أثار المسلسل المصري “سره الباتع” للمخرج خالد يوسف، منذ بداية عرضه في رمضان، موجة من الجدل العارم، فالمسلسل الذي يتناول غزو الحملة الفرنسية إحدى القرى المصرية بعد طرد المماليك نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، مليء بالأخطاء الفنية ومشاكل الديكور والملابس.
لكن ما طغى على مواقع التواصل الاجتماعي هو جدل من نوع آخر، يتناول الإطلالات اللافتة للفنانة التونسية رانيا التومي، التي تخوض أولى تجاربها كممثلة، إذ تؤدي دور عالِمة مصريات، تشارك عصابة أجنبية في الاستيلاء على الآثار المصرية، وتتبُّع أثر السلطان حامد للوصول إلى الكنز.
تصدّرت الفنانة التونسية الجدل والانتقادات بعد ظهورها بملابس لافتة، ولقطات تتعمّد إبراز تقاطيع جسدها، على رغم أن الدور الذي تؤديه لا يتطلب ذلك، علماً أن “الجرأة”، إن صحّ استخدام هذا اللفظ، ليست شأناً جديداً أو مستغرباً، إذ سبق أن حفلت بها السينما المصرية طوال تاريخها، منها ما بدا طبيعياً في سياق الدراما، ومنها ما كان مبتذلاً يبغي الجدل ولفت الانتباه.
الإشكاليّة أن هذه “الجرأة” مرتبطة بالمخرج المعروف خالد يوسف، ما يستدعي التفاتاً وقراءة حذرة، بالنظر إلى سيرة المُخرج والقضايا التي تلاحقه. فيوسف العائد من فرنسا بعد سنوات من التوقف عن العمل الفني، مُتهم بتسريب مقاطع جنسية لفنانتين مصريتين صاعدتين في الوسط الفني، وعلى رغم ما تعرضت له الفتاتان من فضيحة ونفي من الوسط الفنيّ، إلا أن يوسف، وكما نراه اليوم، عاد إلى ممارسة (عمله) وكأن شيئاً لم يكن.
ترسيخ خالد يوسف حضوره كمخرج صار معادلًا للاحتفاء بالذكورة والذكورية، والإفلات من العقاب، خصوصاً أنه يعتمد في انتشار أعماله على إبراز مفاتن من يعمل معهنّ، من دون سياق درامي، لجذب جمهور تُعرف عنه نظرته الدونية تجاه المرأة، التي يتعمّد اللعب على وترِها في حياته الشخصية وأعماله الفنية.
“طريقة التصوير مقصودة”
من دون مبالاة بالنقد أو السخرية التي طاولت رانيا التومي، أشار خالد يوسف إلى أنه اختار الممثلة كونها ذات مواصفات جسديّة ملائمة، يمكن إبراز تقاسيمها و(توظيفها) ضمن إيحاءات جنسيّة، يتضح للمشاهد أنها لا تتناسب مع شخصية عالمة المصريات، ما يمكن اعتباره تقليلاً من شأنها كامرأة، إذ لم تُختر لمهاراتها التمثيلية، أو قدراتها على تقديم مشاعر وانفعالات – من بينها الإغراء – إنما بسبب جسدها.
أكد يوسف في ردّه خلال لقاء أجرته معه إذاعة “FM” التونسية، أنّ اختياره وقع على التومي بسبب “جسمها المغري ووجهها الجميل”، وقال إن “طريقة التصوير كانت مقصودة”، في إشارة إلى تصويرها من زوايا منخفضة تزيد من حجم “مؤخرتها”، أو قريبة للغاية تُبرز حجم “صدرها” وتجعله لافتاً، وتطرّق إلى من اختار ملابسها، قائلاً إنه هو من قام بذلك مع فريقه، وتلك الملابس تحديداً كانت مهمة لزيادة مقدار الإثارة.
بدأت حقبة “الإثارة” في مسيرة خالد يوسف بفيلم “حين ميسرة”، الذي قدّم العالم السفلي لحياة الطبقات الفقيرة في مصر، ولم يخلُ من المشاهد الجنسية.
يرى الناقد الفني أحمد سعد في تصريحاته لـ”درج”، أنّ توجّه يوسف إلى استخدام تلك الزوايا المثيرة ليس جديداً، فطوال مسيرته كمخرج كان يحرص عليها في التعامل مع بطلاته، على رغم أنها غير مطلوبة درامياً في بعض الأحيان، ويقول إنّ “التونسية رانيا التومي حرة في جسدها، لكن تعمُّد إبراز المفاتن وتكبير أجزاء محددة لتحقيق الإثارة، يعيق المشاهد عن استقبال الرسالة الدرامية، والمغزى من القصة، والاستمتاع بتجربة المشاهدة”.
يضيف سعد، “كان من الممكن استخدام زوايا طبيعية، والممثلة الجيدة هي التي تمثّل الإغراء، ولا تعبر عنه من خلال بعض المناطق البارزة والكادرات المركّزة، لكن تصوير الجسد بهذه الطريقة، من جانب المخرج، يشير إلى شيئين، أولهما الرغبة في صناعة “ترند” وتسويق المسلسل من خلاله، وهذه طريقة قديمة لم تعد تجدي الآن، لأن الجمهور أكثر وعياً، والثاني هو عدم احترام الجسد كإحدى أدوات التمثيل لدى الفنان، وتعزيز أفكار سيئة عن النساء في المجتمع”.
يتشابه ذلك الجدل مع الانتقادات التي واجهها “يوسف” عام 2009، حين ارتدت المطربة اللبنانية هيفاء وهبي في فيلم “دكان شحاتة”، ملابس مثيرة تتماشى مع الحارات الشعبية والأجواء التي دار فيها الفيلم، أمام الأخ القاسي المتشدّد “الصعيدي” الذي يتحكّم بكلّ تفاصيل حياة شقيقته، التي أدّت وهبي دورها، وبُرّرت الأزياء حينها بادعاء غير منطقي، وهو أنّ “تلك كانت ملابس مستعملة، ارتدتها فتيات صعيديات وليست مفصّلة لها خصيصاً”.
يُتهم خالد يوسف باستغلال الظهور الأول لهيفاء وهبي، مؤدية الإغراء ذائعة الصيت، بأقصى ما لديه، جاعلاً منها أيقونة تجذب جمهور الباحثين عن إثارة من نوع ما، من دون أن تحتملَ القصة كلّ هذا القدر من العري أو الجرأة، بينما يعتبر هو ذلك تحرُّراً، إذ قال الإعلامي محمود سعد، تعليقًا على ذلك التوجّه، إن يوسف “كان ينتظر أن ترتدي ما تريده بحرية في المنزل، وحين تخرج ترتدي جلباباً أسود كما نرى في الأحياء الشعبية”.
تكريس سلطة “الرجال”
تمت مواجهة خالد يوسف في أحد اللقاءات التلفزيونية، والإشارة الى استخدامه المرأة كسلعة، لكنه لم يعترف بأنه يفعل ذلك عمداً، إنما ألبس ذلك الاتهام للمجتمع الذي يرى المرأة سلعة ويختصرها في الجنس. يقول خالد يوسف إن أعماله انعكاس للمجتمع فقط، لكن الهجوم المجتمعي الذي يصاحب أعمال يوسف باستمرار لإتجاره بالإثارة بهدف استفزاز الجمهور أو خداعه، يكشف أن شرائح من المجتمع لا ترضى بتلك الرؤية، ولا يوافق على الفجاجة في مناقشتها.
المفارقة، أن جميع ردود يوسف على تهمة تعمّده الإغراء “الفج” الذي لا يعبر عن المجتمع متشابهة، لا يجرؤ فيها على الاعتراف برغبته في تقديم ذلك النوع من المشاهد والأفكار، أو الدفاع عن وجهة نظره كمخرج جريء.
يصرّ خالد يوسف في أعماله، على مداعبة المخيلة الذكوريّة وإثارتها، وتسليع الجسد المؤنث، موظفاً نماذج لشخصيات تكرّس سلطة الرجل وسطوته على المرأة، التي لا تمتلك عقلاً واعياً، إنما لديها فقط جسد تديره منظومة الرجال وتطمع به.
اعتمد يوسف هذه المقاربة توجّهاً، سواء كان ملائماً لقصة العمل وأجوائه أم لا، فخلق معادلة مكررة في جميع أعماله: البطلة المستسلمة لسطوة العالم الذكوري، التي تقدم له جسدها قرباناً كي ينعمَ عليها بمنحها أي امتيازات.
بدأت حقبة “الإثارة” في مسيرة خالد يوسف بفيلم “حين ميسرة”، الذي قدّم العالم السفلي لحياة الطبقات الفقيرة في مصر، ولم يخلُ من المشاهد الجنسية. حينها يمكن القول أن خالد يوسف خلع عباءة أستاذه يوسف شاهين، وقدّم أعمالًا تجارية تنجح في شباك التذاكر، موظفاً الجسد الأنثوي شفيعاً ونصيراً ليتفادى شبح “الفشل التجاري” الذي خيّم على مسيرة شاهين.
منذ ذلك الفيلم، اعتمد يوسف هذه المقاربة توجّهاً، سواء كان ملائماً لقصة العمل وأجوائه أم لا، فخلق معادلة مكررة في جميع أعماله: البطلة المستسلمة لسطوة العالم الذكوري، التي تقدم له جسدها قرباناً كي ينعمَ عليها بمنحها أي امتيازات.
بدا توجه خالد يوسف واضحاً في “الريس عمر حرب”، إذ لعبت سمية الخشاب وغادة عبد الرازق ذلك الدور، الأنثى التي تحافظ على سطوة الرجال عبر الغواية، وفي “دكان شحاتة” كانت المعركة بين الجميع على “جسد” هيفاء وهبي، الذي بالغ يوسف في إظهار فتنته، الشأن الذي ينطبق أيضاً على “كلمني شكراً”، فكان البطل حائراً بين “جسدين” مُثقلين بالحماسة (غادة عبد الرازق، داليا ابراهيم)، يحاولان جذبه بالإغراء والامتيازات الجنسية فقط.
المرأة في تجربة خالد يوسف، أداة الإغراء والشهوة التي يستخدمها الرجال للإيقاع برجال آخرين أو السيطرة عليهم، ما جعل يوسف يُلقَّب بـ”سفير عالم الذكور” في السينما، إذ لم تحقق المرأة في أي من أعماله أي نجاحات، أو تقدم عملًا لافتاً، هي فقط أداة ضمن صراع ذكوري.
طوال 30 عاماً من مسيرة يوسف السينمائيّة، لم ينفك عن الرد على الاتهامات الموجهة له، سوى بحجج من نوع رفع سقف الحرية والإبداع، ومواجهة الظلاميين بالسينما، واستفزاز أعداء الفن بالفن الجريء، والكثير من الخُطب الحماسيّة التي وجدت قبولاً في فترات الصراع الديني مع الجماعات الدينية، وضد دولة “مبارك” المحافظة، في ذلك الوقت.
أجساد النساء ساحة معركة
تعكس نظرة خالد يوسف للمرأة في أفلامه، ما تعاني منه النساء في الحياة وأماكن العمل، إذ يتضح من الأخبار التي تلاحقه، استخدامه امتيازاته كمخرج مسؤول عن جميع تفاصيل العمل الفني، ويملك حق المنح والمنع، في إعطاء فرصة للتمثيل أو استبعاد ممثلة.
برزت سطوة خالد يوسف حين تم تسريب مقاطع فيديو جنسي، إذ أشارت ممثلات مصريات كثيرات إلى تقديمهن “تنازلات” أثناء العمل مع يوسف.
اعترفت الممثلة المعروفة هند صبري بأنها قدمت تنازلات لم تكن محورية من أجل الانتشار، تلبيةً لطلب المخرج خالد يوسف، ومن بين التنازلات قبولها “تقديم بعض المشاهد الجريئة في فيلم “ويجا”، الشأن الذي ندمت عليها لاحقاً، وذلك لمبالغة المخرج في تصوير تلك المشاهد، إذ تقول “وفي ظروف أخرى لم أكن لأقبل بتلك الأفلام”.
يمرّر يوسف تصورات نادي الرجال عن جسد المرأة عبر أفلامه بسلاسة وتطبيع كامل، ففي “الريس عمر حرب” يعتقد البطل (خالد) أنه ينتصر على غريمه المتوهّم (الريس عمر) حين يمارس الجنس مع نسائه المقرّبات، ليكتشف في النهاية أن عمر كان “يصطاده” بهن فقط.
لا قيمة للأنثى في القصة إلا أداة للصيد في معركة الرجال، يتكرر الأمر في مسلسل “سره الباتع”، إذ تلعب عالمة المصريات الدور ذاته، هي أجنبية تصطاد رجل أعمال مصرياً ينقّب عن الآثار بـ”جسمها المغري”، الذي تعمّد المخرج المصري إبرازه كي يبدو مغرياً أكثر.
خالد يوسف… الوجه والقناع
محاولة البحث عن حديث فني وسينمائي ليوسف تبوء دوماً بالفشل، فكل سؤال فني يتلقاه يجيب عنه إجابة نضالية أو فلسفية، من دون تحليل فني أو شرح للصورة وتفاصيلها، وحين يُسأل عن عدم تقديم معادلة بصرية بديلة للمشاهد الجريئة، يقول: “لا أقدم الجرأة لمواجهة الجماعات الإسلامية، كما أنني أرفع سقف الحرية، وهذه قوانين الإبداع، التي إذا حاكمناها بمقاييس أخلاقية، مزقنا نصف التراث الإسلامي، ومزقنا لوحات بيكاسو العارية أيضاً”.
يحتفظ يوسف لنفسه بصيغة “الناشط السياسي”، ويصبغ حديثه بفلسفة دينية وسياسية، تبرّر لجوءه إلى تقديم تصوّر “مبتذل” عن المرأة والجنس كمقاربة أو معادلة بصرية لقضايا كبرى، من دون تحليل المشاهد درامياً أو شرح ما يريد قوله من وراءها، مبرراً ذلك بأن الفن – بالنسبة إليه – هو “محاولة للسمو بالروح وإعلاء القيم الروحية“، ويقول إنه حين يقدم مشهد اغتصاب يحاول تقديم شيء وعظيّ، يؤثر في وجدان الأطفال والرجال، ولا يظهر شيئاً من جسد المغتصبة.
يمنح يوسف تعريفات كبرى للمشاهد العارية المُقحمة على القصة والدراما، لا تتماشى مع ما بدا منه حين صوّر فتيات في لحظات حميمية، وهرب عندما حاسبهنّ النظام المصري انتقاماً منه، ثم عاد بـ”صفقة سياسية” ليتابع “عمله”.
الرهان الأخير
دخول يوسف معترك السياسة والحياة الانتخابية بعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، أوقف إنتاجه الفني تماماً لسبع سنوات، فآخر أفلامه “كف القمر” أُنتج عام 2011 ثم أعقبه “كارما” عام 2018، ربما لإدراكه أن ما يُقدّمه من مشاهد جنسية بلا هدف، قد يُفقده جمهوراً سياسياً وأصواتاً انتخابية، ولعلمه أنّ الجمهور يرى تلك المشاهد الجريئة استخفافاً به.
انقطاع يوسف عن العمل كان محاولةً لتغيير الصورة الذهنية تجاهه، بخاصة أن مخرجين كثراً قدموا مشاهد جريئة وعلاقات جنسية على الشاشة، لكنهم لم يوصفوا بـ”مخرجي الجنس والمنطقة السفلية“، إذ استحق يوسف ذلك اللقب لمراهقته في تصوير وعرض الجنس أو الشبق، أو الشغف، أو الإغراء، أو الإثارة، أو الجرأة، سينمائياً ودرامياً.
تمتلك السينما المصريّة تاريخاً طويلاً مع ذلك النوع من المشاهد، قدمته هند رستم وناهد شريف وميرفت أمين وناهد يسري وسهير رمزي وشمس البارودي ويسرا وأخريات، وفي النهاية لم يرين الكاميرا مسلّطة من “الأسفل” عليهنّ، كما مشاهد رانيا التومي في مسلسل “سره الباتع”.
يراهن خالد يوسف على حقيقة مفادها، أن المجتمعات العربية لا تلوم الرجل (الشأن الذي اختبره هو شخصياً بعد الفضيحة التي طاولته)، إنما تهبط بثقلِها على المرأة، تنكّل وتشهّر بها حين تخطئ أو تقدّم نفسها كامرأة لعوب، من دون أن تلوم من يقف وراء الكاميرا، وهو ما أعتقد أنه سيحدث مع التونسية رانيا التومي.
إقرأوا أيضاً: