ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

حين يحاضر اللصوص في الأخلاق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لقمان سليم لم يكن موظفاً في جهاز ولا تابعاً لمؤسسة تموّلها المخابرات، بل ضميراً حياً قرّر أن يواجه منظومة الاغتيال بالتوثيق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يعد في هذا البلد ما يُدهش. 

نعيش في وطنٍ يُمنح فيه اللص شهادة نزاهة، ويُمنع عن المُصلح حتى حق الدفاع عن نفسه. آخر فصول هذه المهزلة مقالٌ نشرته أخيراً صحيفة “الأخبار” بقلم بدر الحاج، يهاجم فيه الناشر والكاتب الراحل لقمان سليم وزوجته مونيكا بورغمان بزعم أنّهما «استوليا» على أرشيف «استديو بعلبك» وهرّبا مقتنياته الى ألمانيا. واستوديو بعلبك هو استوديو لبناني للإنتاج السينمائي والصوتي، وكان من أهم مراكز الإنتاج الفني في لبنان من الستينات إلى التسعينات. وقد جهد الراحل لقمان لإنقاذ أرشيفه من التلف قبل أن تنال يد الغدر منه وتغتاله قبل أربع سنوات. 

والحقّ أنّ نص مقال الحاج ليس سوى نشيدٍ جديد من أناشيد التزوير القومي السوري، يتقن صاحبه لغة التخوين ويعيش على فتات الأرشيف المنهوب نفسه الذي يدّعي الدفاع عنه.

يتحدث الحاج عن «التراث الوطني» بوقارٍ مصطنع، فيما مَن يشبهونه شيّدوا متاحفهم على الأملاك البحرية المسروقة، وتاجروا في الخفاء بآثارٍ مهرَّبة من سوريا، بعضها عبر تجّار الحرب وبعضها من تدمر وحمص وحلب في زمن الخراب. لم يرفعوا يوماً صوتهم حين كانت المخطوطات تُباع بالكيلو، ولم يحركوا ساكناً عندما نُهبت مجموعات «تلفزيون لبنان». مشكلتهم ليست مع السرقة المزعومة، بل مع من أنقذ الذاكرة من أيديهم.

لقمان سليم ومونيكا بيرغمان

لقمان سليم لم يكن موظفاً في جهاز ولا تابعاً لمؤسسة تموّلها المخابرات، بل ضميراً حياً قرّر أن يواجه منظومة الاغتيال بالتوثيق. أنقذ الأرشيف حين كان الآخرون ينهبون الدولة، وأعاد ترميم الوثائق لا ليزيّن بها متحفاً خاصاً، بل ليضعها في متناول الناس. أما الذين يهاجمونه اليوم، فهم امتدادٌ طبيعي لأولئك الذين اغتالوه جسدياً لأنهم عجزوا عن اغتياله فكرياً.

يدّعي بدر الحاج أنه «مؤرخ» و«باحث في التراث»، فيما لا يملك من التاريخ سوى أدوات النهب، ولا من العلم سوى صنعة الورّاق. هو أشبه بمن ينبش القبور لا حبّاً بالتاريخ بل بحثاً عن الغنيمة، يجمع ما تبقّى من رفات الآخرين ليبيعها باسم “التراث الثقافي”. هو الورّاق الذي يسرق ما كتبه غيره، ثم يعيد تدويره بعباراتٍ من زمن المخابرات، مدّعياً أنه حارس الذاكرة الوطنية. إنه الوجه المثقف لناهب القبور الثقافية: لا يقرأ التاريخ إلا ليدجّنه، ولا يكتب إلا ليُغطي جريمة.

وفيما يعيّن وزير العدل عادل نصار محققين عدليين لإعادة فتح ملفات الاغتيالات السياسية — من سمير قصير وجبران تويني إلى بيار الجميل وصالح العريضي — كخطوة متأخرة نحو استعادة العدالة، يظهر أمثال بدر الحاج ليمارسوا اغتيالاً من نوعٍ آخر: اغتيال الذاكرة.
وبينما يسعى القضاء، ولو رمزياً، إلى فتح القبور بحثاً عن الحقيقة، يتبرّع هو بإغلاقها أدبياً، دفاعاً عن قتلةٍ لا يجرؤ على تسميتهم. إنّه يقف ضدّ الفعل القضائي بلسانٍ ثقافيٍّ، فيستبدل العدالة بالتبرير، والبحث بالحقد، والذاكرة بالأرشيف المزوّر.

ليس غريباً أن يصدر هذا الخطاب من كاتبٍ تتغذّى لغته على إرث “القومية السورية” وعلى أرشيفٍ من البلاغات الأمنية. هذه الحركة التي رفعت شعار “نهضة الأمة” عاشت دائماً على ملفات المخابرات، وعلى استنطاق الماضي لتبرير الولاء للسلطة. في نسختها اللبنانية، تحوّلت إلى مشروعٍ ثقافيٍّ متقاعد، يعيش على العداء للمستقلّين، ويقتات من ذاكرة الآخرين ليحافظ على وهم التفوق الأخلاقي. هي “حركة من الأرشيف” لا تعرف الإبداع بل إعادة التدوير: تدوير الأكاذيب، والتاريخ، وحتى الجثث.

يُسائل الحاج لقمان ومونيكا عن الأرشيف، بينما يتجاهل أن الدولة التي يفترض أن تحمي التراث، قد سلّمت مؤسساتها للميليشيات والمقاولين. من السذاجة انتظار تحركها؛ فلو كان في الأمر نفوذ أو سمسرة أو ولاء خارجي لكانت هرعت إلى التدخل. لكنها تصمت لأن الضحية هنا اسمها لقمان سليم، والمجرم هو المنظومة التي تخاف من كل ما يُذكّرها بأن الثقافة الحقيقية هي فعل مقاومة ضد الأكاذيب.

حين نُقل قسم من الأرشيف إلى ألمانيا للمعالجة والتوثيق، لم يُهرّب كما يروّج حفّارو القبور الجدد، بل حُمي من بيئةٍ تعتبر كل ذاكرة جريمة. المؤسسات الأوروبية التي تعاونت مع «أمم للتوثيق والأبحاث» لم تسرق شيئاً، بل ساعدت على إنقاذ ما تبقّى من الذاكرة اللبنانية. أما من يهاجم هذا العمل، فهو ببساطة يفضّل أن يُدفن الأرشيف في الغبار، لأنّه لا يحتمل رؤية تاريخٍ لا تكتبه المخابرات ولا تُعيد صياغته فاشيات القومية المزعومة.

من السهل على هؤلاء أن يتحدثوا عن «الأخلاق» و«دولة القانون». لكنّ ما يثير السخرية أن من سرق التاريخ، وهدم المدن، ونهب البحر، وتاجر بدماء الناس، صار اليوم يقدّم نفسه وصيّاً على التراث الوطني.

لقمان لم يمت برصاصات الخوف فقط، بل بكل مقالةٍ تحاول إعادة دفنه. ومع ذلك، بقي حاضراً، لأن ذاكرته تحوّلت إلى مرآةٍ يرى فيها اللبنانيون وجوه جلّاديهم. كل من يكتب حرفاً ضد لقمان اليوم يشارك في جريمة اغتياله مرّةً أخرى، لكنه يجهل أن الذاكرة لا تُغتال.

لبنان الذي حلم به لقمان ليس لبنان الصفقات والمتاحف المزيفة، بل لبنان الذاكرة الحرّة. أما الذين يهاجمونه اليوم، فهم حرّاس الماضي المتعفّن، أبناء ثقافة البراميل المتفجرة، وحلفاء كل سلطةٍ تخاف من الحبر أكثر من الرصاص.

المنتحلون صفة الثقافة لا يستطيعون ادّعاء الأخلاق ولا الإنسانية، لأن الثقافة التي لا تعرف الحرية تتحوّل إلى غريزة سلطة، والأخلاق التي لا تصون الكلمة تصبح كذباً مُنمّقاً. وهؤلاء، مهما ادّعوا النقاء، لا يستطيعون رفع أعينهم إلى الإله نابو، إله الكتابة والحكمة، الذي كان يزن كل كلمة بمكيال الضمير.
فلو وقف أحدهم اليوم أمام معبده البابلي، لارتجف القلم في يده وابتلع لسانه، لأن نابو لا يتقبّل القرابين من الأيدي الملطّخة بالتراب والدم، ولا يبارك من جعل من الكتابة غطاءً للسرقة والكذب.

ممجّد كاتم الصوت الذي يكتب تحت ظلّ الفساد لا يمكن أن يدّعي الثقافة، ومن يهاجم لقمان باسم «التراث» لا يفهم أن الحبر، لا الرصاص، هو ما يصنع الخلود.

ابراهيم الغريب - صحافي لبناني | 15.11.2025

على خطّ طرابلس – حمص: حدود سائبة ودولة غائبة و”كزدورة” بأقلّ من 200 دولار

الفساد يعمّق اقتصاد التهريبفي ظلّ الانهيارين الماليين في لبنان وسوريا، تحوّل التهريب إلى شريان اقتصادي رئيسي. مهرّبون، ضبّاط، وسماسرة يعيشون من هذه التجارة التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً. وبحسب مصادر أمنية لبنانية سابقة، فإن بعض المعابر "يُفتح ويُغلق بتنسيق سياسي محلّي مقابل رشى شهرية". النتيجة: حدود سائبة تموّلها الفوضى وتغطّيها المصالح.

لقمان سليم لم يكن موظفاً في جهاز ولا تابعاً لمؤسسة تموّلها المخابرات، بل ضميراً حياً قرّر أن يواجه منظومة الاغتيال بالتوثيق.


لم يعد في هذا البلد ما يُدهش. 

نعيش في وطنٍ يُمنح فيه اللص شهادة نزاهة، ويُمنع عن المُصلح حتى حق الدفاع عن نفسه. آخر فصول هذه المهزلة مقالٌ نشرته أخيراً صحيفة “الأخبار” بقلم بدر الحاج، يهاجم فيه الناشر والكاتب الراحل لقمان سليم وزوجته مونيكا بورغمان بزعم أنّهما «استوليا» على أرشيف «استديو بعلبك» وهرّبا مقتنياته الى ألمانيا. واستوديو بعلبك هو استوديو لبناني للإنتاج السينمائي والصوتي، وكان من أهم مراكز الإنتاج الفني في لبنان من الستينات إلى التسعينات. وقد جهد الراحل لقمان لإنقاذ أرشيفه من التلف قبل أن تنال يد الغدر منه وتغتاله قبل أربع سنوات. 

والحقّ أنّ نص مقال الحاج ليس سوى نشيدٍ جديد من أناشيد التزوير القومي السوري، يتقن صاحبه لغة التخوين ويعيش على فتات الأرشيف المنهوب نفسه الذي يدّعي الدفاع عنه.

يتحدث الحاج عن «التراث الوطني» بوقارٍ مصطنع، فيما مَن يشبهونه شيّدوا متاحفهم على الأملاك البحرية المسروقة، وتاجروا في الخفاء بآثارٍ مهرَّبة من سوريا، بعضها عبر تجّار الحرب وبعضها من تدمر وحمص وحلب في زمن الخراب. لم يرفعوا يوماً صوتهم حين كانت المخطوطات تُباع بالكيلو، ولم يحركوا ساكناً عندما نُهبت مجموعات «تلفزيون لبنان». مشكلتهم ليست مع السرقة المزعومة، بل مع من أنقذ الذاكرة من أيديهم.

لقمان سليم ومونيكا بيرغمان

لقمان سليم لم يكن موظفاً في جهاز ولا تابعاً لمؤسسة تموّلها المخابرات، بل ضميراً حياً قرّر أن يواجه منظومة الاغتيال بالتوثيق. أنقذ الأرشيف حين كان الآخرون ينهبون الدولة، وأعاد ترميم الوثائق لا ليزيّن بها متحفاً خاصاً، بل ليضعها في متناول الناس. أما الذين يهاجمونه اليوم، فهم امتدادٌ طبيعي لأولئك الذين اغتالوه جسدياً لأنهم عجزوا عن اغتياله فكرياً.

يدّعي بدر الحاج أنه «مؤرخ» و«باحث في التراث»، فيما لا يملك من التاريخ سوى أدوات النهب، ولا من العلم سوى صنعة الورّاق. هو أشبه بمن ينبش القبور لا حبّاً بالتاريخ بل بحثاً عن الغنيمة، يجمع ما تبقّى من رفات الآخرين ليبيعها باسم “التراث الثقافي”. هو الورّاق الذي يسرق ما كتبه غيره، ثم يعيد تدويره بعباراتٍ من زمن المخابرات، مدّعياً أنه حارس الذاكرة الوطنية. إنه الوجه المثقف لناهب القبور الثقافية: لا يقرأ التاريخ إلا ليدجّنه، ولا يكتب إلا ليُغطي جريمة.

وفيما يعيّن وزير العدل عادل نصار محققين عدليين لإعادة فتح ملفات الاغتيالات السياسية — من سمير قصير وجبران تويني إلى بيار الجميل وصالح العريضي — كخطوة متأخرة نحو استعادة العدالة، يظهر أمثال بدر الحاج ليمارسوا اغتيالاً من نوعٍ آخر: اغتيال الذاكرة.
وبينما يسعى القضاء، ولو رمزياً، إلى فتح القبور بحثاً عن الحقيقة، يتبرّع هو بإغلاقها أدبياً، دفاعاً عن قتلةٍ لا يجرؤ على تسميتهم. إنّه يقف ضدّ الفعل القضائي بلسانٍ ثقافيٍّ، فيستبدل العدالة بالتبرير، والبحث بالحقد، والذاكرة بالأرشيف المزوّر.

ليس غريباً أن يصدر هذا الخطاب من كاتبٍ تتغذّى لغته على إرث “القومية السورية” وعلى أرشيفٍ من البلاغات الأمنية. هذه الحركة التي رفعت شعار “نهضة الأمة” عاشت دائماً على ملفات المخابرات، وعلى استنطاق الماضي لتبرير الولاء للسلطة. في نسختها اللبنانية، تحوّلت إلى مشروعٍ ثقافيٍّ متقاعد، يعيش على العداء للمستقلّين، ويقتات من ذاكرة الآخرين ليحافظ على وهم التفوق الأخلاقي. هي “حركة من الأرشيف” لا تعرف الإبداع بل إعادة التدوير: تدوير الأكاذيب، والتاريخ، وحتى الجثث.

يُسائل الحاج لقمان ومونيكا عن الأرشيف، بينما يتجاهل أن الدولة التي يفترض أن تحمي التراث، قد سلّمت مؤسساتها للميليشيات والمقاولين. من السذاجة انتظار تحركها؛ فلو كان في الأمر نفوذ أو سمسرة أو ولاء خارجي لكانت هرعت إلى التدخل. لكنها تصمت لأن الضحية هنا اسمها لقمان سليم، والمجرم هو المنظومة التي تخاف من كل ما يُذكّرها بأن الثقافة الحقيقية هي فعل مقاومة ضد الأكاذيب.

حين نُقل قسم من الأرشيف إلى ألمانيا للمعالجة والتوثيق، لم يُهرّب كما يروّج حفّارو القبور الجدد، بل حُمي من بيئةٍ تعتبر كل ذاكرة جريمة. المؤسسات الأوروبية التي تعاونت مع «أمم للتوثيق والأبحاث» لم تسرق شيئاً، بل ساعدت على إنقاذ ما تبقّى من الذاكرة اللبنانية. أما من يهاجم هذا العمل، فهو ببساطة يفضّل أن يُدفن الأرشيف في الغبار، لأنّه لا يحتمل رؤية تاريخٍ لا تكتبه المخابرات ولا تُعيد صياغته فاشيات القومية المزعومة.

من السهل على هؤلاء أن يتحدثوا عن «الأخلاق» و«دولة القانون». لكنّ ما يثير السخرية أن من سرق التاريخ، وهدم المدن، ونهب البحر، وتاجر بدماء الناس، صار اليوم يقدّم نفسه وصيّاً على التراث الوطني.

لقمان لم يمت برصاصات الخوف فقط، بل بكل مقالةٍ تحاول إعادة دفنه. ومع ذلك، بقي حاضراً، لأن ذاكرته تحوّلت إلى مرآةٍ يرى فيها اللبنانيون وجوه جلّاديهم. كل من يكتب حرفاً ضد لقمان اليوم يشارك في جريمة اغتياله مرّةً أخرى، لكنه يجهل أن الذاكرة لا تُغتال.

لبنان الذي حلم به لقمان ليس لبنان الصفقات والمتاحف المزيفة، بل لبنان الذاكرة الحرّة. أما الذين يهاجمونه اليوم، فهم حرّاس الماضي المتعفّن، أبناء ثقافة البراميل المتفجرة، وحلفاء كل سلطةٍ تخاف من الحبر أكثر من الرصاص.

المنتحلون صفة الثقافة لا يستطيعون ادّعاء الأخلاق ولا الإنسانية، لأن الثقافة التي لا تعرف الحرية تتحوّل إلى غريزة سلطة، والأخلاق التي لا تصون الكلمة تصبح كذباً مُنمّقاً. وهؤلاء، مهما ادّعوا النقاء، لا يستطيعون رفع أعينهم إلى الإله نابو، إله الكتابة والحكمة، الذي كان يزن كل كلمة بمكيال الضمير.
فلو وقف أحدهم اليوم أمام معبده البابلي، لارتجف القلم في يده وابتلع لسانه، لأن نابو لا يتقبّل القرابين من الأيدي الملطّخة بالتراب والدم، ولا يبارك من جعل من الكتابة غطاءً للسرقة والكذب.

ممجّد كاتم الصوت الذي يكتب تحت ظلّ الفساد لا يمكن أن يدّعي الثقافة، ومن يهاجم لقمان باسم «التراث» لا يفهم أن الحبر، لا الرصاص، هو ما يصنع الخلود.

|

اشترك بنشرتنا البريدية