطوّلاً سياسة ديغول واعترافه المرّ بالهزيمة في الجزائر واشتراكية- يسارية تبنّت فكرة الجزائر الفرنسية ورفضت الاعتراف باستقلال الجزائر، حملها رئيس الحكومة غي موليه بين عامي 56 و57 وحليفه داخل الجبهة الجمهورية فرانسوا ميتيران، فيما عارضها منفرداً بيار-مينديز فرانس.

فردانية اعتذار ماكرون، بحسب ستورا دائماً، تأتي في سياق رفض مبطّن لسنوات الصمت بخاصة في عهد فرانسوا ميتيران، وهي إذ تفتح النقاش مجدّداً عن حلقات التعذيب في الجزائر، فإنّها تطرح تساؤلات كثيرة عن آلية عمل الرئيس الشاب “الذي فهم أنّ ماضي فرنسا الأسود لن يبقى تابو بعد الآن”، فهو لم يكتفِ بتمرير الرسائل السياسية للجزائر منذ انتخابه، إنّما ذهب إلى فضّ لغز أودان الذي يعتبر، بحسب فريق العمل المقرّب من الرئيس، مقدّمة لطيّ آخر الصفحات الاستعمارية ولتحسين العلاقات الفرنسية- الجزائرية.

في الوقت الذي تعترف فيه فرنسا صاحبة الماضي الاستعماري، ولو بعد 60 عاماً، بتعذيب أحد مواطنيها بسبب نضاله ضد الاستعمار، تستمر الأنظمة العربية في التستّر عن جرائمها في تعذيب وقتل كل صوت يصبو إلى حياة كريمة أكثر عدالة، واذا ما قرّرت الكشف عن حقيقة موت مئات الآلاف في الغرف الانفرادية وفي مهاجع الموت السرّي فإنها تحيل هذا الموت إلى قضاء وقدر اسمه “الذبحة القلبية”. مفارقة تبدو موجعة وهزلية في آخر قلاع “العروبة” و”مناهضة الاستعمار” و”صدّ الهجمة الامبريالية”.

 

إقرأ أيضاً:

يميني يكره المهاجرين : ماتيو سالڤيني أو الرعب الذي يخيّم على أوروبا

شركة فرنسية متهمة بتصنيع براميل الأسد فما قصتها؟

20.09.2018
زمن القراءة: 6 minutes

أصدر الإليزيه بياناً أعلن فيه مسؤولية الدولة الفرنسية عن تعذيب وقتل الباحث في الرياضيات الشيوعي موريس أودان، المتّهم بمساعدة مجموعات المقاومة التابعة لجبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1957..قرار فتح الباب مجدداً على ملفّ التعذيب في الجزائر ومسؤولية فرنسا.

موريس أودان

في خطوة جريئة لكن منتظرة، تتماشى مع المسار الذي سلكه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في تعاطيه مع ماضي بلاده الاستعماري، أصدر الإليزيه بياناً أعلن فيه مسؤولية الدولة الفرنسية عن تعذيب وقتل الباحث في الرياضيات الشيوعي موريس أودان، المتّهم بمساعدة مجموعات المقاومة التابعة لجبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1957. الخطوة الشجاعة استكملها ماكرون في وقت لاحق بزيارة سريعة لمنزل جوزيت أودان، أرملة موريس أودان، وطلبه السماح والصفح عن هذه الصفحة السوداء من تاريخ فرنسا. “

قرارٌ تاريخي” بإجماع الصحافة الفرنسية قوبِلَ بترحيب جزائري وتحية من أقلام سياسية وأدبية وفكرية، يساراً ويميناً، وفتح الباب مجدداً على ملفّ التعذيب في الجزائر ومسؤولية فرنسا في نشر الوثائق التي بحوزتها كلها عن تلك الفترة.

من هو موريس أودان، الشيوعي الفرنسي الذي أصبح رمزاً لمناهضي الاستعمار؟

ولد موريس أودان في مدينة باجة التونسية حيث كان والده مسؤولاً عن الشرطة المحلية لسنوات قبل أن تنتقل العائلة إلى الجزائر وفرنسا ليكمل موريس تحصيله العلمي الذي بدأه طالباً في ليسيه Autun العسكرية ليعود إلى العاصمة الجزائرية رغبةً منه في دراسة الرياضيات في “ليسيه غوتييه”. حصل أودان على إجازة جامعية مطلع عام 1953 وتمّ تعيينه مساعداً للبروفيسور الفرنسي رينيه دو پوسّيل فبدأ يدرّس الرياضيات في العاصمة الجزائر، إلى جانب استكماله عمله البحثي في الدكتوراة التي حصّلها “غيابياً” في 3 كانون الأول/ ديسمبر 1957 في باريس وتناولت موضوع “المعادلات الخطية في الفضاء الاتجاهي”.

في سنوات التدريس الأولى تعرّف الشاب الذي عرف بمواقفه المناهضة للاستعمار إلى صبية تدعى جوزيت فتزوجا وأنجبا ثلاثة أولاد: ميشيل التي أصبحت لاحقاً باحثة رياضيات، ولويس وبيار.

انتسب أودان إلى الحزب الشيوعي الجزائري عام 1951 قبل تثبيته في مركزه التعليمي في جامعة الجزائر، وسرعان ما أصبح مسؤولاً عن “خلية لانجڤان” (cellule Langevin) -نسبة إلى الفيزيائي الفرنسي الكبير پول لانجڤان- في مبنى تجمّع وحدة الطلاب الشيوعيين وأصبح على علاقة وثيقة بقيادات جبهة التحرير الوطني، لا سيّما عبان رمضان والعربي بن مهيدي وكان المسؤول الأول عن تهريب الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري العربي بوهالي من العاصمة الجزائر عام 1956.

بعد عجز فرنسا عن كسر الثورة وإخمادها أطلقت في كانون الثاني/ يناير عام 1957 معركة الجزائر العاصمة وأعطى الجنرال بول أوساريس أوامره لكلّ من الجنرالين ماسو (Massu) وبيجار (Bigeard)، بممارسة كل الوسائل الوحشية التي تمكّن فرنسا من القضاء على الانتفاضة فحضر التعذيب والاغتصاب والقتل في تلك المعركة بشكل شبه يومي، وعلى رغم ذلك استطاعت مجموعات الجبهة نقل المعركة من أعالي الجبال إلى قلب العاصمة وقدّر عدد الفدائيين آنذاك بـ5000 شخص أشرفوا على عمليات كثيرة في العاصمة المحاصرة.

الرئيس ماكرون مع ابنة أودان

في آذار/ مارس 1957 آوى موريس أودان في منزله القيادي الشيوعي العمالي پول كاباييرو الذي كان في حاجة إلى علاج سريع تمّ بمساعدة أحد أطباء الحزب الشيوعي الجزائري. في مطلع حزيران/ يونيو من العام ذاته، قبل ساعات قليلة من التفجير الضخم الذي هزّ الكازينو على الكورنيش في العاصمة الجزائر، ألقت قوات فرنسية القبض على الطبيب وأجبرته على الاعتراف بعلاج كاباييرو في منزل أودان. صباح 11 حزيران، توجّهت مجموعة من المظليّين الفرنسيين بقيادة الضابط فيليپ إيرولان إلى منزلة أودان واقتادته إلى جهة مجهولة.

في كتابه “السؤال” (La Question)، يذكر هنري علاق الذي كان يشرف على تحرير صحيفة الجزائر الجمهورية أنّه كان آخر من رأى أودان عشية 11 حزيران وأنّ كلّ المعلومات بحوزته تشير إلى اقتياده إلى ڤيلا “البيار” في العاصمة، حيث تم تعذيبه أياماً عدة قبل أن يقتل بدم بارد. ويكشف علاق عن اسم الجنرال الذي قتل أودان بسلاح أبيض بعد جلسات تعذيب عديدة وهو روجيه ترنكييه، قائد وحدات المظليين الفرنسيين.

لكنّ كتاب بيار- فيدال ناكيه، رفيق أودان وبروفيسور في كلية الآداب في الجزائر، الذي صدر على شكل تحقيق عام 1958 يبقى الأكثر أهمية من حيث عرضه التفاصيل التي رافقت “اختفاء” أودان وإصرار الدولة الفرنسية على نفي مسؤوليتها عن اغتياله وتبنّيها رواية سخيفة تشير إلى هروبه وفقدان أثره بعد إلقاء القبض عليه. في هذا الكتاب يتبنّى ناكيه، استناداً إلى المدة الزمنية التي انقطعت فيها أخبار أودان (10 أيام بعد إلقاء القبض عليه) وإلى ممارسات الجنرالات أوساريس، بيجار وماسو الوحشية نظرية خنق أودان وقتله بسكين على يد الضابط الفرنسي شاربونييه في إحدى حلقات التعذيب بعد توقيفه.

في المقابل، بقي تعدّد الشهادات وتنوّع التحليلات في “قضية أودان”، مجرّد محاولات لحث السلطات الفرنسية المتعاقبة على الاعتراف بمسؤوليتها، على رغم عشرات الرسائل التي نشرتها صحف ومواقع (محسوبة على اليسار والشيوعية) آخرها موقع “ميديابارت” العام الفائت، فإنّ العمل الصحافي الذي أنجزه جان-شارل دنيو عام 2014 أعاد خلط الأوراق حول الجهة التي اتخذت القرار بإنهاء حياة أودان. عشية زيارة الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند الجزائر في حزيران 2014، عرضت فرانس ٣ في برنامجها الأسبوعي “Le Grand Soir 3” وثائقياً حول مقتل أودان حمل بصمة الصحافي دونيو يعرض فيه مقابلة مصوّرة مع الجنرال أوساريس، يعترف فيها بأنه الشخص الذي أعطى الأوامر لإنهاء حياة أودان، كما يقرّ بإشرافه شخصياً على قتل كل من العربي بن مهيدي وعلي بو منجل. فور عودته من الجزائر وجّه هولاند رسالة قال فيها إنّ أودان لم يمت متخفّياً، إنما في الاعتقال من دون أن يلمّح إلى مسؤولية رسمية أو اعتذار علني من عائلته.

لماذا فتح ماكرون ملفّ التعذيب في الجزائر: حسابات السياسة ومصالحة الماضي بالحاضر؟

أيام قليلة بعد انتخاب ايمانويل ماكرون وفي جملة التحضير للانتخابات النيابية العام الفائت، رفع باحث الرياضيات سيدريك ڤيلاني، والمرشّح آنذاك على لائحة “الجمهورية تمشي قدماً”، الصوت عالياً مطالباً بالحقيقة حول مسؤولية مقتل أودان تحت التعذيب. من على منبر “ميديابارت” نشر ڤيلاني الذي نجح في الوصول إلى البرلمان نائباً عن “الإيسون” (Essone) عريضة وقّعتها 40 شخصية علمية فرنسية، تطالب الرئيس الفرنسي بجلاء الحقيقة كاملة في تلك القضية التي تحوّلت إلى لغز فرنسي وتحوّل بطلها إلى رمز ملهم لكل المناضلين ضد الاستعمار.

بزيارته عائلة أودان وطلبه السماح والاعتذار من جوزيت أودان، وكلامه الشجاع عن “نظام اعتقال وتعذيب وضعته فرنسا لترهيب وقتل المواطنين في حرب الجزائر” يكون ايمانويل ماكرون قد خطا خطوة شبيهة بتلك التي قام بها جاك شيراك عام 1995، حين أعلن مسؤولية فرنسا الرسمية (حكومة ڤيشي) عن سوق آلاف اليهود في “ڤيل ديڤ” في باريس إلى معسكرات الاعتقال وغرف الغاز النازية.

لكنّ خطوة ماكرون، إلى جانب توجّهها السياسي الواضح ورغبتها في مصالحة تاريخية، تعيد الاعتبار أولاً للقيمة العلمية التي حملها أودان كباحث رياضيات وكمواطن إنسان ناضل من أجل استقلال الجزائر، شأنه شأن أسماء كثيرة رفعت اسمه وقضيته عالياً، يأتي في مقدّمها العالم الفذ لوران شفارتز (نظرية الإشارة التجريبية) والمؤرخ الكبير بيار-فيدال ناكيه.

بحسب القراءة الأولية للمؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا، فإنّ شجاعة ماكرون تكمن أولاً في فتحه أخطر ملفات حرب الجزائر، موضوع “التعذيب كسياسة إرهاب” الذي جعلته فرنسا لسنوات “تابو يضرّ بمصلحتها ويشوّه صورتها”، وثانياً في لجم أصوات يمينية انتقدت مطوّلاً سياسة ديغول واعترافه المرّ بالهزيمة في الجزائر واشتراكية- يسارية تبنّت فكرة الجزائر الفرنسية ورفضت الاعتراف باستقلال الجزائر، حملها رئيس الحكومة غي موليه بين عامي 56 و57 وحليفه داخل الجبهة الجمهورية فرانسوا ميتيران، فيما عارضها منفرداً بيار-مينديز فرانس.

فردانية اعتذار ماكرون، بحسب ستورا دائماً، تأتي في سياق رفض مبطّن لسنوات الصمت بخاصة في عهد فرانسوا ميتيران، وهي إذ تفتح النقاش مجدّداً عن حلقات التعذيب في الجزائر، فإنّها تطرح تساؤلات كثيرة عن آلية عمل الرئيس الشاب “الذي فهم أنّ ماضي فرنسا الأسود لن يبقى تابو بعد الآن”، فهو لم يكتفِ بتمرير الرسائل السياسية للجزائر منذ انتخابه، إنّما ذهب إلى فضّ لغز أودان الذي يعتبر، بحسب فريق العمل المقرّب من الرئيس، مقدّمة لطيّ آخر الصفحات الاستعمارية ولتحسين العلاقات الفرنسية- الجزائرية.

في الوقت الذي تعترف فيه فرنسا صاحبة الماضي الاستعماري، ولو بعد 60 عاماً، بتعذيب أحد مواطنيها بسبب نضاله ضد الاستعمار، تستمر الأنظمة العربية في التستّر عن جرائمها في تعذيب وقتل كل صوت يصبو إلى حياة كريمة أكثر عدالة، واذا ما قرّرت الكشف عن حقيقة موت مئات الآلاف في الغرف الانفرادية وفي مهاجع الموت السرّي فإنها تحيل هذا الموت إلى قضاء وقدر اسمه “الذبحة القلبية”. مفارقة تبدو موجعة وهزلية في آخر قلاع “العروبة” و”مناهضة الاستعمار” و”صدّ الهجمة الامبريالية”.

 

إقرأ أيضاً:

يميني يكره المهاجرين : ماتيو سالڤيني أو الرعب الذي يخيّم على أوروبا

شركة فرنسية متهمة بتصنيع براميل الأسد فما قصتها؟