fbpx

حملة الاعتقالات في تونس… محاسبة أم تصفية حسابات؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حملة الاعتقالات هذه هي محاولة لإلهاء الرأي العام عن المشاغل الأساسية، لا يمكن أن تكون المحاسبة بهذه الشاكلة، هي حملة عشوائية مشفوعة بتقارير أمنية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

زار قيس سعيّد ثكنة العوينة العسكرية نهاية شهر كانون الثاني/ يناير من عام 2023، الثكنة التي تعد مركز ثقل سعيّد، ومن قبله مصدر الثقل الأمني لأي نظام سياسي في تونس، والتي لم تتخلص حتى بعد الثورة من الوصم الملاحق لها باعتبارها أداة تهديد للمعارضة. تحدث سعيّد -كعادته – عن الخونة والمتآمرين، واعتبر في لقائه مع عدد من القيادات الأمنيّة والعسكرية، أن هذه الزيارة مفاجئة ولكنّها طبيعية. بعد يوم من تلك الزيارة، تمت إقالة عدد من القيادات الأمنية العليا وإعفاؤهم، بذريعة تخاذلهم في آداء دورهم، أعقب ذلك اللقاء، الذي هُدد فيه عدد من الناشطين والسياسيين، لقاءات كثيرة واعتقالات أكثر، إذ أطلق سعيّد منذ 11 شباط/ فبراير الحالي، حملة أمنية استهدفت عدداً من السياسيين ورجال الأعمال من دون أن يصدر أي توضيح حول سبب إيقافهم إلى وقت متأخر. 

اعتقالات أم إيقافات؟

استيقظت تونس  في ذلك اليوم، على خبر إيقاف وزير المالية السابق والقيادي في حزب التكتل من أجل العمل والحريات خيّام التركي في منزله، اضافة إلى رجل الأعمال كمال اللطيّف، الرجل الذي يوصف على نطاق واسع بأنه رجل الظل الذي يتحكّم في مفاصل الحياة السياسية في تونس، بعد مداهمة منزله بالعاصمة. كما اعتُقال القيادي في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي.

إضافة إلى المذكورين سابقاً، أوقفت قوات الأمن متقاعدين من الجيش التونسي ومن السلك الدبلوماسي، أفرجت عنهما لاحقاً من دون أي اتهام رسمي. واعتُقل بعدها بيوم واحد  الطيب راشد والبشير العكرمي، وهما قاضيان وُقع إعفاؤهما رفقة 55 قاضياً في نهاية السنة الماضية بأمر من سعيد وتنفيذ من وزيرة العدل.

طاولت الحملة أيضاً نور الدين البحيري، الرجل الثاني في حركة النهضة ووزير العدل السابق، والذي سيطر على القضاء التونسي لمدة سنوات، حتى بات القضاء التونسي يُعرف بـ”قضاء البحيري”، نظراً الى التعيينات والإعفاءات التي طرأت على سلك القضاء خلال  إشرافه عليه. وبعد ساعات قليلة من اعتقال البحيري، تم ايقاف نور الدين بوطار، مدير إذاعة “موزاييك أف أم”، الإذاعة الأولى والأكثر انتشاراً في تونس. 

دبلوماسي سابق، عسكري متقاعد، رجل أعمال، ناشط سياسي، قيادي حزبي، قضاة، وزير سابق ومدير إذاعة، هم الحصيلة الأولى للحملة التي قامت بها قوّات الأمن، حصيلة توحي بأن سعيد بات يناصب العداء للجميع، إذ لا يوجد خيط رابط بين مختلف الاعتقالات باستثناء توجّس سعيد من أي معارضة أو تهديد له في المستقبل بعد فشل الانتخابات. المفارقة أن الجلاصي والبحيري هما من أشدّ منتقدي سعيّد ولا يتركان فرصة من دون نقده والدعوة الى معارضته،  في حين لا تُعرف عن اللطيّف والتركي أي آراء معارضة للرئيس، إذ  إن آخر تصريح لهما يعود الى سنوات، قبل وصول سعيّد الى الحكم أصلاً.  

بعد لقائه بقيادات في الحرس الوطني ووزارة الداخلية، واجتماعه بوزيرة العدل ليلى الجفال، أكد سعيد “ضرورة محاسبة كل من أجرم على قدم المساواة”، متعهداً بالمضي قدماً بالقوة والتصميم نفسيهما “لتطهير البلاد”. وأحيل الموقوفون “بتهمة التآمر على أمن الدولة، داخلياً وخارجياً، طبقاً لقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال، كما تم اعتبارهم المسؤولين عن نقص الغذاء وارتفاع الأسعار في البلاد بهدف تأجيج الأوضاع الاجتماعية”. واعتبر سعيد الموقوفين، في غالبيتهم، إرهابيين من دون انتظار محاكمتهم أو مثولهم أمام القضاء، مؤكداً أن الأدلة تنطق قبل أن ينطق القضاء.

ينفي علاء الطالبي، المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لـ”درج”، أن هذه الاعتقالات تهدف إلى  المحاسبة، إذ لا يمكن أن نتحدث عن محاسبة من دون احترام للإجراءات، فالإيقافات والاعتقالات يجب أن تنفذ مع مراعاة حقوق الإنسان، وإشعار وحضور محامٍ، وتوجيه تهم، وهذا لم يحدث في هذه الحملة، هناك مسار قضائي كامل من أبحاث وإذن من وكيل الجمهورية والمثول أمام قاضي التحقيق، وختم الأبحاث حتى يقول القضاء كلمته، هذا الأساس الجوهري للدولة الديمقراطية المتمثّل في احترام الإجراءات والمحاكمة العادلة مهما كانت طبيعة الجريمة أو الشخص المتّهم”.

 يضيف الطالبي، “للأسف الشديد، تصريح السيد رئيس الجمهورية لا يعكس سعيه إلى العدالة، حيث نصّب نفسه قاضياً ووجّه التهم ووصف من أوقفوا واعتقلوا بالإرهابيين. هذه نقطة مخيفة جداً، لذلك في رأيي، حملة الاعتقالات هذه هي محاولة لإلهاء الرأي العام عن المشاغل الأساسية، لا يمكن أن تكون المحاسبة بهذه الشاكلة، هي حملة عشوائية مشفوعة بتقارير أمنية”.

محاسبة أم استرجاع ثقة؟

وتيرة الإيقافات والاعتقالات وزمنها ليسا أمراً اعتباطياً، حيث تجنّدت لهذه الحملة وزارتا العدل والتجارة، وانخرط وزير الخارجية الذي عيّن قبل أسبوع، في تبرير ما يحدث، هذا من دون ذكر مختلف الأجهزة الأمنية، أي أنه تم الترتيب لهذه الحملة خلافاً لقرارات سعيّد الارتجالية، ما يشير إلى أنها محاولة لكسب الثقة وإعادة شعبيّة سعيّد التي انهارت بشكل كامل بعد الانتخابات التي قاطعها أكثر من 90 في المئة من الناخبين.

 بعد الإعلان عن الحملة، أيد طيف واسع من التونسيين، خصوصاً من مناصري مسار 25 تموز/ يوليو، الإيقافات والاعتقالات على رغم الخروقات القانونية والتجاوزات، وبات الحديث عن المحاسبة يطفو على السطح. فنور الدين البحيري، هو أحد أبرز المساهمين في الفساد الذي بلغه القضاء التونسي من خلال معايير الولاء والمحسوبية، التي تم على أساسها تعيين القضاة وتنصيبهم، أما الطيب راشد فتهم الإثراء غير المشروع تلاحقه على رغم تمسكه مراراً بالحصانة، إضافة الى البشير العكرمي الذي ثبت تلاعبه في ملفّ قضيّة الشهيد شكري بلعيد، ولكن لم تُثبت على اللطيّف – المقرّب سابقاً من بن علي – أي تهمة على رغم الإشاعات التي تحوم حوله وحول قربه من دوائر صنع القرار، علماً أن الرجل وثروته وعلاقاته بجهات أجنبية وسياسيين تونسيين محلّ تساؤل، فيما كان خيّام التركي بعيداً من المشهد منذ سنوات من دون أي نشاط يُذكر. 

نظرياً، يعمل سعيّد على تنفيذ كل ما طالبت به المعارضة السياسية، من تتبع للقضاة الفاسدين والنظر في ملف شكري بلعيد، ولكنه على أرض الواقع، يحاول إعادة كسب شرعيّته. ويبدو ذلك واضحاً حين النظر إلى الخروقات التي طاولت حملة الاعتقالات والاستجوابات.

نور الدين بوطار لن يكون الأخير

آخر الذين تم اعتقالهم في هذه الحملة هو نور الدين بوطار، المدير العام لإذاعة “موزاييك أف أم”، الإذاعة الأكثر انتشاراً في تونس، والتي لا يتماشى خطّها التحريري مع مزاج الرئيس، واعتقاله لا يأتي على خلفيّة شبهة فساد أو تآمر على الأمن الداخلي مثل باقي التهم التي طاولت الموقوفين، بحسب محامية بوطار دليلة مصدّق – المعارضة بدورها لسياسات الرئيس – إذ تقول أن إيقاف موكّلها يأتي في سياق الترهيب والتخويف، معتبرةً أن أعوان الأمن فتشوا منزل بوطار لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة، “رافضين الإجابة عن جميع أسئلتنا حول أسباب إيقافه، كما تم سؤال موكّلي حول الخط التحريري للإذاعة وكيف تتم إدارتها، إضافة إلى الأسس التي يتم على ضوئها اختيار الضيوف، ومن يملي على المذيعين محتوى فقراتهم الإعلامية”.

 ومن دون توجيه تهم أو إذن من وكيل الجمهورية، لا يزال بوطار محتجزاً يتعرض للاستجواب حول الخطّ التحريري لمؤسسته، ما يشير الى المستوى الذي بلغته الرقابة في تونس، بخاصة بعد المرسوم 54 الذي بات يهدد المدوّنين والناشطين والصحافيين التونسيين، ويمثل شوكة في خاصرة الإعلام التونسي.

يوضّح محمد ياسين الجلاصي نقيب الصحفيين في تونس لـ”درج” عن خطورة الوضع في تونس وكيف باتت الرئيس يناصب العداء للصحافة التونسية، فحرية التعبير كانت مهددة منذ سنوات، ولكن سعيّد فاقم الوضع وراكم المشاكل أكثر، وها هو اليوم يكتب فصلا جديدا في تهديد حرية التعبير والإعلام باعتقاله لنور الدين بوطار. في ذات السياق اعتبرت منظمة مراسلون بلا حدود إن إيقاف بوطار “بدون مذكرة توقيف أو سبب رسمي واستجوابه الذي تمحور حول اختياراته التحريرية، مرفوض بقدر ما هو مؤشر على القمع الذي تتعرض له الصحافة في تونس”، إذ تراجع ترتيب الصحافة التونسية على مقياس حرية التعبير بعد إجراءات 25 جويلية أكثر من عشرين نقطة بسبب سياسات سعيّد.

 رغم أنه آخر من وقع إيقافه، إلّا أن بوطار لن يكون الأخير في سلسلة الحملة التي شنّها سعيّد للتغطية على فشله، فنور الدين البحيري تم اعتقاله لنفس التهم منذ سنة وقع إخلاء سبيله بعد حوالي خمسة أسابيع دون أي جديد في مسار محاكمته. يبدو أن التخبّط والهروب إلى الأمام بات طاغيًا في قرارات سعيّد، إضافة إلى ترذيل وتشويه مطالب المعارضة،  فاعتقال البحيري بقدر ما كان مطلبًا مشتركا للقوى الديمقراطية، إلا أن طريقة اعتقاله بدون مذكرة رسمية ودون توجيه تهم يجعل منها تصفية حسابات أكثر من كونها محاسبة وتطبيق للقانون.

 أعرب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك في بيان له عن قلقه إزاء الحملة القمعية المتصاعدة في تونس ضد المجتمع المدني ومن يُفترض أنهم معارضون سياسيون للرئيس قيس سعيّد، فيما دافع وبرر نبيل عمّار وزير الخارجية الذي وقع تعيينه حديثا عن ما يحدث معتبراً تصريحات بعض الجهات الأجنبية بخصوص الإيقافات الأخيرة متسرّعة وغير دقيقة ومجانبة للصواب وتمس من استقلالية القضاء التونسي.

 هل ستكون محاولة لاستيعاب الغضب الشعبي -مثل إجراءات 25 جويلية- خصوصا وأنها وجدت نوعا من القبول المجتمعي أم استئناف لمسار المحاسبة أو تصفية حسابات ؟، لا أحد يعلم، وسط رفض المسؤولين التصريح أو توضيح ما يحدث، الأيام وحدها كفيلة بتوضيح ذلك، رغم أن كل ما يحدث يدلّ على سعي سعيّد إلى شن حرب ضد الجميع، النقابيين والصحافيين سيكونون أول ضحايا هذه الحملة لو استمرّت.

18.02.2023
زمن القراءة: 7 minutes

حملة الاعتقالات هذه هي محاولة لإلهاء الرأي العام عن المشاغل الأساسية، لا يمكن أن تكون المحاسبة بهذه الشاكلة، هي حملة عشوائية مشفوعة بتقارير أمنية.

زار قيس سعيّد ثكنة العوينة العسكرية نهاية شهر كانون الثاني/ يناير من عام 2023، الثكنة التي تعد مركز ثقل سعيّد، ومن قبله مصدر الثقل الأمني لأي نظام سياسي في تونس، والتي لم تتخلص حتى بعد الثورة من الوصم الملاحق لها باعتبارها أداة تهديد للمعارضة. تحدث سعيّد -كعادته – عن الخونة والمتآمرين، واعتبر في لقائه مع عدد من القيادات الأمنيّة والعسكرية، أن هذه الزيارة مفاجئة ولكنّها طبيعية. بعد يوم من تلك الزيارة، تمت إقالة عدد من القيادات الأمنية العليا وإعفاؤهم، بذريعة تخاذلهم في آداء دورهم، أعقب ذلك اللقاء، الذي هُدد فيه عدد من الناشطين والسياسيين، لقاءات كثيرة واعتقالات أكثر، إذ أطلق سعيّد منذ 11 شباط/ فبراير الحالي، حملة أمنية استهدفت عدداً من السياسيين ورجال الأعمال من دون أن يصدر أي توضيح حول سبب إيقافهم إلى وقت متأخر. 

اعتقالات أم إيقافات؟

استيقظت تونس  في ذلك اليوم، على خبر إيقاف وزير المالية السابق والقيادي في حزب التكتل من أجل العمل والحريات خيّام التركي في منزله، اضافة إلى رجل الأعمال كمال اللطيّف، الرجل الذي يوصف على نطاق واسع بأنه رجل الظل الذي يتحكّم في مفاصل الحياة السياسية في تونس، بعد مداهمة منزله بالعاصمة. كما اعتُقال القيادي في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي.

إضافة إلى المذكورين سابقاً، أوقفت قوات الأمن متقاعدين من الجيش التونسي ومن السلك الدبلوماسي، أفرجت عنهما لاحقاً من دون أي اتهام رسمي. واعتُقل بعدها بيوم واحد  الطيب راشد والبشير العكرمي، وهما قاضيان وُقع إعفاؤهما رفقة 55 قاضياً في نهاية السنة الماضية بأمر من سعيد وتنفيذ من وزيرة العدل.

طاولت الحملة أيضاً نور الدين البحيري، الرجل الثاني في حركة النهضة ووزير العدل السابق، والذي سيطر على القضاء التونسي لمدة سنوات، حتى بات القضاء التونسي يُعرف بـ”قضاء البحيري”، نظراً الى التعيينات والإعفاءات التي طرأت على سلك القضاء خلال  إشرافه عليه. وبعد ساعات قليلة من اعتقال البحيري، تم ايقاف نور الدين بوطار، مدير إذاعة “موزاييك أف أم”، الإذاعة الأولى والأكثر انتشاراً في تونس. 

دبلوماسي سابق، عسكري متقاعد، رجل أعمال، ناشط سياسي، قيادي حزبي، قضاة، وزير سابق ومدير إذاعة، هم الحصيلة الأولى للحملة التي قامت بها قوّات الأمن، حصيلة توحي بأن سعيد بات يناصب العداء للجميع، إذ لا يوجد خيط رابط بين مختلف الاعتقالات باستثناء توجّس سعيد من أي معارضة أو تهديد له في المستقبل بعد فشل الانتخابات. المفارقة أن الجلاصي والبحيري هما من أشدّ منتقدي سعيّد ولا يتركان فرصة من دون نقده والدعوة الى معارضته،  في حين لا تُعرف عن اللطيّف والتركي أي آراء معارضة للرئيس، إذ  إن آخر تصريح لهما يعود الى سنوات، قبل وصول سعيّد الى الحكم أصلاً.  

بعد لقائه بقيادات في الحرس الوطني ووزارة الداخلية، واجتماعه بوزيرة العدل ليلى الجفال، أكد سعيد “ضرورة محاسبة كل من أجرم على قدم المساواة”، متعهداً بالمضي قدماً بالقوة والتصميم نفسيهما “لتطهير البلاد”. وأحيل الموقوفون “بتهمة التآمر على أمن الدولة، داخلياً وخارجياً، طبقاً لقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال، كما تم اعتبارهم المسؤولين عن نقص الغذاء وارتفاع الأسعار في البلاد بهدف تأجيج الأوضاع الاجتماعية”. واعتبر سعيد الموقوفين، في غالبيتهم، إرهابيين من دون انتظار محاكمتهم أو مثولهم أمام القضاء، مؤكداً أن الأدلة تنطق قبل أن ينطق القضاء.

ينفي علاء الطالبي، المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لـ”درج”، أن هذه الاعتقالات تهدف إلى  المحاسبة، إذ لا يمكن أن نتحدث عن محاسبة من دون احترام للإجراءات، فالإيقافات والاعتقالات يجب أن تنفذ مع مراعاة حقوق الإنسان، وإشعار وحضور محامٍ، وتوجيه تهم، وهذا لم يحدث في هذه الحملة، هناك مسار قضائي كامل من أبحاث وإذن من وكيل الجمهورية والمثول أمام قاضي التحقيق، وختم الأبحاث حتى يقول القضاء كلمته، هذا الأساس الجوهري للدولة الديمقراطية المتمثّل في احترام الإجراءات والمحاكمة العادلة مهما كانت طبيعة الجريمة أو الشخص المتّهم”.

 يضيف الطالبي، “للأسف الشديد، تصريح السيد رئيس الجمهورية لا يعكس سعيه إلى العدالة، حيث نصّب نفسه قاضياً ووجّه التهم ووصف من أوقفوا واعتقلوا بالإرهابيين. هذه نقطة مخيفة جداً، لذلك في رأيي، حملة الاعتقالات هذه هي محاولة لإلهاء الرأي العام عن المشاغل الأساسية، لا يمكن أن تكون المحاسبة بهذه الشاكلة، هي حملة عشوائية مشفوعة بتقارير أمنية”.

محاسبة أم استرجاع ثقة؟

وتيرة الإيقافات والاعتقالات وزمنها ليسا أمراً اعتباطياً، حيث تجنّدت لهذه الحملة وزارتا العدل والتجارة، وانخرط وزير الخارجية الذي عيّن قبل أسبوع، في تبرير ما يحدث، هذا من دون ذكر مختلف الأجهزة الأمنية، أي أنه تم الترتيب لهذه الحملة خلافاً لقرارات سعيّد الارتجالية، ما يشير إلى أنها محاولة لكسب الثقة وإعادة شعبيّة سعيّد التي انهارت بشكل كامل بعد الانتخابات التي قاطعها أكثر من 90 في المئة من الناخبين.

 بعد الإعلان عن الحملة، أيد طيف واسع من التونسيين، خصوصاً من مناصري مسار 25 تموز/ يوليو، الإيقافات والاعتقالات على رغم الخروقات القانونية والتجاوزات، وبات الحديث عن المحاسبة يطفو على السطح. فنور الدين البحيري، هو أحد أبرز المساهمين في الفساد الذي بلغه القضاء التونسي من خلال معايير الولاء والمحسوبية، التي تم على أساسها تعيين القضاة وتنصيبهم، أما الطيب راشد فتهم الإثراء غير المشروع تلاحقه على رغم تمسكه مراراً بالحصانة، إضافة الى البشير العكرمي الذي ثبت تلاعبه في ملفّ قضيّة الشهيد شكري بلعيد، ولكن لم تُثبت على اللطيّف – المقرّب سابقاً من بن علي – أي تهمة على رغم الإشاعات التي تحوم حوله وحول قربه من دوائر صنع القرار، علماً أن الرجل وثروته وعلاقاته بجهات أجنبية وسياسيين تونسيين محلّ تساؤل، فيما كان خيّام التركي بعيداً من المشهد منذ سنوات من دون أي نشاط يُذكر. 

نظرياً، يعمل سعيّد على تنفيذ كل ما طالبت به المعارضة السياسية، من تتبع للقضاة الفاسدين والنظر في ملف شكري بلعيد، ولكنه على أرض الواقع، يحاول إعادة كسب شرعيّته. ويبدو ذلك واضحاً حين النظر إلى الخروقات التي طاولت حملة الاعتقالات والاستجوابات.

نور الدين بوطار لن يكون الأخير

آخر الذين تم اعتقالهم في هذه الحملة هو نور الدين بوطار، المدير العام لإذاعة “موزاييك أف أم”، الإذاعة الأكثر انتشاراً في تونس، والتي لا يتماشى خطّها التحريري مع مزاج الرئيس، واعتقاله لا يأتي على خلفيّة شبهة فساد أو تآمر على الأمن الداخلي مثل باقي التهم التي طاولت الموقوفين، بحسب محامية بوطار دليلة مصدّق – المعارضة بدورها لسياسات الرئيس – إذ تقول أن إيقاف موكّلها يأتي في سياق الترهيب والتخويف، معتبرةً أن أعوان الأمن فتشوا منزل بوطار لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة، “رافضين الإجابة عن جميع أسئلتنا حول أسباب إيقافه، كما تم سؤال موكّلي حول الخط التحريري للإذاعة وكيف تتم إدارتها، إضافة إلى الأسس التي يتم على ضوئها اختيار الضيوف، ومن يملي على المذيعين محتوى فقراتهم الإعلامية”.

 ومن دون توجيه تهم أو إذن من وكيل الجمهورية، لا يزال بوطار محتجزاً يتعرض للاستجواب حول الخطّ التحريري لمؤسسته، ما يشير الى المستوى الذي بلغته الرقابة في تونس، بخاصة بعد المرسوم 54 الذي بات يهدد المدوّنين والناشطين والصحافيين التونسيين، ويمثل شوكة في خاصرة الإعلام التونسي.

يوضّح محمد ياسين الجلاصي نقيب الصحفيين في تونس لـ”درج” عن خطورة الوضع في تونس وكيف باتت الرئيس يناصب العداء للصحافة التونسية، فحرية التعبير كانت مهددة منذ سنوات، ولكن سعيّد فاقم الوضع وراكم المشاكل أكثر، وها هو اليوم يكتب فصلا جديدا في تهديد حرية التعبير والإعلام باعتقاله لنور الدين بوطار. في ذات السياق اعتبرت منظمة مراسلون بلا حدود إن إيقاف بوطار “بدون مذكرة توقيف أو سبب رسمي واستجوابه الذي تمحور حول اختياراته التحريرية، مرفوض بقدر ما هو مؤشر على القمع الذي تتعرض له الصحافة في تونس”، إذ تراجع ترتيب الصحافة التونسية على مقياس حرية التعبير بعد إجراءات 25 جويلية أكثر من عشرين نقطة بسبب سياسات سعيّد.

 رغم أنه آخر من وقع إيقافه، إلّا أن بوطار لن يكون الأخير في سلسلة الحملة التي شنّها سعيّد للتغطية على فشله، فنور الدين البحيري تم اعتقاله لنفس التهم منذ سنة وقع إخلاء سبيله بعد حوالي خمسة أسابيع دون أي جديد في مسار محاكمته. يبدو أن التخبّط والهروب إلى الأمام بات طاغيًا في قرارات سعيّد، إضافة إلى ترذيل وتشويه مطالب المعارضة،  فاعتقال البحيري بقدر ما كان مطلبًا مشتركا للقوى الديمقراطية، إلا أن طريقة اعتقاله بدون مذكرة رسمية ودون توجيه تهم يجعل منها تصفية حسابات أكثر من كونها محاسبة وتطبيق للقانون.

 أعرب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك في بيان له عن قلقه إزاء الحملة القمعية المتصاعدة في تونس ضد المجتمع المدني ومن يُفترض أنهم معارضون سياسيون للرئيس قيس سعيّد، فيما دافع وبرر نبيل عمّار وزير الخارجية الذي وقع تعيينه حديثا عن ما يحدث معتبراً تصريحات بعض الجهات الأجنبية بخصوص الإيقافات الأخيرة متسرّعة وغير دقيقة ومجانبة للصواب وتمس من استقلالية القضاء التونسي.

 هل ستكون محاولة لاستيعاب الغضب الشعبي -مثل إجراءات 25 جويلية- خصوصا وأنها وجدت نوعا من القبول المجتمعي أم استئناف لمسار المحاسبة أو تصفية حسابات ؟، لا أحد يعلم، وسط رفض المسؤولين التصريح أو توضيح ما يحدث، الأيام وحدها كفيلة بتوضيح ذلك، رغم أن كل ما يحدث يدلّ على سعي سعيّد إلى شن حرب ضد الجميع، النقابيين والصحافيين سيكونون أول ضحايا هذه الحملة لو استمرّت.