fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

حين ضعتُ في بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

نحن الذين فقدنا دمشق وفلسطين والعراق ندرك هول الحزن على آخر أحلامنا على آخر الأماكن التي نتجول فيها بحثاً عن البحر…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لماذا تنفجرُ المدن التي نحبّها؟ ولماذا يجب أن نشهد نحن السوريين على خسارة المدن الجميلة؟ يلاحقنا الموت من الشمال السوريّ مروراً بإدلب فدمشق حتى بيروت، لماذا ما زالت تفزعنا الوجوه المدماة والمغبرةُ الخارجةُ من تحت الأنقاض؟ ألم يغدُ حدثاً اعتيادياً! ألمْ نعتدِ العيون المذهولة وهي تنظر إلى الأيدي وهي تنتشلها؟ وحين تختفي الأجساد تحت الأنقاض، حين يُدفن اللبنانيون تحت ركام مدينتهم، نحزنُ ونشعرُ بالخسارة مجدداً ونتذكر “عمران” الطفل السوري بوجهه المُدمى والمحدق جيداً في وجه العالم، العالم القذر الذي لم يستطع لمرةٍ واحدةٍ أن يكون إنسانياً بما يكفي.

ضعتُ في بيروت

ضعتُ مرةً في بيروت، في نهاية عام 2018، كنت أودُّ الوصول إلى مقهى يطلُّ على البحر مباشرة بنصيحة من صديقي، بدا الوصول إلى ذلك المقهى مستحيلاً بسبب ذاكرتي السيئة، رحتُ اسأل أصحاب المحلات، والمارة، كان الجميع لطيفاً ومألوفاً، يسألونني: “يعني أنت من سوريا؟” ومن ثم يبتسمون، وكنتُ بحاجة لهذه الابتسامات وأنا تائهة. وحين تذمرت من التوهان رافقني صاحب أحد المحال، رجل ستيني، إلى زاوية شارع وأشار إلى المقهى. كان مقهى “حسّان”، وهو مقهى شعبيّ رخيص يطلّ على البحر مباشرة وبعبارة أدق مفتوحٌ على البحر، طاولاته بلاستيكة بلون بيج مألوف، هكذا يشبه حقاً المقاهي التي تجاور البحار، جلست لساعات مقابل البحر. وشاهدت للمرة الأولى المطر حين ينزل وسط البحر، والموج يعلو حتى تتطاير ذراته على وجهي. كان الزبائن يغادرون إلّا أنا ابنة الجبال بدوتُ مذهولة بالمشهد، يضرب الموج صخر بيروت فتصلني رشقات من البحر فيبتلَّ وجهي وشعري، فأبتسم وعمال المقهى واقفون في الخلف يكادون يفهمون سعادتي ودهشتي الأولى ببيروت. أحد العمال كان سوريّاً، بدا المشهد مألوفاً وجديداً أيضاً، وكأنّني لم أغادر دمشق حقاً لكنني موجودة في بيروت.

لم أضِع بعدها في بيروت، صارت مألوفة ودافئة مذ أشار إلي ذلك الرجل نحو البحر، وعرفت أنني كلما تُهت سينقذني البحر ويدٌ تشير نحوه. اليوم أشعر بغضب وعجز فظيع، لأنني ككثيرين أفقد بيروت، نحن الذين فقدنا دمشق وفلسطين والعراق ندرك هول الحزن على آخر أحلامنا على آخر الأماكن التي نتجول فيها بحثاً عن البحر، البحر الذي انفجر أيضاً، في الشرق حيث تنفجر السيارات والدراجات والمرافئ والبحار.

الضياع في بيروت ليس الضياع الذي تعرفه، لا يشبه ضياعك في أيّ مدينة أخرى، يبدو كما لو أنك لست تائهاً، كما لو أنك تدرك الوجهة لكنك تودّ التعرف إلى وجوه السكان، على البساطة والطيبة، على وجوه أهلك النازحين والمنتشرين في المدينة، أن تتوه في بيروت يجعلك حقيقياً وهشّاً.

تفجير القزّاز”

تذكرت في تفجير مرفأ بيروت تفجير “القزاز” في دمشق، ترك تفجير “القزّاز” بداخلي هذا الشعور الذي لا يُمحى، حيث يصل الدوي حتى أعماقك، وتعرف الخوف الذي سيلاصقك إلى الأبد، لا يمكن تخيل لحظة التفجير إن لم تعايشها، كلّ ما ستتخيله يبقى أقل من تلك اللحظة، يهّزك شيء من أعماقك، سيرافقك هذا الاهتزاز الداخلي إلى الأبد، تشعر به حين تضحك وحين تمشي تستحم. حين يهرب الناس في الشوارع ويتركون التفجير خلفهم، يكون قد حدث! ودمّر ما دُمّر لكننا نهرب دوماً، يرافقني مشهد الناس وهم يركضون وسط الشوارع المدمرة منذ سنين، في العراق وسوريا واليمن واليوم في لبنان، يخرج الناس بثياب المنزل، بوجوههم المفزوعة ينظرون نحو بعضهم. لن يتركنا هذا المشهد يوماً، سنبقى ضحية هذه البلاد، وضحية حكوماتها، وضحية البلاد التي تتنازع فوق أرضنا، لنردد ساخرين ليت بلادنا ليست ذات موقع استراتيجي ولم يكن فيها بترول ولا غاز، ليت بلادنا جزيرة نائية حيث لا تمرّ شحنات نترات الأمنيوم ولا TNT ولا المتفجرات، ليت لبلادنا حكّاماً يخافون على شعوبهم، حيث لا يعلم الناس كيف يصنعون سيارة مفخخة ولا صواعق، حيث لا يموت الناس في الشوارع وهم جالسون في منازلهم، ليت بلادنا جزيرة نائية!

لم أضِع بعدها في بيروت، صارت مألوفة ودافئة مذ أشار إلي ذلك الرجل نحو البحر، وعرفت أنني كلما تُهت سينقذني البحر ويدٌ تشير نحوه.

معظم تفجيرات دمشق حين تدوّي ويتجمّع الناس لإنقاذ المصابين، يعقبها تفجيرٌ ثانٍ بعد دقائق، كما حدث في بيروت، فهم يبتغون الموت الأكبر، موتٌ بأذرع طويلة يمتدُّ إلى الجميع. في بيروت كان الموت واسعاً، له أذرعٌ امتدت في الشوارع والمنازل وغرف الاستقبال، وعلى عكس سوريا حين ينتظرون تجمّع الناس كي يصير عدد الموتى جديراً بالتفجير والموت. في بيروت قالوا للموت اذهبْ إلى كلّ مكان! التفجير ينتظر بصبر، يراقب الناس وهم يتجولون حوله، يفكرون باعتيادية ومن ثم يطلق نفسه وفي اللحظة التي عاش فيها التفجير مات الناس واختفت بيروت أيضاً.

رقصتُ مرةً في بيروت

كنت على موعد قريب مع بيروت، وبيروت التي يجب أن تكون وجهتنا حين الضياع والخوف والحبّ والنزوح راحت وراح معها الأمان والمواعيد، ونحن الذين من دون مكان نذهب إليه لنحكي عن الفن والكتابة، نلتقي فيه بالأصدقاء الآتين من كلّ العالم على طاولة في مطعم “مزيان”، وفي مقهى “كوستا” المطلّ على شارع الحمراء، لن نرى الأطفال السوريين وهم يجولون بعلكتهم الرخيصة وورودهم الذابلة، أماكن السوريين تقلُّ وتصبح أضيق.

لم أعتقد أنَّ بعد دمشق هناك مكان أودُّ توقيع مجموعتي الشعريّة الأولى فيه سوى بيروت، وعرفت بيروت كامرأة مغرية جداً، تجذب نحوها العشاق والسكارى والكتّاب المجانين، تترك قدميها العاريتين في الماء وتترك للأحلام أن تكبر بحريّة وللإنسان أن يتعرف إلى نفسه بلا مواربة، بحريّة الفنّ والكتابة والجسد والرقص. رقصتُ مرةً في بيروت، رقصتُ بجنون، كما يستحق الفرح أن يكون، بيروت التي علمتني أنّني بعد أن أقرأ شِعراً حزيناً عن الموت والخسارة والأشلاء، أستطيع أن أرقص بحريّة وأن أتخلص من عبء سنوات ثقيلة بساعة من الرقص. قرأت الشعر في بيروت ورقصتُ ونظرتُ إلى العالم كما لم أنظر إليه سابقاً، فعرفت أنّها بيروت.

كيف لمْ نَمُت بعد هذه التفجيرات؟ أسأل نفسي ويأتي الجواب من مكان مظلم وحزين، إننا نموت أيضاً ونخجل من الحياة والفرح وجميعنا شَعَرَ بتفجير بيروت وسقط منه جزء كما حدث في اليمن وفلسطين والعراق. لن يفهم أحدٌ ألمنا سوانا، نحن فقط المعنيون به ونحن وحدنا نلامس جروحنا المفتوحة وننظر إلى بعض، وبيروت التي نضيع فيها مرة ونعرف بعدها أنفسنا فيها ألف مرة تقول: إن المدن تصبح أقرب حين نضيع فيها، فنكتشف أن الطرق بسيطة لو تخيلناها. ضعتُ مرة في دمشق، ومن ثم صارت الطرق أشبه بالحلم الذي لا أتوه فيه وضعتُ مرة في بيروت لكنني الآن أعرفها وأعرف كيف أذهب إلى مقهى “حسّان” ويدُ الرجل الستيني تشير لي نحو البحر.

مصطفى إبراهيم - حقوقي فلسطيني | 24.01.2025

فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم

المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي "حرب" جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات…
"درج"
لبنان
10.08.2020
زمن القراءة: 5 minutes

نحن الذين فقدنا دمشق وفلسطين والعراق ندرك هول الحزن على آخر أحلامنا على آخر الأماكن التي نتجول فيها بحثاً عن البحر…

لماذا تنفجرُ المدن التي نحبّها؟ ولماذا يجب أن نشهد نحن السوريين على خسارة المدن الجميلة؟ يلاحقنا الموت من الشمال السوريّ مروراً بإدلب فدمشق حتى بيروت، لماذا ما زالت تفزعنا الوجوه المدماة والمغبرةُ الخارجةُ من تحت الأنقاض؟ ألم يغدُ حدثاً اعتيادياً! ألمْ نعتدِ العيون المذهولة وهي تنظر إلى الأيدي وهي تنتشلها؟ وحين تختفي الأجساد تحت الأنقاض، حين يُدفن اللبنانيون تحت ركام مدينتهم، نحزنُ ونشعرُ بالخسارة مجدداً ونتذكر “عمران” الطفل السوري بوجهه المُدمى والمحدق جيداً في وجه العالم، العالم القذر الذي لم يستطع لمرةٍ واحدةٍ أن يكون إنسانياً بما يكفي.

ضعتُ في بيروت

ضعتُ مرةً في بيروت، في نهاية عام 2018، كنت أودُّ الوصول إلى مقهى يطلُّ على البحر مباشرة بنصيحة من صديقي، بدا الوصول إلى ذلك المقهى مستحيلاً بسبب ذاكرتي السيئة، رحتُ اسأل أصحاب المحلات، والمارة، كان الجميع لطيفاً ومألوفاً، يسألونني: “يعني أنت من سوريا؟” ومن ثم يبتسمون، وكنتُ بحاجة لهذه الابتسامات وأنا تائهة. وحين تذمرت من التوهان رافقني صاحب أحد المحال، رجل ستيني، إلى زاوية شارع وأشار إلى المقهى. كان مقهى “حسّان”، وهو مقهى شعبيّ رخيص يطلّ على البحر مباشرة وبعبارة أدق مفتوحٌ على البحر، طاولاته بلاستيكة بلون بيج مألوف، هكذا يشبه حقاً المقاهي التي تجاور البحار، جلست لساعات مقابل البحر. وشاهدت للمرة الأولى المطر حين ينزل وسط البحر، والموج يعلو حتى تتطاير ذراته على وجهي. كان الزبائن يغادرون إلّا أنا ابنة الجبال بدوتُ مذهولة بالمشهد، يضرب الموج صخر بيروت فتصلني رشقات من البحر فيبتلَّ وجهي وشعري، فأبتسم وعمال المقهى واقفون في الخلف يكادون يفهمون سعادتي ودهشتي الأولى ببيروت. أحد العمال كان سوريّاً، بدا المشهد مألوفاً وجديداً أيضاً، وكأنّني لم أغادر دمشق حقاً لكنني موجودة في بيروت.

لم أضِع بعدها في بيروت، صارت مألوفة ودافئة مذ أشار إلي ذلك الرجل نحو البحر، وعرفت أنني كلما تُهت سينقذني البحر ويدٌ تشير نحوه. اليوم أشعر بغضب وعجز فظيع، لأنني ككثيرين أفقد بيروت، نحن الذين فقدنا دمشق وفلسطين والعراق ندرك هول الحزن على آخر أحلامنا على آخر الأماكن التي نتجول فيها بحثاً عن البحر، البحر الذي انفجر أيضاً، في الشرق حيث تنفجر السيارات والدراجات والمرافئ والبحار.

الضياع في بيروت ليس الضياع الذي تعرفه، لا يشبه ضياعك في أيّ مدينة أخرى، يبدو كما لو أنك لست تائهاً، كما لو أنك تدرك الوجهة لكنك تودّ التعرف إلى وجوه السكان، على البساطة والطيبة، على وجوه أهلك النازحين والمنتشرين في المدينة، أن تتوه في بيروت يجعلك حقيقياً وهشّاً.

تفجير القزّاز”

تذكرت في تفجير مرفأ بيروت تفجير “القزاز” في دمشق، ترك تفجير “القزّاز” بداخلي هذا الشعور الذي لا يُمحى، حيث يصل الدوي حتى أعماقك، وتعرف الخوف الذي سيلاصقك إلى الأبد، لا يمكن تخيل لحظة التفجير إن لم تعايشها، كلّ ما ستتخيله يبقى أقل من تلك اللحظة، يهّزك شيء من أعماقك، سيرافقك هذا الاهتزاز الداخلي إلى الأبد، تشعر به حين تضحك وحين تمشي تستحم. حين يهرب الناس في الشوارع ويتركون التفجير خلفهم، يكون قد حدث! ودمّر ما دُمّر لكننا نهرب دوماً، يرافقني مشهد الناس وهم يركضون وسط الشوارع المدمرة منذ سنين، في العراق وسوريا واليمن واليوم في لبنان، يخرج الناس بثياب المنزل، بوجوههم المفزوعة ينظرون نحو بعضهم. لن يتركنا هذا المشهد يوماً، سنبقى ضحية هذه البلاد، وضحية حكوماتها، وضحية البلاد التي تتنازع فوق أرضنا، لنردد ساخرين ليت بلادنا ليست ذات موقع استراتيجي ولم يكن فيها بترول ولا غاز، ليت بلادنا جزيرة نائية حيث لا تمرّ شحنات نترات الأمنيوم ولا TNT ولا المتفجرات، ليت لبلادنا حكّاماً يخافون على شعوبهم، حيث لا يعلم الناس كيف يصنعون سيارة مفخخة ولا صواعق، حيث لا يموت الناس في الشوارع وهم جالسون في منازلهم، ليت بلادنا جزيرة نائية!

لم أضِع بعدها في بيروت، صارت مألوفة ودافئة مذ أشار إلي ذلك الرجل نحو البحر، وعرفت أنني كلما تُهت سينقذني البحر ويدٌ تشير نحوه.

معظم تفجيرات دمشق حين تدوّي ويتجمّع الناس لإنقاذ المصابين، يعقبها تفجيرٌ ثانٍ بعد دقائق، كما حدث في بيروت، فهم يبتغون الموت الأكبر، موتٌ بأذرع طويلة يمتدُّ إلى الجميع. في بيروت كان الموت واسعاً، له أذرعٌ امتدت في الشوارع والمنازل وغرف الاستقبال، وعلى عكس سوريا حين ينتظرون تجمّع الناس كي يصير عدد الموتى جديراً بالتفجير والموت. في بيروت قالوا للموت اذهبْ إلى كلّ مكان! التفجير ينتظر بصبر، يراقب الناس وهم يتجولون حوله، يفكرون باعتيادية ومن ثم يطلق نفسه وفي اللحظة التي عاش فيها التفجير مات الناس واختفت بيروت أيضاً.

رقصتُ مرةً في بيروت

كنت على موعد قريب مع بيروت، وبيروت التي يجب أن تكون وجهتنا حين الضياع والخوف والحبّ والنزوح راحت وراح معها الأمان والمواعيد، ونحن الذين من دون مكان نذهب إليه لنحكي عن الفن والكتابة، نلتقي فيه بالأصدقاء الآتين من كلّ العالم على طاولة في مطعم “مزيان”، وفي مقهى “كوستا” المطلّ على شارع الحمراء، لن نرى الأطفال السوريين وهم يجولون بعلكتهم الرخيصة وورودهم الذابلة، أماكن السوريين تقلُّ وتصبح أضيق.

لم أعتقد أنَّ بعد دمشق هناك مكان أودُّ توقيع مجموعتي الشعريّة الأولى فيه سوى بيروت، وعرفت بيروت كامرأة مغرية جداً، تجذب نحوها العشاق والسكارى والكتّاب المجانين، تترك قدميها العاريتين في الماء وتترك للأحلام أن تكبر بحريّة وللإنسان أن يتعرف إلى نفسه بلا مواربة، بحريّة الفنّ والكتابة والجسد والرقص. رقصتُ مرةً في بيروت، رقصتُ بجنون، كما يستحق الفرح أن يكون، بيروت التي علمتني أنّني بعد أن أقرأ شِعراً حزيناً عن الموت والخسارة والأشلاء، أستطيع أن أرقص بحريّة وأن أتخلص من عبء سنوات ثقيلة بساعة من الرقص. قرأت الشعر في بيروت ورقصتُ ونظرتُ إلى العالم كما لم أنظر إليه سابقاً، فعرفت أنّها بيروت.

كيف لمْ نَمُت بعد هذه التفجيرات؟ أسأل نفسي ويأتي الجواب من مكان مظلم وحزين، إننا نموت أيضاً ونخجل من الحياة والفرح وجميعنا شَعَرَ بتفجير بيروت وسقط منه جزء كما حدث في اليمن وفلسطين والعراق. لن يفهم أحدٌ ألمنا سوانا، نحن فقط المعنيون به ونحن وحدنا نلامس جروحنا المفتوحة وننظر إلى بعض، وبيروت التي نضيع فيها مرة ونعرف بعدها أنفسنا فيها ألف مرة تقول: إن المدن تصبح أقرب حين نضيع فيها، فنكتشف أن الطرق بسيطة لو تخيلناها. ضعتُ مرة في دمشق، ومن ثم صارت الطرق أشبه بالحلم الذي لا أتوه فيه وضعتُ مرة في بيروت لكنني الآن أعرفها وأعرف كيف أذهب إلى مقهى “حسّان” ويدُ الرجل الستيني تشير لي نحو البحر.