لا يوجد ما يسمّى “الحقّ” بالشماتة، برغم أنها واحدة من العواطف الإنسانيّة التي تدرس في علم النفس، لكنها محاطة بالكثير من التحذيرات، وتندرج ضمن المتلازمات النفسيّة، كأسبريغر والتوحد، ووصل العلم إلى حد رصد الجينة الخاصة بها، لكن المتفق عليه أن زيادة هرمون “الأوكسيتوسن” oxytocin، هو ما يتسبب بتفعيلها بصورة طبيعيّة.
دون الغوص في المعاني الطبيّة، الأوكسيتوسن هو “هرمون الحبّ”، ويلعب دوراً في التواصل الاجتماعي، والولادة والتكاثر لدى البشر، وهو المسؤول عن تشكيلنا كجماعات، لكن ما يهمنا هو واحدة من خصائصه “النفسية” تلك الخاصة بالشماتة، ونقصد هنا بدقة schadenfreude، أي الرضا أو الفرح لألم الآخرين، لا الرضا والفرح حين التسبب بألم للآخرين كما في كلمة Gloating.
المثير للاهتمام أن كلمة “الشماتة” في اللغة العربيّة تحيل دوماً إلى “العدو”، بمعنى أن الشماتة توجَّه للأعداء في معظم الأحيان، هي “الفرح ببليّة العدو”. والعدو هو ذاك الذي يهدد وجودنا الأنطولوجي، بصورة أدق، إما حياتنا أو مماته. وهنا تأتي الشماتة، نفرح بموت العدوّ لأن حياته تعني فناءنا، فلا أخوّة مع الأعداء، وهذا بالضبط المرعب في الحديث عن “الشماتة”، أننا نمتلك القدرة كبشر، أو على الأقل البعض منا، على الشعور بالرضا لأسى الآخرين، فقط لأنهم أعداء. الوصف الغامض الذي إلى الآن لا تعريف له، فلا عدو اجتمع كل البشرّ على معاداته عبر التاريخ، حتى الوباء نفسه، شكك البعض به، ولم يعادوه.
كل هذه المقدمة والحذلقة الطبيّة واللغويّة محاولة للتخفف من الدهشة، لا وقع المأساة، الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا لا يمكن لوم أحد عليه، نعلم بدقة سببه، حركة الصفائح التكتونيّة التي لا جدل حول حقيقتها، لكن كيف يمكن أن نفهم شخصاً يقول إن ما حدث سببه “المعاصي”، أو أن “الأرض جندي من جنود الأرض ونحن نرتكب المعاصي على سطحها فزلزلت بنا”.
يمكن اتهام هذه الفئة من الشامتين بالسخف، الابتذال، السماجة، لكن اللافت هو حس الشماتة، تلك التي ترى أن ما حصل لـ”الآخرين” مُستحق، ولا فكاك منه، هي نبوءة تحققت ولا نستطيع سوى الدعاء للنجاة الفرديّة والشماتة بهم، لكن “هم” ليسوا أعداء، لا أحد يستحق أن ينهار بناء على رأسه وأسرته، أو أن يطمر لأيام تحت الحطام.
الشماتة هنا مُريبة ومرعبة في الوقت ذاته، خصوصاً أمام الزلزال، “الحادث” الطبيعيّ الذي يكشف لنا عن هشاشتنا وأننا متشابهون أمام حركة الصفائح التكتونيّة، هو ليس عقاباً نفصل عبره أنفسنا عن “العصاة” أو “السفلة ” أو “المنحطين”، وليس غضباً ربانياً. الشماتة في هذا السياق موقف سياسيّ، تقول بدقة، من يشمت يرى أن من مات يستحق الموت فقط لأنه يؤمن بكلمات مختلفة عن ذاك “الآمن”، الذي نجا ليشاهد المأساة من بعيد.
يمكن أن نبرر ونقول أن وضعية الناجي نفسها، تزيد من هرمون السعادة، صورة متشائمة لكنها بشريّة أيضاً، أفرح لنجاتي، لأن الشروط المحيطة بي نفسها جعلتني من الناجين، الاجتهاد الشخصي والصلاة والكلمات وغيرها من الشؤون لا علاقة لها بالصفائح التكتونيّة، النجاة محط مصادفة، لا صلاة أو كفر، ينفع للنجاة حين ينهار بناء على رأس أحدهم.
الشماتة موقف سياسي
تظهر الشماتة بأوجها بين المختلفين سياسياً، يتضح الأمر في سوريا التي رُسخ فيها مفهوم العداوة، منذ عام 2011، هناك الجراثيم، الإرهابيون، المندسون، الذين خرّبو البلاد وفرضوا عقوبات على سوريا، تلك التي بقي فيها المواطنون المطيعون، الصامتون، العاضّون على الجرح. لتتحول المواجهة إلى ضحايا ضد ضحايا، المساعدات الإنسانيّة مقسّمة، جزء لمناطق خارج سيطرة النظام، وجزء لا يصل لمناطق سيطرة النظام، السبب ليس الفرق الإغاثية وموقفها السياسيّ، بل النظام نفسه الذي يمنع دخولها.
المثير للاهتمام أن كلمة “الشماتة” في اللغة العربيّة تحيل دوماً إلى “العدو”، بمعنى أن الشماتة توجَّه للأعداء في معظم الأحيان، هي “الفرح ببليّة العدو”.
جدل سياسة الفرق الإغاثية سبق أن شهدته سوريا عام 2020، حين اشتعلت الحرائق في ريف إدلب واللاذقية، واتهموا بعدم مساعدة المنكوبين في مناطق النظام، أي هناك دائماً أقاويل عن هرمية الضحايا، هناك الأعداء منهم وهناك الأخوة، بالطبع لا حقيقة لكل هذا، هناك قرار سياسي بهذا الفصل الذي يطبقّ بالقوة، لكن الانقسام ذاته يحرك الشماتة، تلك التي تتهم فرق الإغاثة باللاإنسانيّة.
تتجلى الشماتة بوصفها سياسة حين ترسخ التقسيم، هناك “نحن” الذين نجونا، وهناك الأعداء الذين يستحقون الموت، وهنا المفارقة، من نجا يستطيع أن يشمت، ويرسخ الانقسام عبر تحذيرات من نوع لا تساعدوا هؤلاء، بل أولئك. هؤلاء لهم منظماتهم والآخرون لهم نظامهم، تقسيم من يستحق الحياة ومن لا يستحق، سياسي بامتياز، يمارسه النظام السوري منذ 2011، ويمارسه حالياً بمنع دخول المساعدات إلى مناطقه، لكن كل هذا لا يهم، فالنائمون تحت الركام لا اختلاف بينهم، كلهم على حافة الموت ولا أحد منهم يستحقه.
المفارقة أن الشماتة تظهر بين الضحايا: عقوباتكم تركتنا لموتنا، رئيسكم ترككم لموتكم، الموت هو المشترك دائماً، والعداوة قائمة، تدمّر أي فرصة للأخوة أو الانتماء، لكن يبقى سؤال “الفرح”، من فرح بموت من؟ لا يمكن رصد جواب هذا السؤال بدقة، الإحالات الدينية إلى المعاصي تحمل نوعاً من الطمأنينة لصاحبها، لكن تحت الركام وبين الساعين لإنقاذ نفس، يتحول الفرح إلى نوع من المعايرة، سننجو أكثر منكم، سنعمل على البقاء على قيد الحياة أكثر “منكم”، هكذا ربما يتبادل الطرفان الاتهامات.
بالطبع هذا التحدّي المرتبط بالشماتة، نتاج قرار سياسيّ، قالها باسم صباغ، مندوب سورية الدائم لدى الأمم المتحدة، على المساعدات أن تمر بدمشق، وأن تحترم السيادة السوريّة. هنا إذاً نحن أمام نموذجين سياسيين للسيادة المسؤولة عن الحفاظ على الحياة، النموذج الرسمي، السوري، المتمسك بموقفه على حساب من سيموت ممن يخضعون لسيادته، والنموذج “الآخر” ذاك الواقع خارج السيادة السوريّة، المنفتح على العالم الذي يعمل بالأيدي والمعدات غير الكافية لانتشال الناجين.
النجاة وتحول الشماتة إلى تحدٍ لاستمرار الحياة، لا يخلوان من المعاني السياسية، إنه اختبار خضعت له سوريا مراراً، مفاده أن البقاء تحت سيادة بشار الأسد لا يفيد أحداً لا داخل سوريا ولا خارجها. وفي لحظة الكارثة هذه، تتكشف الحقيقة العاريّة، بمعناها المفاهيميّ، موت السوريين واحد، ومن يترك السوريون لموتهم هو البنية السياسيّة، ونجاة أي سوري أينما كان هي نجاة للجميع، ويبقى مُسبب الموت نفسه، ذاك الذي لطالما حيكت أساطير أن بطانته الداخلية ومؤيديه أنفسهم لا بد أن ينقلبوا عليه في لحظة ما، لكن لا نعلم بدقة متى تأتي هذه اللحظة، ثورة، كيماوي، جوع، كوليرا، لم يحدث شيء، فهل بإمكان الزلزال أن يعيد تقسيم خارطة الشماتة والانتماء السياسي؟
إقرأوا أيضاً: