عام 2020، شاهدتُ مسلسل The Midnight Gospel، الذي لاقى رواجاً كبيراً حينها بسبب عرضه مواضيع حساسة مثل الموت والمخدرات والتأمل من منظور وجودي وإنساني. المسلسل المبني على بودكاست للكوميدي الأميركي دنكن تراسل، يثير مواضيع مع ضيوف استثنائيين ويعطيها طابعاً روحانياً، بخاصة مع تأثّر المؤلف بالبوذية.
في الحلقة السابعة من المسلسل، يعرض تراسل مقتطفات من محادثة مع الكاتبة ومجهِّزة الموتى كايتلين دوتي، والتي تعمل على إصلاح ممارسات الجنازة في العالم الغربي لتكون أكثر حميمية، وهو لربما أمر بعيد عنّا هنا، إذ إنّ مراسيم الدفن تأخذ أهمية أكبر من العالم المتأثر بالرأسمالية السامة.
تقول كايتلين في الحلقة، إنّ الجنازات أخذت طابعاً رأسمالياً استهلاكياً، إذ أصبح هناك شخص متخصّص يتولى مراسم الدفن والاهتمام بالجثة. وقالت إنّه في فترة، انتشرت كذبة دعائية تقول إنّ الجثث تحمل أمراضاً، ولهذا يجب أن يكون هناك متخصص يهتم بمسألة المراسم وغسل الجثة ودفنها، وهذا ما يمنع الأشخاص من أن يودّعوا أجساد أحبائهم عند وفاتهم ويشوّش على مسار الشفاء الذي نحتاجه بعد صدمة الموت.
الحلقة أثرت بي كثيراً حينها، فلم يخبرني أحد سابقاً أن طقوس الدفن الشرقية قد تكون أفضل سيكولوجياً أو نفسياً وتريح الأشخاص في فترة العزاء والشفاء، حتى أنّ تراسل عبّر أنّه لم يجلس مع جثة والده أو والدته بعد الموت لأنّه لم يعلم أهمية الأمر ولم يخبره أحد بهذا كله.
لطالما شعرت بأنّ طريقة الغسل والدفن هي دينية أكثر من كونها تساعد في مراحل العزاء، وكانت هذه الحلقة قد غيّرت الفكرة، ومنها قطعت وعداً بأن أودّع أجساد أحبائي ولو كان الأمر مخيفاً، فأذكر أنّ عمّتي لم تتمكن نفسياً من أن تدخل إلى المغسل عند وفاة جدتي (والدتها)، وهو أمر غالباً ما تقول إنّها ندمت عليه.
توفيت أمي منذ نحو أسبوعين فجأةً وبكل سلام ومن دون عذاب. لم تشكُ أمّي التي لا تزال صغيرة في السن (53 عاماً) من أي مرض، لكن خطفتها ذبحة قلبية تركتني أنا وشقيقتي وشقيقيَّ نواجه العزاء والموت وكلّ خطواته اللوجيستية والعاطفية. لم توصينا أمّي بأي شيء، فهي كانت صغيرة بكل طاقتها وقد يكون الموت آخر ما توقعته أو توقعناه. لم توصِنا أين تدفن أو كيف يكون عزاؤها.
يأتي الموت مع خطوات لاحقة تريح الميت ربما وتريحنا، ومنها غسل الجسد والجلوس معه وحتى دفنه في مقبرة نختار تفاصيل مكانها وتصميم بلاطها. لا أعلم ماذا كانت أمّي لتحبّ، هل كانت لتحبّ القبر الأبيض أو الأسود، هل كانت لتختار أن تدفن في أرض عائلتها أو أرض عائلة زوجها، هل كانت لتختار أن تدفن فوق جدتي أمّ والدي أم وحدها في قبر جديد. لا نعلم، فلم أجرِ حديثاً كهذا معها، ففكرة موتها لم تكن موضوعاً يمكنني مناقشته معها أو مع أيّ أحد، فهو خوف ورعب كبيران بالنسبة إلي، ورعب بعيد جداً، قبل أن يحدث الموت فجأةً ومن دون إنذار. في الأخير، اخترنا المقبرة المناسبة، وهي أرض جديدة في جبّانة عائلتها قريبة من منزلها. وهذا كان الموضوع الأول بعد الوفاة. حاولنا أن نجد أي خيط يدلّ على ماذا كانت لتحبّ، لربما كانت لتحبّ أن تدفن فوق أمّها، لكن أمّها ما زالت على قيد الحياة في أواخر الثمانين، لم نعلم شيئاً، ولهذا اخترنا قبراً مناسباً لوجيستياً ومادياً بما أنّ القبور مكلفة أكثر من المرض.
كانت أمّي شخصاً هادئاً لا يشكو ولا يتعب، ماتت كما هي، جميلة هادئة في أيّام ممطرة كانت تصحو حينما يجب.
لحظة إعلان وفاة أمّي، وحينما رأيت جسدها بلا روح للمرة الأولى، فقدتُ وعيي. أذكر أنّي استيقظت بعد دقائق وقلت “أنا تقبلت ما جرى هي الآن في مكان أفضل”، وهرعت لأقبّل جثتها. ماتت أمّي جميلة، مع ابتسامة صغيرة، وهذا ما أراحني في كل هذه المأساة. قبل وفاتها، فقدت أمّي وعيها بين يدي، ولم أرد أن أتذكرها في هذا المشهد الأخير.
السلام على وجهها أراحني بعد موتها، فلا أريد أن تعلق في ذهني صورة أمّي زرقاء تقاوم طلوع روحها. هذه الصورة التي أخافتني علمت أنّها لن تبقى معي للأبد حينما شاهدت وجهها. أحزن أن يكون أكثر ما هو مريح في هذه التجربة هو الموت.
كانت الحلقة التي شاهدتها من مسلسل Midnight Gospel دائماً في بالي. عليّ أن أبقى مع الجسد وأودّعه وأخبره بكل شيء، ولهذا استيقظت باقتناع تام بعدما فقدت وعيي، علمت أنّني فيما أنهار، أضيع فرصة وداعها، لربما لديّ ساعات قليلة حتى يغادرني الجسد إلى مكان لا أعلمه. لم أترك أمّي في موتها، دخلت أنا وأشقائي وأبي إلى المغسل، حيث حضنّا جسدها البارد وتكلّمنا معه. دخلت عمّتي معنا، لربما تأخذ ما لم تأخذه من وفاة أمّها. رأيت جسد أمي الراقد وكيف حركته المرأتين المسؤولتين عن الغسيل، كيف تحرك معهما، لم أصرخ ولم أخف، شاهدت كل شيء، وقبلتها على كتفها وفي وجهها، والماء تنسكب عليها باردة. كُفنت أمّي بشرشفٍ أبيض وعطّروها بالمسك، ومشينا بها في سيارة الإسعاف ووضعناها على سريرٍ جلسنا جميعنا قربه في منزل والدتها. لا شيء جميل بالوداع، لكنّه مريح، قد تكون هذه المرة الأولى التي أجلس فيها بسلام، من دون قلق، وفي بالي أمر واحد وهو أن أعبّر وأقول لها كل شيء وأودّعها. على رغم الحزن في كل شيء، قد تكون لحظة السكون والسلام الأخيرة في حياتي هي مع جسد أمي الميت. فلن أجد هذه اللحظة مطلقاً.
الأموات ليسوا مخيفين، والأجساد هي أجساد لا تعني شيئاً. الأموات يغادرون إلى سلامٍ محتّم وعلينا أن نأخذ قليلاً من سلامهم، ولو للحظة. حظيت أمّي بفرصة أن تموت جميلة بسلام، وأعضاؤها موجودة. حظيت بفرصة أن أتمكن من توديعها وأحضنها. لم أكن يوماً دينية، وعليّ أن أعترف بأنّ الأشخاص المقربين من الدين لديهم وازع أكثر منّي لأهمية الجلوس مع الجسد والتكلم معه، لكن علمت هذا كله من مسلسل شاهدته ولربما كان من حظّي أنّني شاهدته، ولربما كان من حظّي أنّ أمي ماتت جميلة بسلام.
في ظل كلّ ما يجري اليوم حولنا من موت عميم، أدركتُ لماذا يلملمون الأشلاء، ولماذا يتوسل الأهل الأطباء أن يروا أحباءهم قبل دفنهم في غزة، حتى لو كانت الجثث لا تليق بالصورة التي نعرفها عن الكمال والأجساد. فهذه الفرصة الأخيرة للوداع لأنّنا سنشتاق مدى الحياة.
كنت لأول مرة في حياتي ممتنة للتقاليد والأعراف، ممتنة أّنني ولدت في جزء من العالم يمكن أن أغسل فيه أمواتي وأقبلهم قبل رحيلهم.
يعلّمنا الموت أنّ الأجساد لا قيمة لها، وأنّ هناك فكرة أكبر من هذا كله. لا أعلم أين يذهب الأموات، لكن أعلم أنّ جسد أمّي تحت التراب غادرني للمرة الأخيرة في يوم جمعة الساعة 12:30، وهذه كانت المرة الأخيرة التي أراه فيها وأشعر به. كان هذا الانهيار الأخير لي، وكان الانهيار الأخير لشقيقيّ في دفنها. لا يمكن النساء دفن نسائهنّ، هذا ما تعلمته أيضاً من تقاليد تمارس حولي في لحظة الموت. نحن نودّع أمواتنا على سرير ويذهب الرجال بهم إلى القبر لأنّ بنيتهم ونفسيتهم تساعدهم على وضع الميّت في التراب أكثر من النساء، هذا كان السبب المعلن على الأقل، على رغم أن شقيقتي تقول إنّها كانت لتنزل إلى القبر 4 أمتار وتضع جسد أمي فيه وتخرج منه، فهي استثمرت سنواتها الأخيرة في ممارسة الرياضة لتتمكن من فعل أمور كهذه.
هذا المقال ليس تعبيراً عن المأساة، هو توصية منّي بأن تودّعوا أمواتكم وتجلسوا مع أجسادهم وتقبلوها، وتحضنوها، وبأن تخبروهم بكل شيء، وأن تستغلوا هذه اللحظات الأخيرة. هذا المقال ليس ليبكيكم أو لأرمي عليكم صدمتي أو أعبّر عن مشاعر الفقدان، وليس لأصف لكم شخصية أمّي، أو أرثيها بل لأصف موتها. فلا أحد يحضّركم للموت لأنّه مخيف، ولا أحد يحضركم للوجيستيات العزاء ولا أحد سيصفعكم ليخرجكم من الصدمة الأولى حتى تستمروا في البقاء لدفن الجسد وتكريمه، وإخراجه من برّاد الموتى، ودفع أجر البراد، وتحضير النعوة، والتكلم مع الجبانة، وأخذ الجثة في الإسعاف من المستشفى إلى المغسل ومن المغسل إلى المنزل ومن المنزل إلى القبر، وتحضير سرير يمكن أن تجلبوا الجثة إليه.
لن يخبركم أحد أنّ في وسط هذا كله عليكم أن تلقوا الوداع وأن تتحدثوا مع الجسد وتقبلوه وتخبروه بكل شيء، لأجلكم لا لأجله. سيخبركم الجميع عن كم دزينة معمول عليك أن تحضر للتوزيع على المعزين، وعن الشرع وكيف تجلسون وتستقبلون. لن يخبركم أحد أنّ غسل الموتى ليس مخيفاً وأنّكم بحاجة الى القليل من الوقت مع الجسد لتبدأوا مرحلة العزاء، ومن ثم مرحلة الشفاء. لن يشفيكم هذا كله، لكن سيكون بداية للشفاء، وللتصالح مع فكرة أنّ الأجساد هي أجساد وأنّ الأشخاص يغادرون الى مكان أفضل.
ماتت أمّي بهدوء وسلام، وغادرت للمرة الأخيرة منزلها في كفنٍ أبيض. كانت لربما أصعب لحظة في حياتي. تركت أمّي 4 أولاد ووالدي على هذه الأرض، وعلى رغم أنّنا اجتزنا هذه المرحلة، أعترف بأنّنا صغار لمواجهة هذه المأساة. لم أتوقع يوماً أن أودّع الشخص المفضل عندي أولاً أو أطبّق ما سمعته في حلقة من مسلسل بهذا العمر مع أمّي.
حظيت أمّي بميتة جميلة هادئة وساكنة، لها وليس لنا. فموتها كان صعباً والشفاء منه لن يكون سهلاً. كانت أمّي شخصاً هادئاً لا يشكو ولا يتعب، ماتت كما هي، جميلة هادئة في أيّام ممطرة كانت تصحو حينما يجب. ماتت أمّي بسلام وسط عالم ينهار. غادرت من دون خوف. سأتذكرها للأبد، كل يوم حينما أستيقظ، وقبل أن أنام، في كلّ مرة تأخذني الأمواج، وفي كلّ مرة أشتمّ رائحة جميلة، وفي كلّ مرة تمطر أو تسطع الشمس أو أرى النجوم، كل يوم، للأبد.
إقرأوا أيضاً: