أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وفي الاجتماع السنوي للجمعية الأميركية لأبحاث ما وراء البحار( ASOR)، أُعلن عن اكتشاف أقدم مثال معروف للكتابة الأبجدية في تل أم المرا جنوب مدينة دير حافر في ريف حلب الشرقي، كنتيجة للدراسات التي تبعت أعمال التنقيب المتوقفة في الموقع منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.
نقلت وكالة الأنباء الرسمية سانا والكثير من الصفحات الموالية للنظام البائد آنذاك، الخبر وكأنه تظاهرة مناوئة له، إذ عنونت وكالة الأنباء السورية (سانا) على صفحتها الرسمية على “فيسبوك” الخبر بالشكل التالي: “بعد تداوله على نطاق واسع… مديرية الآثار والمتاحف تنفي ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام حول اكتشاف أبجدية جديدة في تل أم المرا بحلب”.

وعلى موقعها الإلكتروني الرسمي، كان عنوان الخبر يذهب إلى نفي مديرية الآثار والمتاحف “حتمية” أن يكون ما تداولته وسائل الإعلام أبجدية، واضعاً كلمة أبجدية بين علامتي تنصيص للتشكيك فيها. وأضافت سانا أن مديرية الآثار والمتاحف تشترط المزيد من سنوات البحث والاكتشافات من البعثة الأميركية-الهولندية التي عملت في الموقع قبل أن تعتبر هذا الكشف أبجدية، مؤكدة أنه مجرد فرضية نشرها في العام 2010 الباحث الأميركي غلين شوارتز، مدير التنقيبات في أم المرا، وأعيد تداولها حديثاً من دون وجود تنقيبات حديثة في الموقع المذكور، وهنا يبدو أن مديرية الآثار تتجاهل كل المنشورات والدراسات التي صدرت عن فرق الباحثين خلال الـ14 عاماً الماضية عن أم المرا.
في مقال له نُشر عبر منصة تونيوز الدولية في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، عرض الدكتور يوسف كنجو الباحث في جامعة توبنغن الألمانية والمدير السابق لمتحف حلب الوطني، وهو من العناصر الوطنية السورية العاملة في موقع أم المرا، تفاصيل الاكتشاف الذي يتضمن أربع أسطوانات طينية تحمل نقوشاً يُعتقد أنها أقدم نص أبجدي في العالم، يعود تاريخها إلى نحو 2400 قبل الميلاد، أي أقدم بـ 500 عام من النصوص الأبجدية المعروفة سابقاً. وُجدت القطع في قبر يحتوي على ستة هياكل عظمية لأفراد يُرجح أنهم من نخبة المدينة.




تم تأريخ النقوش باستخدام الكربون المشع، ما يجعلها أقدم من الأبجدية السينائية في مصر(نحو 1800 ق.م) والبيبلوسية في جبيل على الساحل اللبناني (نحو 1800 ق.م) والأوغاريتية على الساحل السوري (نحو 1400 ق.م). وبحسب غلين شوارتز، أم المرا أكبر مواقع العصر البرونزي في سهل الجبول بين حلب ووادي الفرات، وربما كانت عاصمة لمملكة صغيرة محصنة.
تعاطي سانا آنذاك مع الخبر بهذه الطريقة المريبة أثار ردود أفعال كثير من السوريين بمختلف شرائحهم، وذهب بعضهم إلى أن هذه “الشعبنة” القمعية للُّغة العلمية التي تتعاطى بها المجلات العلمية والأوساط الآثارية حين تناقش أمور “فتوحات أثرية” على هذا المستوى، هي امتداد للعقاب الشامل والتهميش الذي تعرض له السوريون في المناطق التي خرجت عن طاعة الأسد. وفي سياقنا هذا، نتحدث عن دير حافر. في حين أن وسائل الإعلام العالمية ومنها الصحيفة الإسرائيلية ذي جيروساليم بوست، عنونت الخبر كالتالي: أقدم كتابة أبجدية معروفة حتى الآن على أسطوانات طينية في سوريا.
إذا أردنا أن “نشعبن” اللغة العلمية التي تحدث بها شوارتز في إعلانه عن الكشف ونترجمها إلى عنوان إخباري للتداول بين الجمهور من غير أهل الاختصاص، فإن العنوان الأكثر توخياً للدقة العلمية “التي ادعاها خبر سانا” لهكذا كشف يمكن أن يكون: “دلائل أولية لأقدم أبجدية معروفة حتى الأن أتت من سورية”.
في حالة أم المرا، حيث البحث ما زال جارياً، توجد حالة أقرب إلى إجماع بين الباحثين في علوم اللغويات على أن النقوش المكتشفة تمثل بواكير للكتابة الأبجدية، والجدل الوحيد بين أهل الاختصاص ربما يكون انتماء تلك الأسطوانات الحاملة للنقوش إلى طبقات أثرية تعود إلى فترة البرونز القديم، نحو 2300-2400 ، ق.م. وهذا ما لا يوجد حجة لنفيه حتى الآن!
التراث كمشروع سياسي
التوظيف السياسي للتراث من النخب في الشرق الأوسط، وربما في العالم، يضعنا أمام التباس في مواضيعنا التراثية. فالأبجديات الأولى مثلاً، تحولت من بحث علمي إنساني يقصد إلى كتابة تاريخ الكتابة، إلى ما يشبه سباق البطّ الذي فازت فيه كل البطات بالمركز الأول، فالبطة التي وصلت أولاً هي أول بطة بذيل أبيض، من وصلت ثانياً هي أول بطة بذيل بني، فالأوغاريتية هي أول أبجدية مسمارية والبيبلوسية هي أول أبجدية صورية، وهكذا.
يذهب توظيف التراث في المشاريع السياسية إلى ما وراء سباق البط بكثير، ففي ألمانيا النازية حيث مؤسسة آنهينيرب (Ahnenerbe) كقسم بحثي في جهاز شوتزشتافل العسكري، كانت الهدف البحث في التاريخ والتراث الجرماني لتعزيز أسطورة التفوق الآري لتبرير العنصرية وتعزيز فكرة الشعوب الدنيا، الأمر ذاته في إسرائيل ما يسمى “علم الآثار الزائف” الذي وصل إلى مرحلة القول بأن كريستوفر كولومبوس يهوديّ كما نشر هذا العام.
ونتذكر خطابات اليمين الشعبوي اللبناني في العقد السابق، والتي استثمرت بالتراث الفينيقي. ولم يفوت جبران باسيل وزير الخارجية اللبنانية الأسبق، في خطابه في مؤتمر الطاقة الاغترابية الثالث لأميركا الشمالية في مونتريال في أيلول/ سبتمبر 2018، فرصة لطلب مال وأصوات المغتربين طارحاً نفسه مدافعاً عن فينيقية لبنان في وجه “الآخر” وفي وجه “مشروع” تصدير اللبنانيين وتوطين النازحين مكانهم.
“التلاعب السياسي بالتراث الثقافي هو أداة قوية ضمن ترسانة القوة الناعمة. ويدرك الرئيس السوري بشار الأسد هذا جيداً، وكذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان”. بهذه الكلمات، علقت الباحثة في تراث الشرق الأوسط، البريطانية ديانا دارك، على مشهد رد الأسد وبوتين على تحويل أردوغان في تموز/ يوليو 2020 كنيسة آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، ببناء نسخة رديئة مصغرة من آيا صوفيا تتسع لعشرة مصلين في بلدة سقيلبية ذات الغالبية المسيحية الأرثوذكسية في حماة، بتمويل من روسيا. ليظهر الإثنان كمروجّين للحوار السلمي، معتدلين متعدّدي الثقافات – عكس أردوغان الذي كانت أقرب نقطة عسكرية لجيشه حينها في مورك تبعد عن سقيلبية كيلومترات عدة.
أوغاريت الأسد
عام 2011، رأى السوريون الصور التي نشرها الفنان السوري العالمي مالك جندلي لأبويه المسنين، وقد تعرضا لاعتداء وحشي من عناصر مخابرات نظام الأسد داخل منزلهما بحمص، للانتقام منه لمشاركته في مسيرة الحرية وأدائه مقطوعاته الموسيقية دعماً للثورة السورية من واشنطن، ولإيصال رسالة لوالديه مفادها: يبدو أنكما لم تعرفا كيف تربيان ابنكما، ولا بد أن نعلمكما.
مالك “قليل التربية” هذا، وقبيل انطلاق الثورة، كان تقدم مراراً لوزارة ومديريات الثقافة بمشروعه الموسيقي لإعادة إحياء أقدم تدوين موسيقي جاء من أوغاريت، من خلال دراسته لأبحاث علماء اللغويات الأجانب على هذا التدوين المهمل من المعنيين السوريين. عمل جندلي على إيجاد القاسم المشترك بين هذه الترجمات وتوزيعه الموسيقى على آلة البيانو. الأمر الذي جوبه بالتجاهل التام من السلطات آنذاك. بعدها، اختارت مؤسسات الأسد في عام 2013 أن تعلق بصورة الرقم الذي يحتوي هذا التدوين الموسيقي على الوجه الخلفي للعملة من فئة 500 ليرة.
عطّلت دولة البعث إنشاء متحف في مدينة أوغاريت على رغم كل محاولات القائمين على الموقع بدء هذا المشروع على مدار عقود. واستثمر نظام الأسد في الموضوع الأوغاريتي تحت عناوين الحملات الإعلامية والترويج السياحي، في المناهج المدرسية والرموز والشعارات والمهرجانات الثقافية. كلها فعاليات وأحداث تبدو للوهلة الأولى أنها مبادرات وطنية يقودها الأسد عبر مؤسساته العتيدة لتعزيز الفخر القومي والهوية الوطنية التاريخية وتعميق الصلة بالجذر التاريخي الثخين… لكن ما أن نخدش سطح هذه العناوين حتى نكتشف طبقات السياسة والفساد.
عام 2019، روّج الأسد لـ”انتصاره” على “الإرهاب” بعد استعادته السيطرة على مدن مهمة، وصولاً الى حلب شمالاً ودرعا جنوباً، وتدميره معظم المساحات التي خرجت عن سيطرته وتهجير أهلها، معطلاً الحل السياسي ومنتظراً أموال إعادة الإعمار. حينذاك، انطلق مهرجان أوغاريت الأثري، برعاية محافظة اللاذقية ومديرية الثقافة، بتغطية إعلامية متفانية من قناة الميادين المقاومة، وهمة بعض “الباحثين” وعلى رأسهم “الباحث” حيدر نعيسة.
بغض النظر عن توقيت استحداث المهرجان المتأخّر، بعد قرابة المئة عام على اكتشاف أوغاريت، تحدث نعيسة الى قناة “أوغاريت” التلفزيونية متغنياً بالنسخة الرابعة من المهرجان، والتي شارك فيها افتراضياً عبر رسالة صوتية من بيروت الفنان فايز قزق ليحيّي الحاضرين والقائمين على المهرجان الذي غلبت عليه بحسب “الباحث” نعيسة، الأعمال المسرحية والتمثيلية.
يقول نعيسة: “إقامة مثل هذه المهرجانات في هذه الفترة بالذات، تهدف إلى إعادة إعمار الإنسان إكمالاً لمسيرة “الانتصار”، وتسليط الضوء على أهمية أوغاريت في رفد البشرية بالعلوم والآداب والفنون، وضرورة السير بهديِ هذه المدينة القدوة التي شكلت لنا الحروف التي تكتب ولا تلفظ”. استرسل نعيسة بعدها في الحديث عن إحدى القصص التي تم تمثيلها على مسرح المهرجان، وهنا المصيبة.
القصة التي سردها نعيسة بعنوان “بين أوغاريتيٍّ وراميتي”،
تتحدث عن رجل أوغاريتي بعث من قبره ربما لأن أحد الأشقياء حاول أن يحفر في قبره بحثاً عن الكنوز، فخرج من نفق إلى المدينة وسرعان ما التقى بمسلح من القتلة الإرهابيين من “شعوب البر التي اجتاحت بلادنا”. تذكّر هذا الأوغاريتي شعوب البحر التي حرقت أوغاريت، وحصل بينهما حوار يؤكد عراقة أوغاريت مقابل همجية العصابات، وهمجية “القوى العدوانية الإرهابية”، وعطاء أوغاريت مقابل البدائية التي يتحلى بها التكفيريون والإرهابيون وسواهم. يقول الأوغاريتي: أنا اخترعت الأبجديي. ويقول له الإرهابي: أنا اخترعت الكندرجيي…
يعدد الأوغاريتي المنجزات الحضارية التي قدمها للعالم مقابل البدائية والتخريب والهمجية لدى الإرهابي من “شعوب البر” الذين هم من المفترض سوريون أيضاً.
ينهي الأستاذ القصة هنا من دون أن يذكر بالضبط في ما إذا قتل الأوغاريتي الإرهابي أو زجّ سارق الآثار في قبو المخابرات الجوية… لكنه ذكر تصفيق الحاضرين وإعجابهم بالمسرحية، وهنا الطّامة الكبرى، يكمل نعيسة: لماذا ننتظر الأجانب لكي يستكشفوا ما تبقى من أوغاريت، هؤلاء هم أحفاد شعوب البحر الذين حرقوا أوغاريت، لدينا المئات من علماء الآثار، معدداً أسماء بعضهم، مشيراً إليهم بـ “الثلة الرائعة” أو “سُلّة” كما قال.
كاتب هذه القصة ربما وصف “الإرهابي” هنا بـ” الراميتّي”، وراميتا هي مدينة أو مستوطنة تبدو في النصوص الأوغاريتية كمنطقة تابعة أو خاضعة لأوغاريت، ربما أراد كاتب القصة إسقاط حالة الخضوع هذه على من تمرد على الأسد اليوم. لكن وصفه للإرهابي بأنه من شعوب البر، فهذا الأمر فيه سلخ لمن تمرد على الأسد عن سوريّته، وأصبح شعباً آخر عدواً كشعوب البحر التي أحرقت أوغاريت. وفيه ما فيه من تحوير وتلفيق لصراعات وقصص من التاريخ لتطويعه وإسقاطه على الواقع بحس “ما قبل وطني”. وفيه قبل كل شيء، علم المشاركون بتمثيل هذه القصة أم لم يعلموا، تبرير لجرائم الدولة في الإبادة والإخفاء والمجازر بحق المعارضين.
تحوي الممارسة السابقة عطباً كبيراً حيث يشارك معتنق السردية الأسدية هذه لتراثه مع باقي السوريين، إذ يراهم باستعلاء إما خاضعين لـ”أوغاريت الأسد” أو أعداء، وهذا لا يشبه إعادة إعمار الإنسان بشيء.
هذا النوع من “خطاب الكراهية” العابر للبحار تحت شراع “السلام” يَسْهُلُ تعزيزه في اللاوعي الجمعي عن طريق تسخير التراث كحامل لهذا الخطاب، هو ليس فقط انتهاك بحق التراث وقصص التراث، بل أيضاً اتهام مسيء بحق الإنسان، وخصوصاً إنسان رأس الشمرا الحالي، حفيد شعب أوغاريت، ويعمق شرخاً على مستويات عدة بينه وبين شريكه في الوطن “ابن شعوب البر”
والبعث بالطبع كان يفضل إقامة هذا النوع من الفعاليات السطحية التي يسهل فيها على المخابرات تعزيز سردية الأسد، وتقديم رؤيته عن مدينة “السلام” على مشهد الجماهير الخائفة من غزو “شعوب البر” وحرقها لبيوتهم إذا هم تخلوا عن حامي التراث الأول وتقاعسوا عن إرسال أبنائهم جنداً في صفوفه لإخضاع باقي البر السوري.
بعد ذلك، من المحتّم أن المخابرات ستنفي عبر سانا أن لـ”شعوب البر” في دير حافر أيضاً أبجديتها… فكيف بهم إذا أعلن علماء أميركيون وعالميون أنها قد تكون الأقدم في العالم حتى الآن!
دير حافر تنتظر
يوم إعلان اكتشاف أبجدية أم المرا من شيكاغو في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، كانت مدينة دير حافر الاستراتيجية المتاخمة لمطار كويريس العسكري لا تزال تحت سيطرة جيش الأسد الذي استعادها من داعش في آذار/ مارس العام 2017، بعد معارك عنيفة أدت حينها إلى نزوح قسم كبير من الأهالي في جميع الاتجاهات، لتنتهي بهذا النزوح الكبير فترة من المعاناة تحت وطأة الخلافة الإسلامية المرعبة دامت أكثر من ثلاث سنوات عجاف,
وكما هو حال معظم الأهالي النازحين من المناطق التي استعادها النظام آنذاك، لم يسمح لمن يرغبون أو يستطيعون العودة إلا بعد “تعفيش” منازلهم التي دمر معظمها قصف النظام وحلفائه، الذي لم يتوقف منذ منتصف العام 2012.
بدأت بعدها مرحلة أخرى، شهدت بعض الاستقرار الأمني لكنه ظل هشاً بسبب التحديات الاقتصادية والدمار الكبير. والأهالي الذين عادوا واجهوا ظروفاً صعبة في إعادة بناء حياتهم وسط القيود القمعية الصارمة التي فرضها النظام السوري، في ظل غياب الدعم الكافي والإرادة لإعادة الإعمار.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أصدر مركز حرمون للدراسات بحثاً بعنوان “العلاقات بين المجتمع المحلي في سوريا وتنظيم الدولة “داعش” منطقة دير حافر نموذجا”، أوضح فيه العبدالله فداحة ما تعرض له السكان من انتهاكات وضغوط خلال حكم داعش لدير حافر، والعلاقات المعقدة والصراعات بين الأطراف المتحاربة في بلدتهم الاستراتيجية، والتي تخادم فيها الجميع لإنهاك الثورة التي انضمت إليها مجموعات من الأهالي في تظاهرات ليلية في 2011 ضد نظام الأسد الذي أهمل هموم مجتمعهم الريفي لعقود.
طمأننا الدكتور يوسف كنجو في لقاء له مع “درج”، إلى أن وضع أم المرا جيد والتل محمي، وحارس التل موجود ولم تحصل أي تعديات، فالمجتمع يعرف قيمة التل، وعلاقته بالبعثة الأثرية جيدة والتواصل معها مستمر.
والآن، وبعد انهيار نظام الأسد في دمشق وانسحاب قواته من دير حافر، تحولت الأخيرة إلى منطقة للنزاع بين قوات سوريا الديمقراطية والجيش الوطني المدعوم من تركيا، وحتى الآن لا يزال مهجروها والباقون فيها تحت ثقل النزاع الأخير، ينتظرون أن يضع وزره ليعودوا وتعود الحياة ويحتفلوا مع بقية شعوب البر والبحر والنهر من السوريين بزوال الطغيان.
في إعادة بناء الهوية الوطنية والتراثية السورية
مع سقوط الأسد، انهارت السرديات التي طالما بررت جرائمه أمام مؤيديه. كثر ممن يزعمون أنهم اكتشفوا اليوم فقط الانتهاكات والجرائم في سجون الأسد، فقدوا في الحقيقة المبررات التي دعمت مواقفهم سابقاً. تلك المبررات كانت قائمة على مزيج من الأساطير، التلاعب بالتاريخ، واستغلال القضايا لتحقيق مكاسب دعائية تحشيدية.
إصلاح ما أفسد الأسد لدى السوريين هو تحدّ كبير جداً وحساس في طريق إعادة بناء الهوية الوطنية السورية. أولئك الذين تعرضوا على مدى 54 عاماً أو أكثر لهذه الدعاية “البعثية” أو “الأسديّة”، إذ نجد اليوم من يرفضون رفع العلم السوري الجديد، الذي يعتبرونه، منذ 14 عاماً، رمزاً “لشعوب البر والبحر” بحسب المسرحية السابقة. ولا يمكننا تجاهل الحملة الإعلامية التي شنها الأسد لتشويه صورة هذا العلم، واصفاً إياه بعلم الاستعمار. هذا التشويه يمثل بدوره انتهاكاً للتراث السوري وتشويهاً لتاريخ “الهوية البصرية” السورية.