fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

حين تكلّم عبد الناصر بلا أقنعة: من يتحمّل عبء الهزائم؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نشرت قناة “Nasser TV” تسجيلاً أثار قدراً كبيراً من الجدل، تسجيلاً للقاء جمع جمال عبد الناصر بالقذافي في آب/ أغسطس 1970، قبل وفاته بشهر واحد تقريباً، ومباشرة بعد قبول مصر “مبادرة روجرز” لوقف إطلاق النار، يبدو التسجيل وكأنه نافذة نادرة على الكواليس الخلفية للسياسة العربية في تلك الفترة الحرجة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مساء قائظ من آب/ أغسطس 1970، كانت القاهرة تختزن في جدرانها ما هو أكثر من حرارة الصيف: توتّر أمّة بكاملها، وإرث هزيمة ثقيل، وأحلام معلّقة بين السماء والأرض. في غرفة اجتماعات مغلقة في القصر الجمهوري، لم يكن المشهد مجرّد لقاء عابر بين زعيمين عربيين، بل كان مرآة مكشوفة لصراع أجيال وأفكار: بين واقعية سياسية فرضتها الهزيمة، وأحلام وحدة وثورة، ما زالت مشتعلة في صدور الشباب.

جلس جمال عبد الناصر، الزعيم الذي حملته الجماهير يوماً على الأكتاف، مثقلاً بالخسارة، متعباً من صخب الشعارات، محصناً بمرارة التجربة. أمامه جلس معمّر القذافي العقيد الليبي الشاب حديث العهد بالسلطة، بعينين تلمعان بحماسة الثورة، يبحث عن وصيّة، عن خارطة طريق تصله بتاريخ المجد الذي حلم به عبد الناصر وأدماه الواقع.

لم يكن اللقاء احتفالاً بوحدة عربية مرتقبة، ولا جلسة ترميم لما تصدّع من المشروع القومي. كان أقرب إلى مواجهة جيلية صامتة: القذافي يتحدّث عن تحرير فلسطين وتوحيد العرب وكتابة التاريخ من جديد، بينما عبد الناصر يُصغي بصبر ثقيل، كمن يعرف أن الحلم صار عبئاً، وأن الطريق إلى الخلاص مفعم بالأكاذيب والخذلان.

في ذلك التسجيل النادر، الذي ظلّ حبيس الأدراج لعقود، خرج صوت عبد الناصر لا كخطيب يُلهب الجماهير، بل كرجل دولة يواجه الحقيقة بأقصى درجات المرارة. لم يتحدّث عن الانتصار: اتفضّلوا أنتم… إحنا يا سيدي استسلاميين وانهزاميين… اللي عايز قتال وتحرير يتفضّل، الجزائر بومدين عايز يتفضّل، العراق عايز يتفضّل، سوريا عايزة تتفضّل، ليبيا عايزة تتفضّل، وإحنا هنمولكم بخمسين مليون جنيه. يعني تمسكونا وترمونا في البحر وتقولوا لنا متتبلوش؟ ألقاه في اليمّ وقال له: إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء!!

في تلك اللحظة، لم يكن عبد الناصر يواجه القذافي وحده، بل أيضاً تاريخاً من الوعود التي تحوّلت إلى خيبات، وشعوباً أُنهكت وهي تلهث خلف شعارات، لم تجد من يحميها بالدم والعرق إلا القليل. كان صوته يحمل اعترافاً نادراً بأن مصر لم تعد تحتمل عبء البطولة وحدها، ولا ثمن الحروب المجانية باسم شعوب تُتقن الخطابة وتنكص عن الفعل.

لم يكن هذا المشهد روائياً متخيلاً، بل واقعة موثّقة على شريط تسجيلي لم يُكشف عنه إلا حديثاً، وبعد أكثر من نصف قرن، خرج صوت عبد الناصر من عزلته الأرشيفية، لا ليحكي فقط عن نهاية رجل أو عصر، بل ليضع نقطة النهاية لفكرة القومية العربية، كما حلم بها جيله: الحلم الكبير الذي أنهكه تضارب المصالح، وخذلان الحلفاء، ومحدودية الممكن في عالم تحكمه موازين قوى لا ترحم.

هكذا، أعاد عبد الناصر بصوته المتعب والمتحرر من أقنعة الزعامة، طرح الأسئلة التي لم تغادر الوجدان العربي: من يدفع ثمن الشعارات؟ من يتحمّل عبء الهزائم؟ وهل البطولة أن نستمرّ في الحلم على رغم أنف الواقع، أم أن الشجاعة الحقيقية هي الاعتراف حين تصبح الهزيمة قدراً لا مفرّ منه؟

في ذلك المساء القاهري، كتب عبد الناصر بصوته – لا بقلمه – الوصية الأخيرة: السياسة ليست عنترية ولا خطباً نارية، بل هي حساب شاقّ للدم والأرض والكرامة، والأحلام العظيمة، حين تعجز عن تغيير الواقع، قد تنكسر، ولكنها لا تُنسى.

صندوق باندورا: القناة والتسجيلات

في عام 2018، بدأت فكرة إنشاء قناة على منصّة “يوتيوب” مخصّصة لنشر تراث الرئيس جمال عبد الناصر، ووفقاً لبيان صاحب القناة، كان الهدف الأساسي هو تقديم “التاريخ كمادّة خام بلسان صانعه”. بعد عرض الفكرة على عبد الحكيم نجل الرئيس الراحل، وموافقته عليها، أُطلقت  قناة “Nasser TV”، التي وصفت نفسها بأنها “القناة الرسمية لموقع الرئيس جمال عبد الناصر التابع لمكتبة الإسكندرية”.

مذاك، نشرت القناة مئات التسجيلات، معظمها خطابات عامّة وبعضها لاجتماعات سرية، لكن التسجيل التي أثار أكبر قدر من الجدل، هو التسجيل للقاء الذي جمعه بالقذافي في آب/ أغسطس 1970، قبل وفاته بشهر واحد تقريباً، ومباشرة بعد قبول مصر “مبادرة روجرز” لوقف إطلاق النار، حتى أن التعليقات في البداية أشارت إلى أنه تسريب مقصود من جهة سيادية، للإشارة إلى الضغوط التي يعيشها النظام المصري الحالي في مواجهة إسرائيل.

يبدو التسجيل وكأنه نافذة نادرة على الكواليس الخلفية للسياسة العربية في تلك الفترة الحرجة. تحدّث فيه عبد الناصر عن خيبة أمله من “المزايدين” العرب، والتحدّيات الهائلة التي تواجه مصر، ورؤيته الواقعية لمعادلات القوى الإقليمية والدولية.

لفهم هذه التسجيلات، يجب وضعها في سياقها التاريخي الدقيق. أُجري الحوار بين عبد الناصر والقذافي بعد ثلاث سنوات من هزيمة 1967، وفي خضمّ حرب الاستنزاف. كانت مصر وافقت للتوّ على “مبادرة روجرز”، التي اقترحها وزير الخارجية الأميركي ويليام روجرز في أيلول/ ديسمبر 1969، استجابة لاندلاع القتال بين مصر وإسرائيل في حرب الاستنزاف، ونتيجة للهجمات الفدائية الفلسطينية عبر الأردن، والفشل المستمرّ لـ”مهمّة يارنج”، وهي الجهد الدبلوماسي للأمم المتّحدة الذي بدأ بعد حرب 1967.

حملت المبادرة تصوّراً للتسوية يتضمّن الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلّة، مقابل اعتراف مصر والأردن بإسرائيل، وكانت تهدف إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 242. في الوقت ذاته، كانت إدارة نيكسون تسعى إلى تحقيق حالة من “الوفاق” مع الاتحاد السوفياتي، الذي كان يزوّد مصر بالطائرات المقاتلة والصواريخ والمعدّات العسكرية الأخرى.

رفضت مصر والأردن والدول العربية الأخرى المبادرة في البداية، لأنها لم تكن ترغب في التعامل المباشر مع إسرائيل، وكانت تريد حلاً تفرضه الأمم المتّحدة، يُجبر إسرائيل على إخلاء الأراضي المحتلة. كما رفضتها إسرائيل في كانون الأول/ ديسمبر 1969، بحجّة أنها “ستضرّ بفرص إقامة السلام” من خلال الإضرار “بحقوق إسرائيل السيادية وأمنها”.

لكنّ عبد الناصر قبل ما عُرف بـ”مبادرة روجرز الثانية” في حزيران/ يونيو 1970، وهي خطّة لوقف إطلاق النار، ووفقاً لتحليل الكاتب محمد بصل، فقد “استفاق بعد هزيمة 67 ووصف العالم العربي نصّاً بـ”أمّة تحت التأسيس”، واعترف في غير موضع بخطئه لمّا تصوّر قدرتها على اتخاذ موقف موحّد.

بحسب شهادات وتحليلات تاريخية؛ وهو ما ينساه الخصوم المتطرّفون لناصر وعهده، كان هدف عبد الناصر من قبول المبادرة الأميركية لوقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل، هو منح جيشه الفرصة لإتمام حائط الصواريخ، وتحقيق القفزة النهائية للحائط حتى الحافّة الغربية لقناة السويس، ما يجعل القوّات المسلّحة المصرية قادرة على العبور نحو سيناء بحماية حائط الصواريخ، وبدونه كانت القاهرة والعمق المصري سيكونان ملعباً مفتوحاً للطيران الإسرائيلي.

“اللي إيده بالمية مش زي اللي إيده بالنار”

يكشف التسجيل المتداول منذ أواخر نيسان/ أبريل 2025، عن نقاش محتدم بين عبد الناصر والقذافي حول كيفية التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967.

في التسجيل، يشرح عبد الناصر رؤيته الواقعية للصراع، قائلاً: “إحنا عاوزين نرجّع كلّ حاجة مرّة واحدة، أراضي 67 و48 مرّة واحدة، ولكن إسرائيل كان عندها مخطط نجحت في تنفيذه ضدّنا في خمس وعشرين سنة، في 47 قبلوا التقسيم، وفي 48 أخدوا أكبر مما أُعطي لهم في التقسيم، وفي 56 أخدوا سينا ورجّعوها لينا تاني، وفي 67 أخدوا كلّ فلسطين وسينا والجولان، ودلوقتي بيخططوا للخطوة القادمة من الفرات للنيل”.

عندما سأله القذافي عن حرب الاستنزاف، أجاب عبد الناصر: “الاستنزاف بيكون أمامه استنزاف مضادّ، وأنا لو مكان الملك حسين هقبل رجوع الضفّة الغربية منزوعة السلاح”، وأضاف موضحاً: “مينفعش يحصل تحرير كامل للأراضي من موقف ذاتي، لكن لازم يبقى فيه موقف دولي خطير يدفع أميركا إنها تتدخّل لأن الموضوع في إيد أميركا، ومفيش انسحاب بدون مقابل”.

في جزء آخر من التسجيل، يُظهر عبد الناصر إدراكه العميق لتفاصيل ما كان يحصل في الأردن قبيل أحداث “أيلول الأسود”، ويُشير إلى أنه كان مطلعاً على المعلومات الاستخبارية المتعلّقة بالصراع بين الفصائل الفلسطينية والملك حسين. وبشكل شبه ساخر من طموحات الفلسطينيين وإدراك واقعي لما يصعب  تحقيقه عملياً، قال: ” بالتوفيق لهم، والله لو هيعرفوا ينقلبوا على الملك حسين فعلاً ويبقوا بموقع الدولة… لأن اللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار”.

هذا التعبير الشعبي استخدمه عبد الناصر ليؤكّد أن من يعيش التجربة على الأرض، ليس كمن يتحدّث عنها من بعيد، وأن الواقع في الأردن معقّد وممتلئ بالمخاطر، وأن الانقلاب على الملك حسين، أو إقامة كيان فلسطيني مستقلّ هناك، ليس أمراً يسيراً كما يتخيّله البعض. هكذا، عكس عبد الناصر في حديثه مزيجاً من المعرفة الدقيقة، والواقعية السياسية، ونوعاً من التهكّم المرير على الشعارات، التي لا تضع في اعتبارها كلفة الفعل الحقيقي.

في مواجهة انتقادات القذافي لـ”مبادرة روجرز”، قارنها عبد الناصر باتّفاقية الجلاء في عام 1954، حينها قبل باستمرار استخدام البريطانيين القواعد العسكرية في مصر، ثم ألغى ذلك بعد سنتين مع تأميم قناة السويس في 1956، متوخياً الحكمة ذاتها: “أنا عارف أنا بعمل إيه”.

“حمّالة أوجه”: ردود الفعل المتباينة

تحوّلت هذه التسجيلات، وفقاً لصاحب القناة، إلى “حمّالة أوجه وفقاً لرؤية كلّ تيّار سياسي لها”، وقد انقسمت التحليلات إلى اتّجاهات عدّة، ما بين مدافع عن عبد الناصر ومهاجم له، ومستشهد بمواقفه لتأييد مواقف سياسية معاصرة.

“بعض الناصريين لم يعجبهم أن يقول عبد الناصر إنه لا يريد المخاطرة بشعبه، وإنه يقبل بحلّ سلمي شامل للصراع العربي – الإسرائيلي، يضمن عودة كلّ الأراضي العربية التي احتُلّت في عام 1967، كما ينصّ على حلّ مشكلة اللاجئين، كما امتعضوا من رأي الرئيس عبد الناصر السلبي بحكّام الدول العربية، وتنديده بتخاذلهم عن نصرة مصر، وتأكيده أنهم يتآمرون لإسقاطه”.

في المقابل، “رأى أنصار السادات في كلام الرئيس عبد الناصر دليلاً على صحّة توجّه الرئيس السادات إلى السلام مع إسرائيل ومعاداة العرب”، لكن صاحب القناة يعقّب: “شتان ما بين رغبة عبد الناصر في سلام شامل وعادل، بينما هو في حالة حرب مع إسرائيل، ويواصل بناء جيشه، ويرفض المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، ويصرّ على عودة كلّ الأراضي العربية المحتلّة في 1967، وحلّ قضية اللاجئين، وبين ما قام به السادات بعد نصر تشرين الأول/ أكتوبر 1973، من تهافت على السلام مع إسرائيل، ومن تسليم للأميركيين، ومن قبول شروط رفضها عبد الناصر وهو مهزوم”.

يرى شادي الغزالي حرب أن “الأرجح أن عبد الناصر كان سيتّجه لإقامة سلام مع إسرائيل، لاستعادة “كامل” الأراضي المحتلّة في 67، وكان سيستخدم شعبيته بين الشعوب العربية، وسطوته على القادة للضغط عليهم للدخول معه في هذا المسار”، مستدلاً بوثائق تُشير إلى قنوات سرية فُتحت بين عبد الناصر وإسرائيل، عرضت خلالها “عودة سيناء في مقابل السلام مع مصر، لكنّ عبد الناصر رفض وتمسّك بأراضي 67.

الكاتب عبده فايد قدّم تحليلاً نقدياً حاداً، واصفاً عبد الناصر بأنه كان “مهزوماً بشكل مخيف”، وأنه “جنى غرس يديه… تخلّى عنه العسكريون العرب الذين تمكنّوا وهم يستلهمون نموذج جبروته المحلّي… وانتظر خونة العروش العربية من السعوديين للأردنيين انحسار نفوذه، للشماتة فيه”.

لكن الكاتب علي رضا دافع عن عبد الناصر، مشيراً إلى أن “المسألة مستندة إلى ثلاث مقارنات لا بدّ من القيام بها: موازين القوّة في عام 1956، وفراغات الموقف الدولي التي لعب عليها عبد الناصر بذكاء، وموازين القوّة في عام 1970، التي غابت فيها هذه الفراغات تماماً”، إضافة إلى المقارنة بين “الموقف العربي في عام 1968، حين تحدّث عبد الناصر عن أن الالتزام العربي تجاه فلسطين هو “أن نكون أو لا نكون”، وبين الموقف العربي في عام 1970 بوصفهم ظاهرة صوتية”، وأخيراً التفرقة بين “سياسات عبد الناصر التي بنت قوّة مصر، وسياسات السادات التي فكّكت قوّة مصر الداخلية قبل الخارجية، بناءً على التوصيات الأميركية الاقتصادية والعسكرية”.

ثمّة إشكالية أخرى حول هذه التسجيلات، تتعلّق بمصدرها وجهة نشرها، فبينما ادّعت قناة “Nasser TV” أنها “القناة الرسمية لموقع الرئيس جمال عبد الناصر التابع لمكتبة الإسكندرية”، نفت المكتبة هذا الارتباط بشكل قاطع.

في بيان رسمي أصدرته في 27 نيسان/ أبريل 2025، أكّدت مكتبة الإسكندرية أنها “غير مسؤولة عن أي موادّ متداولة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، تخصّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بخلاف الموقع الرسمي للزعيم الراحل، الذي كان نتاج تعاون منذ العام 2004 بين المكتبة ومؤسسة “جمال عبد الناصر”، برئاسة الدكتورة هدى عبد الناصر”.

وأضافت المكتبة أن “الموادّ الرقمية الموجودة في الموقع” أُهديت “من المؤسّسة إلى مكتبة الإسكندرية”، التي “نفّذت الجانب التقني للإتاحة، بهدف الحفاظ على الإرث الثقافي والسياسي للرئيس الراحل، وإتاحته للأجيال القادمة”، وشدّدت على أن “موقع الرئيس جمال عبد الناصر المُنشأ من مكتبة الإسكندرية، ليس لديه أي صفحات رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي تخصّها”، ونفت “مسؤوليتها عن أي محتوى نُشر عبر قنوات التواصل الاجتماعي”، مؤكّدة أنها “لا تتبنّى أو تروّج لأي محتوى لا يتماشى مع مهمّتها الأكاديمية والبحثية”.

وقد جاء بيان مكتبة الإسكندرية “بعد حالة الجدل التي أثارها تسجيل صوتي منسوب للرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي؛ كانت نشرته قناة على يوتيوب تحمل اسم ناصر”.

في ضوء هذا النفي الرسمي، برزت تساؤلات عن مصدر هذه التسجيلات، وكيفية وصولها إلى أيدي القائمين على القناة. يزعم صاحب القناة أن “المهندس عبد الحكيم جمال عبد الناصر” هو من أمدّه “بنسخة من اجتماعات الرئيس عبد الناصر ولقاءاته، من لنشرها على قناة Nasser TV”.

لكن مع نفي مكتبة الإسكندرية أي علاقة رسمية بالقناة، تزداد الشكوك حول مدى صحّة هذا الادّعاء، بخاصّة أن بعض المعلّقين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، متسائلين عمّا إذا كانت جهات سياسية أو أمنية تقف وراء نشر هذه التسجيلات في هذا التوقيت بالذات.

تراث محفوظ لكن محلّ نزاع

الجدير بالذكر أن الاهتمام بتوثيق تراث عبد الناصر ليس جديداً. إذ بدأت مكتبة الإسكندرية “مشروع توثيق تراث جمال عبد الناصر في عام 2004، بالتعاون مع مؤسسة جمال عبد الناصر، التي تديرها ابنته هدى، في أرشفة وثائق الرئيس الراحل وحفظها”، وأعلنت المكتبة آنذاك أنها “تسلّمت نحو 51 ألف وثيقة وصورة في إطار مشروع توثيقي رقمي يضمّ نسخاً مصوّرة من أهمّ الوثائق الخاصّة بعبد الناصر”.

وفي حزيران/ يونيو 2018، “تطوّر المشروع بالتعاون مع “أسرة الرئيس” ليشمل قناة على “يوتيوب” باسم “ناصر تي في'”، يتبيّن من ذلك أن هناك علاقة رسمية سابقة بين المكتبة والقناة، ربما تغيّرت لاحقاً، أو أسيء استخدامها.

كما نشرت هدى عبد الناصر ابنة الرئيس الراحل، ثلاثة مجلدات من الأوراق الخاصّة بوالدها بعنوان “جمال عبد الناصر: الأوراق الخاصّة”، عن الهيئة المصرية العامّة للكتاب في عام 2015. تتضمّن هذه المجلّدات “تفاصيل عدة عن حياة جمال عبد الناصر تُنشر للمرة الأولى”، وتكشف عن “ناصر كطالب في المدرسة الثانوية، والتحاقه بالكلية الحربية بالقاهرة، وتخرّجه كضابط، وخدمته العسكرية ومشاركته في حرب فلسطين 1948”.

توثّق هذه الجهود مدى حرص عبد الناصر نفسه على تسجيل تاريخه وتوثيقه، “كان الرئيس جمال عبد الناصر مهتمّاً بتوثيق تاريخه، لذا حرص على تسجيل كلّ اجتماعاته ولقاءاته مع وزرائه ومعاونيه، وكذلك مع القادة والزعماء من شتّى أنحاء العالم، وكان المرحوم سامي شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للمعلومات، هو المسؤول عن عملية تسجيل كلّ لقاءات الرئيس واجتماعاته”.

وهو ما يدحض، بحسب صاحب القناة، “اتّهامه بالديكتاتورية، فلا يوجد ديكتاتور يسجّل لنفسه، كما أنه يُثبت أن الرجل لم تكن على رأسه بطحة يحرص على إخفائها”.

يمكن اعتبار هذه التسجيلات، بغضّ النظر عن مصدرها أو توقيت نشرها، وثائق تاريخية نادرة تتيح لنا إعادة قراءة شخصية عبد الناصر وفترة حكمه، برؤية أكثر تعقيداً من الصورة النمطية السائدة عنه، سواء السلبية أو الإيجابية.

تقدّم التسجيلات عبد الناصر بحسب صاحب القناة “كرجل دولة قادر على رصد كلّ المتغيّرات حوله وتحليلها، حتى وهو في أحلك سنوات حكمه، كما أنها تردّ على المزايدين الذين نسبوا الى عبد الناصر أقوالاً لم يتفوّه بها مطلقاً، كما أنها تفتح الباب لإعادة قراءة تاريخ جمال عبد الناصر بلسان عبد الناصر ذاته”.

“على رغم صدور آلاف الكتب عن الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أن قناعتي كانت راسخة بأن تاريخه الحقيقي لم يُكتب بعد”، يقول صاحب القناة في البيان المرفق، وربما يكون محقاً في ذلك، إذ إن التاريخ الرسمي عادة ما يتشكّل وفقاً للمصالح السياسية وتوجّهات السلطة الحاكمة.

حتى الصورة الشعبية لعبد الناصر تأثّرت كثيراً بالأيديولوجيات والتوجّهات السياسية المختلفة، ما بين تقديس ممجّد وتشويه ساخط. في حين أن الواقع، كما تكشفه هذه التسجيلات، أعقد بكثير من هذا التبسيط الاختزالي.

تُظهر التسجيلات أن عبد الناصر كان يعي جيداً حدود القوّة المصرية، وضعف التضامن العربي الحقيقي، وتعقيدات المعادلة الدولية، وربما كان ذلك هو السبب الذي جعله يقبل “مبادرة روجرز” بعدما رفضها في البداية.

“الحقيقة أن عبد الناصر لم يرفض مطلقاً الحلّ السلمي للصراع العربي – الإسرائيلي، ولكنّ رؤيته لهذا الحلّ كانت قائمة على شرطين: الأول أن يكون الحلّ شاملاً على كلّ الجبهات، والثاني ألا يجعل هذا الحلّ من مصر دولة هامشية في محيطها العربي”.

لم تكن المشكلة الحقيقية، كما يتّضح من التسجيلات، استعادة سيناء فحسب، بل كانت “تهويد الضفّة الغربية والقدس”، وهو ما يعكس رؤية استراتيجية أعمق من مجرّد استعادة أرض مصرية محتلّة.

صوت من الماضي… وأسئلة للمستقبل

بينما كانت شرائط المسجلات القديمة تدور لتُفرغ أسرارها، وجد الشارع العربي نفسه أمام صورة أشدّ تعقيداً لجمال عبد الناصر في خواتيم حياته. فليس عبد الناصر في التسجيلات قائداً منتصراً متعالياً، ولا هو ذاك المهزوم المستسلم الذي صوّره البعض، إنه يبدو أقرب إلى رجل دولة مُثقَل بالتجربة: يجلس مع معاونيه في منزله في منشية البكري، يُقلّب الخيارات المرّة بعد النكسة، ينتقد بصراحة تقصير الإخوة العرب، ويتمسّك في الوقت ذاته بخيار المقاومة المدروسة. نسمعه يقول للقذافي بثقة: “أنا عارف أنا بعمل إيه”، في إشارة إلى قبوله مبادرة وقف إطلاق النار تكتيكياً، ونسمعه أيضاً يُبدي أسفه العميق لأن الحلم الكبير الذي عاش من أجله – وحدة الأمة العربية في وجه العدوان – بدا أبعد منالاً من أي وقت مضى.

هذه الثنائية في موقف عبد الناصر، هي ما جعلت تسجيلاته الأخيرة “حمّالة أوجه” بحقّ. فهي من جهة تُظهر زعيماً واقعياً لم يكابر عندما تراجع ميزان القوى ضدّ بلاده، بل فكّر في بدائل تحفظ لمصر كرامتها وتعدّها لمعركة التحرير عندما تتهيأ الظروف، ومن جهة أخرى، تُعرّي هذه التسجيلات جانباً إنسانياً هشاً لعبد الناصر قلّما رآه الناس: زعيم مُثخن بالجراح، يشعر بالخذلان، ويبوح لمقرّبيه بأن أعباء الأمة أثقل من أن يحملها بلد واحد مهما عَظُم.

هذا البوح بالذات هو ما اعتبره البعض سلاحاً ذا حدين. فإذا كان خصوم الناصرية يريدون استخدامه لإثبات فشل المشروع برمته، فإن محبي عبد الناصر يرون فيه دليلاً على صدق الرجل مع نفسه ومع شعبه حتى في أحلك الظروف – فقد كان مستعداً لمصارحة الناس بحقيقة ما يحصل لو كُتب له وقت أطول.

الأكيد أن حكاية نشر تسجيلات عبد الناصر الأخيرة تجاوزت مجرّد حدث ثقافي أرشيفي، لتصبح ظاهرة سياسية وفكرية بامتياز، فهي أثارت داخل مصر والعالم العربي نقاشاً حيوياً حول إرث حقبة الستينات وما تلاها: هل كان عبد الناصر بطلاً قومياً مضحوكاً عليه من الأشقاء الخونة؟ أم مسؤولاً عن جزء كبير من خيبات تلك الحقبة؟ وهل كانت القومية العربية حلماً صادقاً أجهضته المؤامرات؟ أم وهماً جميلاً اصطدم بحقائق الجغرافيا السياسية؟

هناك من استمع إلى شرائط عبد الناصر وازداد إعجاباً ببعد نظره – إذ أدرك مبكراً صعوبة تحرير فلسطين دفعة واحدة، ودعا إلى حلّ واقعي يحفظ ما أمكن من الحقوق، وهناك من سمعها فازداد نقمة، إذ تأكد أن الشعارات الثورية الكبرى آنذاك، لم تكن سوى خطابات للاستهلاك الإعلامي، بينما أُجريت التسويات الحقيقية خلف الكواليس. وبين هؤلاء وأولئك، برزت أصوات تدعو للاستفادة الهادئة من دروس الماضي، فالتاريخ – كما يُقال – يعيد نفسه لمن لا يقرأونه جيداً. وها هو تاريخنا يقدّم نفسه لنا “كمادّة خام” بصوت أحد صنّاعه الكبار.

ربما آن الأوان أن نُعمِل عقولنا في ما نسمع بعيداً عن العواطف: أن نفهم سياقات الهزيمة وظروف صنع القرار في عام 1970، وأن نقارنها بحالنا اليوم. هل تعلّمنا من أخطاء تلك المرحلة؟ هل تجاوزنا حقاً إرث الانقسامات العربية التي اشتكى منها عبد الناصر؟ أم ازدادت عمقاً واتساعاً؟

ربما يكون السؤال الأكثر إلحاحاً هو: لماذا تلقى هذه التسجيلات كلّ هذا الاهتمام الآن، بعد أكثر من 50 عاماً من تسجيلها؟ وهل هناك دلالات سياسية معاصرة لنشرها في هذا التوقيت بالذات؟

يرى بعض المحلّلين أن نشر هذه التسجيلات في خضم الأزمات الراهنة في المنطقة، وبخاصّة في ظل الحرب الإسرائيلية على غزّة، يحمل رسائل سياسية معاصرة، تتعلّق بمواقف الدول العربية وعلاقاتها مع بعضها بعضاً، ومع القضية الفلسطينية.

“بالنسبة لنا قيام البعض بتفسير التسجيلات على أنها إدراك متأخر من عبد الناصر لخسّة العرب وخيانتهم!!”، يعترض صاحب القناة على هذا التفسير مؤكّداً أن “عبد الناصر عاش ومات مخلصاً ومدافعاً عن الشعوب العربية، ومشكلته كانت مع الحكّام فقط، وقد كان مدركاً لخسّتهم منذ البداية، ومراجعة خطبه العلنية عن حكّام العالم العربي ملكيين وجمهوريين قبل 1967 متاحة ومنشورة”.

ويضيف أن “عبد الناصر لم يكفر بالعروبة ولا بالشعوب العربية، ولكنّه كفر بالحكّام المزايدين المراهقين ثورياً، الراغبين في توريط مصر في مشاكلهم”.

محمد بصل يرى أن “ما حدث آخر عام ونصف العام يجب أن يُعيد طرح الأسئلة بجدّية: من هم العرب؟ وهل هناك مشروع عربي قابل للعمل والتطور؟ وهل آليات العمل العربي وتصوّراته القائمة منذ الستينات صالحة لزمننا؟ وهل يمكن إهدار المزيد من الأحلام والوقت والجهد من أجل تصوّرات التحالف، أو التنسيق مع أنظمة اختارت النفاق والإيذاء والتدمير سبيلاً لمجرّد أنها عربية؟”.

وزاد من أهمية التسجيل وتأثيره تزامن نشره مع “حديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن قناة السويس التي قال فيها، إنه من المفترض أن يكون مرور السفن العسكرية الأميركية في القناة بشكل مجاني، بزعم أنه لولا بلاده لما وُجدت قناتا السويس وبنما، ما زاد من التفاعل عليه بشكل أكبر”.

مع ذلك، تبقى هذه التسجيلات المثيرة للجدل، وثائق تاريخية نادرة تُتيح للباحثين والمهتّمين بالتاريخ، فرصة سماع صوت عبد الناصر وهو يشرح رؤيته ومواقفه بلسانه، في لحظات حرجة من تاريخ مصر والمنطقة.

وبغضّ النظر عن أي استخدام سياسي أو أيديولوجي لهذه التسجيلات في الوقت الراهن، فإنها تمثّل نافذة نادرة على العقلية السياسية لقائد عربي محوري شكّل تاريخ المنطقة لعقود، وما زال تأثيره حاضراً في الوعي والخطاب السياسي المعاصر.

“لم تتوافر مثل هذه الموادّ السمعية المسجّلة لأي زعيم سياسي عربي أو عالمي، مثلما توافرت للرئيس عبد الناصر”، كما يقول صاحب القناة بحقّ. وهو ما يجعل من هذه التسجيلات كنزاً تاريخياً يستحقّ الدراسة الموضوعية والتحليل العلمي، بعيداً عن التوظيف السياسي العابر.

يتلخّص جوهر هذه التسجيلات في إظهار عبد الناصر كإنسان وليس كأسطورة، زعيماً كان يتّخذ قراراته في ظروف ضاغطة وتحدّيات هائلة، وكانت لديه رؤية واقعية للعالم. لم يكن كما صوّره خصومه ديكتاتوراً متهوراً، ولا كما صوّره مؤيّدوه بطلاً خارقاً، كان، ببساطة، زعيماً سياسياً عصامياً، يقود بلداً في ظروف إقليمية ودولية معقّدة، محاولاً الموازنة بين الطموحات الكبيرة والإمكانات المحدودة.

وربما تكون تلك هي القيمة الحقيقية لهذه التسجيلات أنها تنزع هالة الأسطورة عن عبد الناصر، وتُعيد تقديمه كإنسان يتّخذ قراراته انطلاقاً من فهمه الواقعي للظروف، ويُخطئ أحياناً، ويُصيب أحياناً أخرى، وليس كما صوّرته الأيديولوجيات المتصارعة عبر عقود.

” الاستنتاج الأهمّ من هذا التسريب هو أن “العنترية والحنجورية كانت خطاباً يُقدَّم للشعوب كجزء من بروباغندا لخدمة الأنظمة”، كما يقول شادي الغزالي حرب. وربما يكون في ذلك تلخيص لواحد من أهمّ الدروس التاريخية التي يمكن استخلاصها من هذه التسجيلات: الفجوة الدائمة بين الخطاب العلني والمواقف الحقيقية، بين الشعارات الثورية والحسابات السياسية الواقعية.

نحن اليوم، بعد أكثر من نصف قرن من تلك التسجيلات، ما زلنا نعاني من المعضلات ذاتها، ونواجه التحدّيات نفسها، وربما بصورة أشد تعقيداً وإلحاحاً، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تعلّمنا شيئاً من دروس التاريخ؟ أم أننا ندور في حلقة مفرغة من الشعارات الكبيرة والإنجازات الصغيرة؟ من الوعود الضخمة والنتائج الهزيلة؟ من الخطاب المتضخّم والواقع المتواضع؟

ربما تكون هذه التسجيلات في نهاية المطاف، دعوة لإعادة النظر ليس فقط في تاريخ عبد الناصر، بل في تاريخنا المعاصر ككلّ، وفي الأساطير السياسية التي شكّلت وعينا، وفي المسلّمات الفكرية التي توارثناها من دون نقد أو تمحيص، دعوة لقراءة جديدة نقدية، تتجاوز التبسيط والتسطيح، وتستوعب تعقيدات الواقع وتناقضاته، وتفتح آفاقاً جديدة للفهم والعمل في حاضر لا يقلّ تحدّياً وإشكالية عن ذلك الماضي البعيد القريب. 

تسريبات “ناصر TV” ليست مجرّد وثائق صوتية من زمن مضى، بل مرآة حيّة لمآسي الحاضر العربي، تكشف كيف يمكن للزعامة الفردية حين تحتكر القرار وتختزل السياسة في شخص القائد، أن تزرع بذور الهزيمة وتُورث الانكسار للأجيال التالية. في تلك التسجيلات، يتجلّى صوت عبد الناصر لا كـ”بطل خارق” أو “خطيب جماهيري”، بل كزعيم منكسر يواجه خيبات الحلفاء قبل خصومة الأعداء، ويعترف بأن مصر دفعت وحدها ثمن الشعارات والمزايدات، بينما اكتفى الآخرون بالخطابة من بعيد.

الأخطر أن النموذج ذاته لم ينتهِ برحيل عبد الناصر، بل أُعيد إنتاجه مراراً في أنظمة عربية لاحقة، حيث تحوّلت الذاكرة الجماعية من أداة للتحرّر والنقد، إلى وسيلة للهيمنة وتبرير استمرار الاستبداد. هكذا، يصبح استحضار الماضي ليس بحثاً عن الدروس، بل إعادة تدوير للهزائم ذاتها، في مشهد تتوارث فيه الشعوب ثقل الخيبة وتُحرم من حقّها في المشاركة وصناعة القرار.

تلك التسجيلات تذكّرنا بأن التاريخ حين يُحتكر ويُختزل في صوت واحد، يتحوّل من طاقة للتحرّر إلى قيد جديد، ومن فرصة للمراجعة إلى تبرير للجمود، وربما يكون الدرس الأهمّ ألا خلاص للعرب إلا حين تتحرّر السياسة من سطوة الفرد، وتستعيد الشعوب حقّها في النقد والمساءلة، وتكفّ عن تقديس الزعامات وتكرار أخطاء الماضي، تحت لافتة “الحنجورية” والشعارات الكبرى، فالهزيمة، كما تكشفها تلك الأصوات المؤجّلة، ليست قدراً مكتوباً، بل نتيجة خيارات، يمكن أن تتغيّر حين تتغيّر قواعد اللعبة نفسها.

رنا الصبّاغ- كاتبة وصحافية أردنية | 23.05.2025

الرقص على أوجاع الغزّيين !…عندما تعطّل واشنطن وتل أبيب ديناميات الأمم المتّحدة 

أثناء كتابة هذا المقال، بدأت كوادر في الشركات الجديدة ومتعهّدون أمنيون ومرتزقة، بالوصول مع معدّاتهم إلى إسرائيل، استعداداً لدخول غزّة، وتطبيق الخطّة الإشكالية البديلة عن المسار الأممي.
29.04.2025
زمن القراءة: 17 minutes

نشرت قناة “Nasser TV” تسجيلاً أثار قدراً كبيراً من الجدل، تسجيلاً للقاء جمع جمال عبد الناصر بالقذافي في آب/ أغسطس 1970، قبل وفاته بشهر واحد تقريباً، ومباشرة بعد قبول مصر “مبادرة روجرز” لوقف إطلاق النار، يبدو التسجيل وكأنه نافذة نادرة على الكواليس الخلفية للسياسة العربية في تلك الفترة الحرجة.

في مساء قائظ من آب/ أغسطس 1970، كانت القاهرة تختزن في جدرانها ما هو أكثر من حرارة الصيف: توتّر أمّة بكاملها، وإرث هزيمة ثقيل، وأحلام معلّقة بين السماء والأرض. في غرفة اجتماعات مغلقة في القصر الجمهوري، لم يكن المشهد مجرّد لقاء عابر بين زعيمين عربيين، بل كان مرآة مكشوفة لصراع أجيال وأفكار: بين واقعية سياسية فرضتها الهزيمة، وأحلام وحدة وثورة، ما زالت مشتعلة في صدور الشباب.

جلس جمال عبد الناصر، الزعيم الذي حملته الجماهير يوماً على الأكتاف، مثقلاً بالخسارة، متعباً من صخب الشعارات، محصناً بمرارة التجربة. أمامه جلس معمّر القذافي العقيد الليبي الشاب حديث العهد بالسلطة، بعينين تلمعان بحماسة الثورة، يبحث عن وصيّة، عن خارطة طريق تصله بتاريخ المجد الذي حلم به عبد الناصر وأدماه الواقع.

لم يكن اللقاء احتفالاً بوحدة عربية مرتقبة، ولا جلسة ترميم لما تصدّع من المشروع القومي. كان أقرب إلى مواجهة جيلية صامتة: القذافي يتحدّث عن تحرير فلسطين وتوحيد العرب وكتابة التاريخ من جديد، بينما عبد الناصر يُصغي بصبر ثقيل، كمن يعرف أن الحلم صار عبئاً، وأن الطريق إلى الخلاص مفعم بالأكاذيب والخذلان.

في ذلك التسجيل النادر، الذي ظلّ حبيس الأدراج لعقود، خرج صوت عبد الناصر لا كخطيب يُلهب الجماهير، بل كرجل دولة يواجه الحقيقة بأقصى درجات المرارة. لم يتحدّث عن الانتصار: اتفضّلوا أنتم… إحنا يا سيدي استسلاميين وانهزاميين… اللي عايز قتال وتحرير يتفضّل، الجزائر بومدين عايز يتفضّل، العراق عايز يتفضّل، سوريا عايزة تتفضّل، ليبيا عايزة تتفضّل، وإحنا هنمولكم بخمسين مليون جنيه. يعني تمسكونا وترمونا في البحر وتقولوا لنا متتبلوش؟ ألقاه في اليمّ وقال له: إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء!!

في تلك اللحظة، لم يكن عبد الناصر يواجه القذافي وحده، بل أيضاً تاريخاً من الوعود التي تحوّلت إلى خيبات، وشعوباً أُنهكت وهي تلهث خلف شعارات، لم تجد من يحميها بالدم والعرق إلا القليل. كان صوته يحمل اعترافاً نادراً بأن مصر لم تعد تحتمل عبء البطولة وحدها، ولا ثمن الحروب المجانية باسم شعوب تُتقن الخطابة وتنكص عن الفعل.

لم يكن هذا المشهد روائياً متخيلاً، بل واقعة موثّقة على شريط تسجيلي لم يُكشف عنه إلا حديثاً، وبعد أكثر من نصف قرن، خرج صوت عبد الناصر من عزلته الأرشيفية، لا ليحكي فقط عن نهاية رجل أو عصر، بل ليضع نقطة النهاية لفكرة القومية العربية، كما حلم بها جيله: الحلم الكبير الذي أنهكه تضارب المصالح، وخذلان الحلفاء، ومحدودية الممكن في عالم تحكمه موازين قوى لا ترحم.

هكذا، أعاد عبد الناصر بصوته المتعب والمتحرر من أقنعة الزعامة، طرح الأسئلة التي لم تغادر الوجدان العربي: من يدفع ثمن الشعارات؟ من يتحمّل عبء الهزائم؟ وهل البطولة أن نستمرّ في الحلم على رغم أنف الواقع، أم أن الشجاعة الحقيقية هي الاعتراف حين تصبح الهزيمة قدراً لا مفرّ منه؟

في ذلك المساء القاهري، كتب عبد الناصر بصوته – لا بقلمه – الوصية الأخيرة: السياسة ليست عنترية ولا خطباً نارية، بل هي حساب شاقّ للدم والأرض والكرامة، والأحلام العظيمة، حين تعجز عن تغيير الواقع، قد تنكسر، ولكنها لا تُنسى.

صندوق باندورا: القناة والتسجيلات

في عام 2018، بدأت فكرة إنشاء قناة على منصّة “يوتيوب” مخصّصة لنشر تراث الرئيس جمال عبد الناصر، ووفقاً لبيان صاحب القناة، كان الهدف الأساسي هو تقديم “التاريخ كمادّة خام بلسان صانعه”. بعد عرض الفكرة على عبد الحكيم نجل الرئيس الراحل، وموافقته عليها، أُطلقت  قناة “Nasser TV”، التي وصفت نفسها بأنها “القناة الرسمية لموقع الرئيس جمال عبد الناصر التابع لمكتبة الإسكندرية”.

مذاك، نشرت القناة مئات التسجيلات، معظمها خطابات عامّة وبعضها لاجتماعات سرية، لكن التسجيل التي أثار أكبر قدر من الجدل، هو التسجيل للقاء الذي جمعه بالقذافي في آب/ أغسطس 1970، قبل وفاته بشهر واحد تقريباً، ومباشرة بعد قبول مصر “مبادرة روجرز” لوقف إطلاق النار، حتى أن التعليقات في البداية أشارت إلى أنه تسريب مقصود من جهة سيادية، للإشارة إلى الضغوط التي يعيشها النظام المصري الحالي في مواجهة إسرائيل.

يبدو التسجيل وكأنه نافذة نادرة على الكواليس الخلفية للسياسة العربية في تلك الفترة الحرجة. تحدّث فيه عبد الناصر عن خيبة أمله من “المزايدين” العرب، والتحدّيات الهائلة التي تواجه مصر، ورؤيته الواقعية لمعادلات القوى الإقليمية والدولية.

لفهم هذه التسجيلات، يجب وضعها في سياقها التاريخي الدقيق. أُجري الحوار بين عبد الناصر والقذافي بعد ثلاث سنوات من هزيمة 1967، وفي خضمّ حرب الاستنزاف. كانت مصر وافقت للتوّ على “مبادرة روجرز”، التي اقترحها وزير الخارجية الأميركي ويليام روجرز في أيلول/ ديسمبر 1969، استجابة لاندلاع القتال بين مصر وإسرائيل في حرب الاستنزاف، ونتيجة للهجمات الفدائية الفلسطينية عبر الأردن، والفشل المستمرّ لـ”مهمّة يارنج”، وهي الجهد الدبلوماسي للأمم المتّحدة الذي بدأ بعد حرب 1967.

حملت المبادرة تصوّراً للتسوية يتضمّن الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلّة، مقابل اعتراف مصر والأردن بإسرائيل، وكانت تهدف إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 242. في الوقت ذاته، كانت إدارة نيكسون تسعى إلى تحقيق حالة من “الوفاق” مع الاتحاد السوفياتي، الذي كان يزوّد مصر بالطائرات المقاتلة والصواريخ والمعدّات العسكرية الأخرى.

رفضت مصر والأردن والدول العربية الأخرى المبادرة في البداية، لأنها لم تكن ترغب في التعامل المباشر مع إسرائيل، وكانت تريد حلاً تفرضه الأمم المتّحدة، يُجبر إسرائيل على إخلاء الأراضي المحتلة. كما رفضتها إسرائيل في كانون الأول/ ديسمبر 1969، بحجّة أنها “ستضرّ بفرص إقامة السلام” من خلال الإضرار “بحقوق إسرائيل السيادية وأمنها”.

لكنّ عبد الناصر قبل ما عُرف بـ”مبادرة روجرز الثانية” في حزيران/ يونيو 1970، وهي خطّة لوقف إطلاق النار، ووفقاً لتحليل الكاتب محمد بصل، فقد “استفاق بعد هزيمة 67 ووصف العالم العربي نصّاً بـ”أمّة تحت التأسيس”، واعترف في غير موضع بخطئه لمّا تصوّر قدرتها على اتخاذ موقف موحّد.

بحسب شهادات وتحليلات تاريخية؛ وهو ما ينساه الخصوم المتطرّفون لناصر وعهده، كان هدف عبد الناصر من قبول المبادرة الأميركية لوقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل، هو منح جيشه الفرصة لإتمام حائط الصواريخ، وتحقيق القفزة النهائية للحائط حتى الحافّة الغربية لقناة السويس، ما يجعل القوّات المسلّحة المصرية قادرة على العبور نحو سيناء بحماية حائط الصواريخ، وبدونه كانت القاهرة والعمق المصري سيكونان ملعباً مفتوحاً للطيران الإسرائيلي.

“اللي إيده بالمية مش زي اللي إيده بالنار”

يكشف التسجيل المتداول منذ أواخر نيسان/ أبريل 2025، عن نقاش محتدم بين عبد الناصر والقذافي حول كيفية التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967.

في التسجيل، يشرح عبد الناصر رؤيته الواقعية للصراع، قائلاً: “إحنا عاوزين نرجّع كلّ حاجة مرّة واحدة، أراضي 67 و48 مرّة واحدة، ولكن إسرائيل كان عندها مخطط نجحت في تنفيذه ضدّنا في خمس وعشرين سنة، في 47 قبلوا التقسيم، وفي 48 أخدوا أكبر مما أُعطي لهم في التقسيم، وفي 56 أخدوا سينا ورجّعوها لينا تاني، وفي 67 أخدوا كلّ فلسطين وسينا والجولان، ودلوقتي بيخططوا للخطوة القادمة من الفرات للنيل”.

عندما سأله القذافي عن حرب الاستنزاف، أجاب عبد الناصر: “الاستنزاف بيكون أمامه استنزاف مضادّ، وأنا لو مكان الملك حسين هقبل رجوع الضفّة الغربية منزوعة السلاح”، وأضاف موضحاً: “مينفعش يحصل تحرير كامل للأراضي من موقف ذاتي، لكن لازم يبقى فيه موقف دولي خطير يدفع أميركا إنها تتدخّل لأن الموضوع في إيد أميركا، ومفيش انسحاب بدون مقابل”.

في جزء آخر من التسجيل، يُظهر عبد الناصر إدراكه العميق لتفاصيل ما كان يحصل في الأردن قبيل أحداث “أيلول الأسود”، ويُشير إلى أنه كان مطلعاً على المعلومات الاستخبارية المتعلّقة بالصراع بين الفصائل الفلسطينية والملك حسين. وبشكل شبه ساخر من طموحات الفلسطينيين وإدراك واقعي لما يصعب  تحقيقه عملياً، قال: ” بالتوفيق لهم، والله لو هيعرفوا ينقلبوا على الملك حسين فعلاً ويبقوا بموقع الدولة… لأن اللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار”.

هذا التعبير الشعبي استخدمه عبد الناصر ليؤكّد أن من يعيش التجربة على الأرض، ليس كمن يتحدّث عنها من بعيد، وأن الواقع في الأردن معقّد وممتلئ بالمخاطر، وأن الانقلاب على الملك حسين، أو إقامة كيان فلسطيني مستقلّ هناك، ليس أمراً يسيراً كما يتخيّله البعض. هكذا، عكس عبد الناصر في حديثه مزيجاً من المعرفة الدقيقة، والواقعية السياسية، ونوعاً من التهكّم المرير على الشعارات، التي لا تضع في اعتبارها كلفة الفعل الحقيقي.

في مواجهة انتقادات القذافي لـ”مبادرة روجرز”، قارنها عبد الناصر باتّفاقية الجلاء في عام 1954، حينها قبل باستمرار استخدام البريطانيين القواعد العسكرية في مصر، ثم ألغى ذلك بعد سنتين مع تأميم قناة السويس في 1956، متوخياً الحكمة ذاتها: “أنا عارف أنا بعمل إيه”.

“حمّالة أوجه”: ردود الفعل المتباينة

تحوّلت هذه التسجيلات، وفقاً لصاحب القناة، إلى “حمّالة أوجه وفقاً لرؤية كلّ تيّار سياسي لها”، وقد انقسمت التحليلات إلى اتّجاهات عدّة، ما بين مدافع عن عبد الناصر ومهاجم له، ومستشهد بمواقفه لتأييد مواقف سياسية معاصرة.

“بعض الناصريين لم يعجبهم أن يقول عبد الناصر إنه لا يريد المخاطرة بشعبه، وإنه يقبل بحلّ سلمي شامل للصراع العربي – الإسرائيلي، يضمن عودة كلّ الأراضي العربية التي احتُلّت في عام 1967، كما ينصّ على حلّ مشكلة اللاجئين، كما امتعضوا من رأي الرئيس عبد الناصر السلبي بحكّام الدول العربية، وتنديده بتخاذلهم عن نصرة مصر، وتأكيده أنهم يتآمرون لإسقاطه”.

في المقابل، “رأى أنصار السادات في كلام الرئيس عبد الناصر دليلاً على صحّة توجّه الرئيس السادات إلى السلام مع إسرائيل ومعاداة العرب”، لكن صاحب القناة يعقّب: “شتان ما بين رغبة عبد الناصر في سلام شامل وعادل، بينما هو في حالة حرب مع إسرائيل، ويواصل بناء جيشه، ويرفض المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، ويصرّ على عودة كلّ الأراضي العربية المحتلّة في 1967، وحلّ قضية اللاجئين، وبين ما قام به السادات بعد نصر تشرين الأول/ أكتوبر 1973، من تهافت على السلام مع إسرائيل، ومن تسليم للأميركيين، ومن قبول شروط رفضها عبد الناصر وهو مهزوم”.

يرى شادي الغزالي حرب أن “الأرجح أن عبد الناصر كان سيتّجه لإقامة سلام مع إسرائيل، لاستعادة “كامل” الأراضي المحتلّة في 67، وكان سيستخدم شعبيته بين الشعوب العربية، وسطوته على القادة للضغط عليهم للدخول معه في هذا المسار”، مستدلاً بوثائق تُشير إلى قنوات سرية فُتحت بين عبد الناصر وإسرائيل، عرضت خلالها “عودة سيناء في مقابل السلام مع مصر، لكنّ عبد الناصر رفض وتمسّك بأراضي 67.

الكاتب عبده فايد قدّم تحليلاً نقدياً حاداً، واصفاً عبد الناصر بأنه كان “مهزوماً بشكل مخيف”، وأنه “جنى غرس يديه… تخلّى عنه العسكريون العرب الذين تمكنّوا وهم يستلهمون نموذج جبروته المحلّي… وانتظر خونة العروش العربية من السعوديين للأردنيين انحسار نفوذه، للشماتة فيه”.

لكن الكاتب علي رضا دافع عن عبد الناصر، مشيراً إلى أن “المسألة مستندة إلى ثلاث مقارنات لا بدّ من القيام بها: موازين القوّة في عام 1956، وفراغات الموقف الدولي التي لعب عليها عبد الناصر بذكاء، وموازين القوّة في عام 1970، التي غابت فيها هذه الفراغات تماماً”، إضافة إلى المقارنة بين “الموقف العربي في عام 1968، حين تحدّث عبد الناصر عن أن الالتزام العربي تجاه فلسطين هو “أن نكون أو لا نكون”، وبين الموقف العربي في عام 1970 بوصفهم ظاهرة صوتية”، وأخيراً التفرقة بين “سياسات عبد الناصر التي بنت قوّة مصر، وسياسات السادات التي فكّكت قوّة مصر الداخلية قبل الخارجية، بناءً على التوصيات الأميركية الاقتصادية والعسكرية”.

ثمّة إشكالية أخرى حول هذه التسجيلات، تتعلّق بمصدرها وجهة نشرها، فبينما ادّعت قناة “Nasser TV” أنها “القناة الرسمية لموقع الرئيس جمال عبد الناصر التابع لمكتبة الإسكندرية”، نفت المكتبة هذا الارتباط بشكل قاطع.

في بيان رسمي أصدرته في 27 نيسان/ أبريل 2025، أكّدت مكتبة الإسكندرية أنها “غير مسؤولة عن أي موادّ متداولة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، تخصّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بخلاف الموقع الرسمي للزعيم الراحل، الذي كان نتاج تعاون منذ العام 2004 بين المكتبة ومؤسسة “جمال عبد الناصر”، برئاسة الدكتورة هدى عبد الناصر”.

وأضافت المكتبة أن “الموادّ الرقمية الموجودة في الموقع” أُهديت “من المؤسّسة إلى مكتبة الإسكندرية”، التي “نفّذت الجانب التقني للإتاحة، بهدف الحفاظ على الإرث الثقافي والسياسي للرئيس الراحل، وإتاحته للأجيال القادمة”، وشدّدت على أن “موقع الرئيس جمال عبد الناصر المُنشأ من مكتبة الإسكندرية، ليس لديه أي صفحات رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي تخصّها”، ونفت “مسؤوليتها عن أي محتوى نُشر عبر قنوات التواصل الاجتماعي”، مؤكّدة أنها “لا تتبنّى أو تروّج لأي محتوى لا يتماشى مع مهمّتها الأكاديمية والبحثية”.

وقد جاء بيان مكتبة الإسكندرية “بعد حالة الجدل التي أثارها تسجيل صوتي منسوب للرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي؛ كانت نشرته قناة على يوتيوب تحمل اسم ناصر”.

في ضوء هذا النفي الرسمي، برزت تساؤلات عن مصدر هذه التسجيلات، وكيفية وصولها إلى أيدي القائمين على القناة. يزعم صاحب القناة أن “المهندس عبد الحكيم جمال عبد الناصر” هو من أمدّه “بنسخة من اجتماعات الرئيس عبد الناصر ولقاءاته، من لنشرها على قناة Nasser TV”.

لكن مع نفي مكتبة الإسكندرية أي علاقة رسمية بالقناة، تزداد الشكوك حول مدى صحّة هذا الادّعاء، بخاصّة أن بعض المعلّقين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، متسائلين عمّا إذا كانت جهات سياسية أو أمنية تقف وراء نشر هذه التسجيلات في هذا التوقيت بالذات.

تراث محفوظ لكن محلّ نزاع

الجدير بالذكر أن الاهتمام بتوثيق تراث عبد الناصر ليس جديداً. إذ بدأت مكتبة الإسكندرية “مشروع توثيق تراث جمال عبد الناصر في عام 2004، بالتعاون مع مؤسسة جمال عبد الناصر، التي تديرها ابنته هدى، في أرشفة وثائق الرئيس الراحل وحفظها”، وأعلنت المكتبة آنذاك أنها “تسلّمت نحو 51 ألف وثيقة وصورة في إطار مشروع توثيقي رقمي يضمّ نسخاً مصوّرة من أهمّ الوثائق الخاصّة بعبد الناصر”.

وفي حزيران/ يونيو 2018، “تطوّر المشروع بالتعاون مع “أسرة الرئيس” ليشمل قناة على “يوتيوب” باسم “ناصر تي في'”، يتبيّن من ذلك أن هناك علاقة رسمية سابقة بين المكتبة والقناة، ربما تغيّرت لاحقاً، أو أسيء استخدامها.

كما نشرت هدى عبد الناصر ابنة الرئيس الراحل، ثلاثة مجلدات من الأوراق الخاصّة بوالدها بعنوان “جمال عبد الناصر: الأوراق الخاصّة”، عن الهيئة المصرية العامّة للكتاب في عام 2015. تتضمّن هذه المجلّدات “تفاصيل عدة عن حياة جمال عبد الناصر تُنشر للمرة الأولى”، وتكشف عن “ناصر كطالب في المدرسة الثانوية، والتحاقه بالكلية الحربية بالقاهرة، وتخرّجه كضابط، وخدمته العسكرية ومشاركته في حرب فلسطين 1948”.

توثّق هذه الجهود مدى حرص عبد الناصر نفسه على تسجيل تاريخه وتوثيقه، “كان الرئيس جمال عبد الناصر مهتمّاً بتوثيق تاريخه، لذا حرص على تسجيل كلّ اجتماعاته ولقاءاته مع وزرائه ومعاونيه، وكذلك مع القادة والزعماء من شتّى أنحاء العالم، وكان المرحوم سامي شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للمعلومات، هو المسؤول عن عملية تسجيل كلّ لقاءات الرئيس واجتماعاته”.

وهو ما يدحض، بحسب صاحب القناة، “اتّهامه بالديكتاتورية، فلا يوجد ديكتاتور يسجّل لنفسه، كما أنه يُثبت أن الرجل لم تكن على رأسه بطحة يحرص على إخفائها”.

يمكن اعتبار هذه التسجيلات، بغضّ النظر عن مصدرها أو توقيت نشرها، وثائق تاريخية نادرة تتيح لنا إعادة قراءة شخصية عبد الناصر وفترة حكمه، برؤية أكثر تعقيداً من الصورة النمطية السائدة عنه، سواء السلبية أو الإيجابية.

تقدّم التسجيلات عبد الناصر بحسب صاحب القناة “كرجل دولة قادر على رصد كلّ المتغيّرات حوله وتحليلها، حتى وهو في أحلك سنوات حكمه، كما أنها تردّ على المزايدين الذين نسبوا الى عبد الناصر أقوالاً لم يتفوّه بها مطلقاً، كما أنها تفتح الباب لإعادة قراءة تاريخ جمال عبد الناصر بلسان عبد الناصر ذاته”.

“على رغم صدور آلاف الكتب عن الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أن قناعتي كانت راسخة بأن تاريخه الحقيقي لم يُكتب بعد”، يقول صاحب القناة في البيان المرفق، وربما يكون محقاً في ذلك، إذ إن التاريخ الرسمي عادة ما يتشكّل وفقاً للمصالح السياسية وتوجّهات السلطة الحاكمة.

حتى الصورة الشعبية لعبد الناصر تأثّرت كثيراً بالأيديولوجيات والتوجّهات السياسية المختلفة، ما بين تقديس ممجّد وتشويه ساخط. في حين أن الواقع، كما تكشفه هذه التسجيلات، أعقد بكثير من هذا التبسيط الاختزالي.

تُظهر التسجيلات أن عبد الناصر كان يعي جيداً حدود القوّة المصرية، وضعف التضامن العربي الحقيقي، وتعقيدات المعادلة الدولية، وربما كان ذلك هو السبب الذي جعله يقبل “مبادرة روجرز” بعدما رفضها في البداية.

“الحقيقة أن عبد الناصر لم يرفض مطلقاً الحلّ السلمي للصراع العربي – الإسرائيلي، ولكنّ رؤيته لهذا الحلّ كانت قائمة على شرطين: الأول أن يكون الحلّ شاملاً على كلّ الجبهات، والثاني ألا يجعل هذا الحلّ من مصر دولة هامشية في محيطها العربي”.

لم تكن المشكلة الحقيقية، كما يتّضح من التسجيلات، استعادة سيناء فحسب، بل كانت “تهويد الضفّة الغربية والقدس”، وهو ما يعكس رؤية استراتيجية أعمق من مجرّد استعادة أرض مصرية محتلّة.

صوت من الماضي… وأسئلة للمستقبل

بينما كانت شرائط المسجلات القديمة تدور لتُفرغ أسرارها، وجد الشارع العربي نفسه أمام صورة أشدّ تعقيداً لجمال عبد الناصر في خواتيم حياته. فليس عبد الناصر في التسجيلات قائداً منتصراً متعالياً، ولا هو ذاك المهزوم المستسلم الذي صوّره البعض، إنه يبدو أقرب إلى رجل دولة مُثقَل بالتجربة: يجلس مع معاونيه في منزله في منشية البكري، يُقلّب الخيارات المرّة بعد النكسة، ينتقد بصراحة تقصير الإخوة العرب، ويتمسّك في الوقت ذاته بخيار المقاومة المدروسة. نسمعه يقول للقذافي بثقة: “أنا عارف أنا بعمل إيه”، في إشارة إلى قبوله مبادرة وقف إطلاق النار تكتيكياً، ونسمعه أيضاً يُبدي أسفه العميق لأن الحلم الكبير الذي عاش من أجله – وحدة الأمة العربية في وجه العدوان – بدا أبعد منالاً من أي وقت مضى.

هذه الثنائية في موقف عبد الناصر، هي ما جعلت تسجيلاته الأخيرة “حمّالة أوجه” بحقّ. فهي من جهة تُظهر زعيماً واقعياً لم يكابر عندما تراجع ميزان القوى ضدّ بلاده، بل فكّر في بدائل تحفظ لمصر كرامتها وتعدّها لمعركة التحرير عندما تتهيأ الظروف، ومن جهة أخرى، تُعرّي هذه التسجيلات جانباً إنسانياً هشاً لعبد الناصر قلّما رآه الناس: زعيم مُثخن بالجراح، يشعر بالخذلان، ويبوح لمقرّبيه بأن أعباء الأمة أثقل من أن يحملها بلد واحد مهما عَظُم.

هذا البوح بالذات هو ما اعتبره البعض سلاحاً ذا حدين. فإذا كان خصوم الناصرية يريدون استخدامه لإثبات فشل المشروع برمته، فإن محبي عبد الناصر يرون فيه دليلاً على صدق الرجل مع نفسه ومع شعبه حتى في أحلك الظروف – فقد كان مستعداً لمصارحة الناس بحقيقة ما يحصل لو كُتب له وقت أطول.

الأكيد أن حكاية نشر تسجيلات عبد الناصر الأخيرة تجاوزت مجرّد حدث ثقافي أرشيفي، لتصبح ظاهرة سياسية وفكرية بامتياز، فهي أثارت داخل مصر والعالم العربي نقاشاً حيوياً حول إرث حقبة الستينات وما تلاها: هل كان عبد الناصر بطلاً قومياً مضحوكاً عليه من الأشقاء الخونة؟ أم مسؤولاً عن جزء كبير من خيبات تلك الحقبة؟ وهل كانت القومية العربية حلماً صادقاً أجهضته المؤامرات؟ أم وهماً جميلاً اصطدم بحقائق الجغرافيا السياسية؟

هناك من استمع إلى شرائط عبد الناصر وازداد إعجاباً ببعد نظره – إذ أدرك مبكراً صعوبة تحرير فلسطين دفعة واحدة، ودعا إلى حلّ واقعي يحفظ ما أمكن من الحقوق، وهناك من سمعها فازداد نقمة، إذ تأكد أن الشعارات الثورية الكبرى آنذاك، لم تكن سوى خطابات للاستهلاك الإعلامي، بينما أُجريت التسويات الحقيقية خلف الكواليس. وبين هؤلاء وأولئك، برزت أصوات تدعو للاستفادة الهادئة من دروس الماضي، فالتاريخ – كما يُقال – يعيد نفسه لمن لا يقرأونه جيداً. وها هو تاريخنا يقدّم نفسه لنا “كمادّة خام” بصوت أحد صنّاعه الكبار.

ربما آن الأوان أن نُعمِل عقولنا في ما نسمع بعيداً عن العواطف: أن نفهم سياقات الهزيمة وظروف صنع القرار في عام 1970، وأن نقارنها بحالنا اليوم. هل تعلّمنا من أخطاء تلك المرحلة؟ هل تجاوزنا حقاً إرث الانقسامات العربية التي اشتكى منها عبد الناصر؟ أم ازدادت عمقاً واتساعاً؟

ربما يكون السؤال الأكثر إلحاحاً هو: لماذا تلقى هذه التسجيلات كلّ هذا الاهتمام الآن، بعد أكثر من 50 عاماً من تسجيلها؟ وهل هناك دلالات سياسية معاصرة لنشرها في هذا التوقيت بالذات؟

يرى بعض المحلّلين أن نشر هذه التسجيلات في خضم الأزمات الراهنة في المنطقة، وبخاصّة في ظل الحرب الإسرائيلية على غزّة، يحمل رسائل سياسية معاصرة، تتعلّق بمواقف الدول العربية وعلاقاتها مع بعضها بعضاً، ومع القضية الفلسطينية.

“بالنسبة لنا قيام البعض بتفسير التسجيلات على أنها إدراك متأخر من عبد الناصر لخسّة العرب وخيانتهم!!”، يعترض صاحب القناة على هذا التفسير مؤكّداً أن “عبد الناصر عاش ومات مخلصاً ومدافعاً عن الشعوب العربية، ومشكلته كانت مع الحكّام فقط، وقد كان مدركاً لخسّتهم منذ البداية، ومراجعة خطبه العلنية عن حكّام العالم العربي ملكيين وجمهوريين قبل 1967 متاحة ومنشورة”.

ويضيف أن “عبد الناصر لم يكفر بالعروبة ولا بالشعوب العربية، ولكنّه كفر بالحكّام المزايدين المراهقين ثورياً، الراغبين في توريط مصر في مشاكلهم”.

محمد بصل يرى أن “ما حدث آخر عام ونصف العام يجب أن يُعيد طرح الأسئلة بجدّية: من هم العرب؟ وهل هناك مشروع عربي قابل للعمل والتطور؟ وهل آليات العمل العربي وتصوّراته القائمة منذ الستينات صالحة لزمننا؟ وهل يمكن إهدار المزيد من الأحلام والوقت والجهد من أجل تصوّرات التحالف، أو التنسيق مع أنظمة اختارت النفاق والإيذاء والتدمير سبيلاً لمجرّد أنها عربية؟”.

وزاد من أهمية التسجيل وتأثيره تزامن نشره مع “حديث الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن قناة السويس التي قال فيها، إنه من المفترض أن يكون مرور السفن العسكرية الأميركية في القناة بشكل مجاني، بزعم أنه لولا بلاده لما وُجدت قناتا السويس وبنما، ما زاد من التفاعل عليه بشكل أكبر”.

مع ذلك، تبقى هذه التسجيلات المثيرة للجدل، وثائق تاريخية نادرة تُتيح للباحثين والمهتّمين بالتاريخ، فرصة سماع صوت عبد الناصر وهو يشرح رؤيته ومواقفه بلسانه، في لحظات حرجة من تاريخ مصر والمنطقة.

وبغضّ النظر عن أي استخدام سياسي أو أيديولوجي لهذه التسجيلات في الوقت الراهن، فإنها تمثّل نافذة نادرة على العقلية السياسية لقائد عربي محوري شكّل تاريخ المنطقة لعقود، وما زال تأثيره حاضراً في الوعي والخطاب السياسي المعاصر.

“لم تتوافر مثل هذه الموادّ السمعية المسجّلة لأي زعيم سياسي عربي أو عالمي، مثلما توافرت للرئيس عبد الناصر”، كما يقول صاحب القناة بحقّ. وهو ما يجعل من هذه التسجيلات كنزاً تاريخياً يستحقّ الدراسة الموضوعية والتحليل العلمي، بعيداً عن التوظيف السياسي العابر.

يتلخّص جوهر هذه التسجيلات في إظهار عبد الناصر كإنسان وليس كأسطورة، زعيماً كان يتّخذ قراراته في ظروف ضاغطة وتحدّيات هائلة، وكانت لديه رؤية واقعية للعالم. لم يكن كما صوّره خصومه ديكتاتوراً متهوراً، ولا كما صوّره مؤيّدوه بطلاً خارقاً، كان، ببساطة، زعيماً سياسياً عصامياً، يقود بلداً في ظروف إقليمية ودولية معقّدة، محاولاً الموازنة بين الطموحات الكبيرة والإمكانات المحدودة.

وربما تكون تلك هي القيمة الحقيقية لهذه التسجيلات أنها تنزع هالة الأسطورة عن عبد الناصر، وتُعيد تقديمه كإنسان يتّخذ قراراته انطلاقاً من فهمه الواقعي للظروف، ويُخطئ أحياناً، ويُصيب أحياناً أخرى، وليس كما صوّرته الأيديولوجيات المتصارعة عبر عقود.

” الاستنتاج الأهمّ من هذا التسريب هو أن “العنترية والحنجورية كانت خطاباً يُقدَّم للشعوب كجزء من بروباغندا لخدمة الأنظمة”، كما يقول شادي الغزالي حرب. وربما يكون في ذلك تلخيص لواحد من أهمّ الدروس التاريخية التي يمكن استخلاصها من هذه التسجيلات: الفجوة الدائمة بين الخطاب العلني والمواقف الحقيقية، بين الشعارات الثورية والحسابات السياسية الواقعية.

نحن اليوم، بعد أكثر من نصف قرن من تلك التسجيلات، ما زلنا نعاني من المعضلات ذاتها، ونواجه التحدّيات نفسها، وربما بصورة أشد تعقيداً وإلحاحاً، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تعلّمنا شيئاً من دروس التاريخ؟ أم أننا ندور في حلقة مفرغة من الشعارات الكبيرة والإنجازات الصغيرة؟ من الوعود الضخمة والنتائج الهزيلة؟ من الخطاب المتضخّم والواقع المتواضع؟

ربما تكون هذه التسجيلات في نهاية المطاف، دعوة لإعادة النظر ليس فقط في تاريخ عبد الناصر، بل في تاريخنا المعاصر ككلّ، وفي الأساطير السياسية التي شكّلت وعينا، وفي المسلّمات الفكرية التي توارثناها من دون نقد أو تمحيص، دعوة لقراءة جديدة نقدية، تتجاوز التبسيط والتسطيح، وتستوعب تعقيدات الواقع وتناقضاته، وتفتح آفاقاً جديدة للفهم والعمل في حاضر لا يقلّ تحدّياً وإشكالية عن ذلك الماضي البعيد القريب. 

تسريبات “ناصر TV” ليست مجرّد وثائق صوتية من زمن مضى، بل مرآة حيّة لمآسي الحاضر العربي، تكشف كيف يمكن للزعامة الفردية حين تحتكر القرار وتختزل السياسة في شخص القائد، أن تزرع بذور الهزيمة وتُورث الانكسار للأجيال التالية. في تلك التسجيلات، يتجلّى صوت عبد الناصر لا كـ”بطل خارق” أو “خطيب جماهيري”، بل كزعيم منكسر يواجه خيبات الحلفاء قبل خصومة الأعداء، ويعترف بأن مصر دفعت وحدها ثمن الشعارات والمزايدات، بينما اكتفى الآخرون بالخطابة من بعيد.

الأخطر أن النموذج ذاته لم ينتهِ برحيل عبد الناصر، بل أُعيد إنتاجه مراراً في أنظمة عربية لاحقة، حيث تحوّلت الذاكرة الجماعية من أداة للتحرّر والنقد، إلى وسيلة للهيمنة وتبرير استمرار الاستبداد. هكذا، يصبح استحضار الماضي ليس بحثاً عن الدروس، بل إعادة تدوير للهزائم ذاتها، في مشهد تتوارث فيه الشعوب ثقل الخيبة وتُحرم من حقّها في المشاركة وصناعة القرار.

تلك التسجيلات تذكّرنا بأن التاريخ حين يُحتكر ويُختزل في صوت واحد، يتحوّل من طاقة للتحرّر إلى قيد جديد، ومن فرصة للمراجعة إلى تبرير للجمود، وربما يكون الدرس الأهمّ ألا خلاص للعرب إلا حين تتحرّر السياسة من سطوة الفرد، وتستعيد الشعوب حقّها في النقد والمساءلة، وتكفّ عن تقديس الزعامات وتكرار أخطاء الماضي، تحت لافتة “الحنجورية” والشعارات الكبرى، فالهزيمة، كما تكشفها تلك الأصوات المؤجّلة، ليست قدراً مكتوباً، بل نتيجة خيارات، يمكن أن تتغيّر حين تتغيّر قواعد اللعبة نفسها.

29.04.2025
زمن القراءة: 17 minutes
آخر القصص
وثائق إيلي كوهين تعود إلى تل أبيب: حفظ الحقيقة أم تكريس للسلطة الاستعمارية؟
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 23.05.2025
شهر على جيرة البحيرة
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 23.05.2025

اشترك بنشرتنا البريدية