fbpx

خالد سعيد وتلويحة أخيرة للعدالة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مصطلح هجرة يصعب إطلاقه على نموذج كنموذج عائلة خالد سعيد وكل المعارضين السياسيين ممّن اضطروا إلى مغادرة مصر بلا رجعة، فالوصف الأقرب إلى الواقع ليس الهجرة بل التهجير المبطّن. وهذا التهجير لا يشمل عائلة أو أشخاصاً فقط، بل تهجير لكل الكلمات المرجعية التي تحيل إلى الثورة وذكرياتها ومطالبها…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تتزاحم شوارع الاسكندرية الساحلية كل عام، لا سيما في الفترة بين شهر حزيران/ يونيو وتشرين الأول/ أكتوبر، حين تصبح المدينة عامرة بالأصوات والأحداث. غالباً ما يطمح أهالي الاسكندرية والوافدون إليها بأن تأتي الأحداث في هذا التوقيت من الصيف متخفّفة من كل ما يكسب النفس ثقلاً فوق الثقل الذي يحدثه القيظ اللاهب، لكن الاسكندرية كحال بقية بقاع المحروسة أصبحت تعيش في مرحلة تخالف التوقّعات.

خلال هذا الصيف تَصدّر المشهد الاسكندري حادث ذبح طبيب أربعيني أمام مرأى زوجته وطفله ومسمعهما، فيما كان يجلس بينهما على رمال الشاطئ. كان يحاول التخلّي عن منغصات الحياة اليومية، حتى أتاه أحد المنغصات ماشياً على قدمين في هيئة متحرّش بزوجته، وانتهت به الحال خلال دقائق من شخص هارب إلى لحظات من السكينة، إلى شخص تلوّن دماؤه مياه البحر باللون القرمزي.

على بعد عشرات الأمتار من هذا الحادث، خصوصاً في منطقة كليوبترا، شهدت الاسكندرية قبل 8 سنوات حادث مقتل خالد سعيد أحد الشرارات الرئيسية التي ساهمت في اندلاع ثورة 25 يناير. قُتل خالد سعيد في حزيران/يونيو 2010 مطلع موسم الاصطياف السنوي على يد مخبرين من رجال الشرطة، في طريقة توازي في بشاعتها طريقة قتل الطبيب هذا العام.

استعادة حادثة مقتل خالد سعيد بالتوازي مع مقتل الطبيب ليست اعتباطية، فهذه الاستعادة تفرض نفسها مع تصريح زهراء سعيد شقيقة خالد سعيد أخيراً على صفحتها على “فيسبوك” بأنها هي وعائلة خالد سعيد وعلى رأسها الوالدة ليلى مرزوق قرّروا مغادرة مصر والهجرة إلى غير رجعة.

خالد سعيد مع عائلته عامين قبل مقتله

تصريح زهراء سعيد لم يحظ بأي اهتمام إعلامي ولا حتى برواج على مواقع “السوشيل ميديا”، مرّ الخبر مرور الكرام كأنه شأن عائلي لا يهم سوى المقرّبين منها وأصدقائها، لكن هذا الاعلان بالهجرة ما دام قد وُضع على المشاع الإلكتروني فهو يعني بشكل من الأشكال تسجيل موقف. ما الموقف الذي تود عائلة خالد سعيد تسجيله بإعلانها الهجرة من مصر إلى غير رجعة؟!

الموقف يكمن وراء الأسباب التي أعلنتها زهراء في تصريحها بشكل واضح وغير مبطّن. فعلى رغم هذه السنوات من ملاحقة حق شقيقها إلا أنها فشلت في استخراج شهادة وفاة لخالد سعيد الذي قُتل على يد الشرطة المصرية. لم تخفِ زهراء أيضاً تعرّض العائلة لتضييقات أمنية كثيرة، ساهمت في إنهاكها طوال هذه السنوات الـ8 في البحث وراء العدالة.

المثير للدهشة أن قاتل الطبيب على شاطئ البحر هذا الصيف وفق المعلومات والمصادر المتاحة يعمل محامياً، وظيفة هدفها في الأصل تطبيق القانون والدفاع عن المظلومين لا ترويعهم وقتلهم، في سيناريو شبيه بما حدث مع خالد سعيد الذي قُتل على يد الشرطة التي من المفترض أن توفّر للمواطنين الحماية والأمن اللازمَين.

تقول زهراء في تصريحها “مكنتش أتخيل اليوم اللي اكتب فيه بوست زي ده بعد ثورة عظيمة وبعد ما كان خالد شرارة الثورة وكان رأسنا مرفوعاً دايماً وبدأنا نحس نسيم الحرية، للأسف كل ده خلاص راح واحنا كلنا اضطرينا نسافر ونسيب البلد لأكثر من سبب، طبعاً خالد لغاية دلوقت أغلبكم عارف أنه مطلعلوش شهادة وفاة بالإضافة للإهانة اللي الواحد بيسمعها كل شوية، وماما تعبت جداً”.

زهراء، شقيقة خالد سعيد

قُتل خالد سعيد بعدما سرّب على الإنترنت فيديو يفضح سلوك الشرطة في قسم شرطة سيدي جابر وهم يتقاسمون ضبطية مخدّرات فيما بينهم ليتاجروا فيها، ورغم الحكم الصادر عام 2015 ضد قتلة خالد سعيد بالسجن المشدّد 10 سنوات بعد خمس سنوات من محاولات انتزاعه، ما زال الالتفاف حول ذكر سبب الموت في شهادة الوفاة، وهو التعذيب المفرط المفضي إلى الموت على يد اثنين من أفراد الشرطة المصرية.

هذا الإفراط في إنكار سبب وفاة خالد سعيد والتملّص من ذكره في سجلات الأوراق الرسمية وثبوت الوفيات يبدو موضوعياً قياساً إلى المرحلة التي تعيشها مصر من حال إنكار مستمرّة سواء من جانب الشرطة التي ما زالت تتعامل بقانون الطوارئ، والذي كان أحد الأسباب الرئيسية لتبرير التعامل العنيف مع خالد سعيد. فضلاً عن حالة الإنكار من جانب النظام الحالي للمطالب الثورية، يأتي ذلك في سياق مرحلة لا تتم فيها فقط محاولة إزاحة الثورة وأرشيفها بالكامل من الوسائط الورقية أو الإلكترونية، بل محاولة محوها أيضاً من الوعي الجمعي سواء بالترهيب أو بالتشوية والتخوين.

رمزية خروج أسرة خالد سعيد من مصر، يصعب وصفها بمسمّيات جاهزة كاليأس أو الهزيمة أو حتى الإنهاك، ربما كان انهماكاً، لكي تأخذ العدالة مجراها، ثم لم يعد في النفس طاقة سوى التلويح للعدالة من بعيد.

مصطلح هجرة يصعب إطلاقه على نموذج كنموذج عائلة خالد سعيد وكل المعارضين السياسيين ممّن اضطروا إلى مغادرة مصر بلا رجعة، فالوصف الأقرب إلى الواقع ليس الهجرة بل التهجير المبطّن، هذا التهجير لا يشمل عائلة أو أشخاصاً فقط، بل تهجير لكل الكلمات المرجعية التي تحيل إلى الثورة وذكرياتها ومطالبها، أو مثلما قال السيسي في أحد خطاباته “اللي حصل من ثمان سنوات لن نسمح بعودته أو تكراره مرّة أخرى” ويقصد الثورة بكل ملابساتها ومطالبها.

اعتدنا نحن المصريين على التعامل مع مسألة الهجرة من مصر بطريقة درامية بخاصة إذا كانت لأسباب سياسية، وفي الغالب تأخذ هذه الدراما أبعاداً تخوينية بمعنى التعامل مع من هاجروا باعتبارهم مواطنين مصريين بنسبة أقل وفق مقياس الانتماء الشعبي، ناهيك بالانتماء وفق مغزل السياسة، هم أصبحوا مفصولين بحكم قطع الحبل السري المترسّخ في الوعي الشعبي.

والدة خالد سعيد

زهراء بتصريحها الفيسبوكي حول أسباب هجرة العائلة تفتح أيضاً ملف التعامل مع أسر الشهداء وحقوقهم المادية والمعنوية الغائبة، وتقول: “ماما ظهر عندها ورم ودكتور ربنا ينتقم منه عملها عملية غلط وخلّت حالتها تسوء جداً وتشخيص غلط من أكتر من دكتور وعلاج للأسف كان السبب في ضعف عضلة القلب لدرجة أنه دلوقت شغّال 15 في المئة بس وممكن يقف في أي لحظة بسبب إهمال المنظومة كلها غير أن طلع عندها كانسر ومرحلة متأخرة بسبب الإهمال، حالة ماما اتدهورت جداً ومفيش أي مساعدة ومفيش أي تعامل آدمي من أي نوع واحنا قرّرنا خلاص إننا منرجعش مصر تاني، ده غير عدم الأمان اللي كنا حاسين بيه في مصر أكتر من أي وقت فات وربنا لوحده هو اللي عارف أننا عمرنا ما كنا نتمنى نوصل لكده وللأسف احنا دفعنا تمن كل حاجة ومش حاذكر أي اسم بالرغم من وجود ناس حاولت أنها تأذينا أكتر من مرة”.

رثت ليلى مرزوق في وقت سابق وضعها مع العدالة كأنها ترثي حال وطنها بأكمله، وقالت “من قال للبحر إن بإمكانه هجران الشاطئ، ليس ثمّة بلسم يستطيع أن يخفّف من الخواء الذي يعضّ حضنها ولا حداد يحول دون الألم الذي رفعه آخرون كراية ثورة، أدارت ظهرها للبحر”.

إقرأ أيضاً:
“أخ كبير”: سلطة الأمن وسطوة الجمهور تحاصر السخرية
القاهرة: المرء إذ تبتلعه جماهير “مملكة الطوابق”
مصر: مسار تقويض مؤسّسات المجتمع المدني مستمر… فما السبب؟
هيثم محمدين في السجون المصرية: كيف تحلم بوطن فتصبح خلف القضبان