تحت أشعة شمس العصر طويلة الظلال، أقف على جسر آيوي، تماماً في النقطة التي سقطت عليها القنبلة الذرية في 6 آب/ أغسطس عام 1945. أريدُ أن أصدّق أنني واقف هنا كي أتأمل ألوان الخريف وهي تسيل بهدوء فوق خضار أشجار حديقة السلام. لكن في الحقيقة في داخلي حيرة، تردّد، أو شعور لا أستطيع تحديد ملامحه، ذبذبات تتسلّل ببطء من الأرض إلى قدميَّ وتنحبس في صدري. أنظر إلى الأسفل بحثاً عن تفسير لما أمرّ به، فأرى قدميّ تستقران على حافة غطاء معدني لمصرف الشارع، منقوش عليه تصميم دقيق لورقة قيقب برتقالية اللون. تنقلني هذه الورقة إلى ابنة أختي في سوريا، تلك التي ترى في العناية بالنباتات نوعًا من الصلاة، فألتقط صورة فوراً وأرسلها إليها مع رسالة قصيرة “لقد وصلتُ إلى هيروشيما الآن”.
لم تمضِ لحظات حتى وصلتني منها رسالة صوتية تفيض بالدهشة والفرح:
“إن كنتَ ستحضر لي هدية عيد ميلادي الثالث عشر، فلتكن شيئًا من هذه المدينة… ورقة قيقب من هيروشيما”.
تحركني الحماسة في صوت ابنة أختي المتدفّق من هاتفي الجوّال، لكن ما إن ينتهي المقطع الصوتي حتى أتوقف مجدداً. أقف الآن على الرصيف المقابل لحديقة هيروشيما للسلام، وجهاً لوجه أمام القبة التي بقي هيكلها صامداً على قمة الحجارة متربعاً مثل حكواتي يحفظ الحكاية. تتحوّل إشارة المشاة إلى اللون الأخضر، تضيء ثم تخبو مرتين، وفي كل دورة تعبر أفواج الزائرين – أطفال المدارس بالزيّ الأزرق الداكن الموحد، في أعمارٍ تقارب عمر ابنة أختي – يسيرون نحو الحديقة بخطى منتظمة ويدخلون الحديقة كما لو أنهم ينطوون في صفحة من كتاب التاريخ.
يتوقف أمامي طالب صغير، وجهه يضيء بابتسامة ناجوميّة، تلك الابتسامة اليابانية التي تجمع بين الحياء والترحيب. يحدّق في لحيتي للحظة، ثم يقول بإنكليزية متردّدة لكنها صادقة: Welcome to Hiroshima. أبادله ابتسامة شكر، وكنت أعلم، في تلك اللحظة بالذات، أن شيئًا في الهواء يتغيّر. أعبر الشارع على صوت نقار الخشب الذي ينذر الكُفُف بخلوّ الطريق وأدخل حديقة السلام.
وهكذا أجد نفسي هناك، سوريّاً يتفيّأ ظلال الصنوبر والقيقب وحولي ازدحام منظّم وصامت. أرتال من أطفال يرتدون خوذاً بلاستيكية صفراء، يصغون باحترام إلى معلماتٍ يهمسن لهم الدرس – الحكاية التي لا بد أن تُروى: عن القنبلة الذرية التي أُلقيت على مدينتهم قبل ثمانين عامًا – تلك القنبلة التي، للمفارقة، حملت اسم الصبي الصغير Little Boy بينما أحرقت أطفالاً صغاراً.
يقطع المشهد وصول رسالة ثانية من ابنة أختي. تسجّلها من باحة مدرسة عدنان المالكي التي قُصفت في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2013 وأنهت حياة طالبين وطالبة. بينما يمتزج ضحك الطالبات بزمامير السيارات وصوت دراجةٍ ناريةٍ تمرّ على عجل. لا أكمل الرسالة. يكفيني هذا الخليط من الأصوات لينقلني فورًا إلى هناك — إلى ساحة مدرسةٍ في بلدٍ آخر، حيث يبدأ اليوم الدراسي في الوقت الذي ينتهي به هنا.
هيروشيما تُظهر ما يمكن أن نتحمّله نحن البشر. لا كضحايا فحسب – بل كناجين قادرين على البقاء والنهوض والتذكر. هذه هي الهدية الغريبة والرهيبة والمدهشة التي تقدمها المدينة: دروس في الصمود، في عناد الإنسان ضد النسيان. إنها مدينة تتحدث إلى الخوف والأمل في آن واحد. وأفكر في سوريا، حلب، في دير الزور، جوبر، الأماكن التي تحمل أسماءها الآن صور من الخراب والنار. نحن نهرب، نعم، وأحيانًا لا نحمل شيئًا سوى ثقل ما فقدناه. لكن الخوف يكمن في أن يكبر أطفالنا من دون معرفة بلا ذاكرة، أن تظل أنقاض مدننا غير معلمة وغير مذكورة – هذا خوف من خطورة أي رصاصة.
ربما ما يحتاجه أطفال سوريا هو مكان مثل هذا – ليس مجرد نصب تذكاري، ولا متحف، ولا حديقة – بل الثلاثة معًا. فضاء بإمكان الأطفال أن يتجولوا فيه، يتعثروا، يطرحوا الأسئلة، ويواجهوا التاريخ بطريقتهم الخاصة. متحف تعيش فيه القصص وتتفاعل، حيث تُسمع أصوات الأمهات والآباء والجيران. نصب تذكاري ليذكرنا أن بعض الحقائق أكبر من السياسة، أكبر من الحكام الزائلين، وتنتمي بدلاً من ذلك إلى أولئك الذين عاشوا، وإلى أولئك الذين سيعيشون بعدهم.
في هيروشيما، القبة قائمة. ومع ذلك، لا تحجب ضوء الشمس. تسمح له بالسطوع على الحجارة، على أرضية المكان، تتداخل في ذهني صور دمار كنيسة الأرمن في مدينة دير الزور، وقبابها التي عرّى جدرانها القصف ولم تبقّ إلا هياكل النوافذ على أشكال أقواس وصلبان مفرّغة. ضوء الشمس بالكاد يخترق الرماد، لكن ربما سيفعل. ربما يجب أن يفعل، من أجل الأطفال، من أجل البقاء، من أجل رواية القصة، حتى يأتي يوم، بعد أن تسكت البنادق طويلاً، ستتذكر الشوارع، وسيدرك الأطفال، وسيكرم الأحياء الأموات، وسيتحدث الأموات من خلالهم.
أمشي في حديقة السلام، وخطواتي مكتومة على المسارات الحجرية، والنسيم كثيف برائحة الخريف وشيء معدني لا يمكن تحديده – ربما التاريخ. الأطفال يركضون بجواري، ينحنون ويدقون الناقوس داخل النصب التذكاري لأطفال هيروشيما. وضحكاتهم الناعمة تتردد عند النصب التذكارية الجادة، غير مدركين للرماد الذي كان يغطي هذه الأرض في يوم من الأيام. براءتهم هي احتجاج ضد التدمير. أفكر في الأطفال في سوريا، أولئك الذين يعيشون الآن في الظل، الذين لا تزال ساحات لعبهم شظايا من الجدران، وأغاني تهويدهم تتخللها أصداء القنابل. من سيخبرهم الحقيقة؟ كيف ومن سيظهر لهم صور من راحوا، من كانوا في عمرهم من دون تزيين، من دون إخفاء الرعب؟
في المتحف، أرى صورًا لأطفال يشبهون أطفالنا – شعر محترق، عيون متسعة من الصدمة، أيادٍ تمتد نحو الأمهات. صوت المرشد ناعم لكنه ثابت، يروي يوم سقوط القنبلة. الصور جامدة لكنها تصرخ. أُصدم من قدرة مدينة على حمل ذاكرتها بعناية، بدقة، بينما تتلاشى مدننا في شظايا، غير مجمعة، غير موثقة، صامتة وبلا شهود. اللوحات، رفوف الكتب، الرسائل الشخصية – هي تمرد ضد النسيان. وأدرك: الذاكرة ليست فعلاً سلبياً. إنها تتطلب عملاً، بل جهداً مستمراً والتزامًا، وخيالًا، وشجاعة.
في الخارج، أتوقف عند نصب السلام للأطفال. مئات الطيور الورقية تتدلّى كصلوات صغيرة بألوان لا حصر لها. كل واحدة منها صلاة، أمنية، رفض السماح للتاريخ بأن يُمحى. في سوريا، ليست لدينا مهارة تشكيل الطيور من الورق بعد. ليست لدينا نصب تذكارية. ربما يومًا ما سيكون لدينا – لكن من سيطوي الورقة الأولى؟ من سيتجرأ على التحدث، على الكتابة، على الحفظ؟ ولمن؟ من أجل الأطفال، دائمًا من أجل الأطفال. لأن الذاكرة من دون شهود هي غبار. القصص من دون وصاة هي ظلال. وعندما لا يستطيع الأحياء التحدث، يبقى الأموات بلا صوت.
إقرأوا أيضاً:
أخطو إلى أشعة الشمس. القبة ترتفع في المسافة، صامتة لكنها ناطقة، تحذير ووعد في آن واحد. هيروشيما تحملت، نجت، أعادت البناء، وعلّمت العالم أن البشر أقوى مما يظنون. إذا كانت سوريا ستنجو، إذا كنا سننجو، يجب علينا أن نبدأ ونخطو بالمثل – لا لأنفسنا فقط، ولكن من أجل الأجيال التي ستسأل، بعد عقود: ماذا حدث؟ من يتذكر؟ من يشهد؟ أفكر، وقلبي مشدود، أن جميع الثورات، جميع الحروب، جميع الخسائر، تتقارب في النهاية على هذا السؤال: كيف نخبر الأطفال الحقيقة، من دون سحقهم، من دون إسكات الأمل؟ كيف نبني حديقة، متحفاً، نصباً تذكارياً – وفي فعل ذلك، نبني جسرًا من الماضي إلى المستقبل، مستقبل سيتذكر؟
هيروشيما ليست مجرد مدينة الظلال والأنقاض؛ بل هي أيضًا مدينة الأوراق. في كل مكان، خضراء في الصيف والحمراء في الخريف تدفع الحياة بإصرار من خلال – القيقب، الجنكة، أزهار الكرز – تحدّ صغير في مواجهة الإبادة. ألاحظ أوراق القيقب تتساقط مع كل هبّة ريح خفيفة، حوافها المسنّنة، وعروقها الرقيقة، ولكنها عنيدة، مثل مدينة ترفض أن تختفي. إنها في كل مكان: مضغوطة في الكتب، مرسومة على الجداريات، مطوية إلى رافعات ورقية، تُرتدى كأوسمة على زي المدارس. إنها توقيع الحياة في هيروشيما، علامة على البقاء، إعلان بأن الحياة تستمر حتى حيث ساد الموت في يوم من الأيام. لا غريب أن تتساقط صور سوريا مع أوراق النبات. أفكر في أشجار الزيتون التي يبست، أو اقتُلعت، أو تحولت إلى رماد. أفكر في مزارعنا وبساتيننا، والحدائق الصغيرة حيث كان الأطفال يتعلمون في السابق مطاردة ضوء الشمس بدلاً من الظلال.
في هيروشيما، ورقة القيقب أكثر من مجرد ورقة – إنها هوية، استمرارية، ذاكرة. تهمس لمن سيستمع: “لقد كنا هنا. لقد تحملنا. وسنستمر في التحمل”. وأتساءل: من سيعلّم أطفالنا أن يروا في الألوان ليس فقط جمال الطبيعة، ولكن الإصرار العنيد على البقاء، والاستمرارية، والتذكر؟ ألتقط ورقة قيقب بإصبعي، أشعر بالشبكة المعقدة لعروقها، كما لو كنت أشعر بنبض المدينة من خلال الحاجز الرقيق من الورق. في تلك اللحظة، أدرك أن الهوية ليست فقط ما تكون عليه المدينة، ولكن ما تختار أن ترعاه. لم تختر هيروشيما الحياة بعد الموت، فكل المدن لديها القابلية أن تُمحى وتختفي، لكن أهلها هم من نفخوا بها الروح. وعلى شعوبنا أيضاً أن تختار الآن – فالأطفال ينتظرون، وأيديهم الصغيرة جاهزة لتشكيل الطيور الورقية، للزرع وللبناء. وربما يكون هذا هو سر مرونة الإنسان: الشجاعة للسماح للطبيعة باستكمال دورتها، حتى بعد النار.
يقودني الممشى الإسمنتي في حديقة السلام إلى متجر الهدايا، تستقبلني رائحة الخشب المصقول وبخور البَيكُندان ورائحة خفيفة من الورق. أتجوّل بين رفوف القباب المصغرة، طيور تحاكي الطيور الورقية، وبطاقات البريد التي تبدو أثقل من وزنها. أخرج هاتفي الجوّال وأبدأ بتسجيل رسالة صوتية باللغة العربية لابنة أختي، أخبرها أنني وجدت شيئاً سيعجبها، فنجان مطبوعة عليه أوراق القيقب الرقيقة، كي تتمكن، حتى من وسط العالم بعيدًا، من حمل هيروشيما في يديها. ثم تظهر أمامي – ثلاث نساء شابات حادّات العيون من السعودية، طاقتهن مفاجئة، مثل وميض الشمس. واحدة منهن تصرخ وهي تضحك: “أخيرًا، شخص يتحدث العربية!”، هن هنا للعمل، كما يقلن، لكن أصواتهن تحمل خفة الاكتشاف. عندما يسألن من أين أنا، أقول سوريا. تظلم أعينهن، وتخفت ابتساماتهن لوهلة، ثم يخبِرنني – برفق، كما لو كن يعترفْن بحزن خاص – أن منظر القبة وصور الأطفال ذكرتهن بغزة. يتكاثف الهواء. قلبي يتألم من تداخل الصور مع شعور بالفخر يدغدغ قاع روحي أن يُقارَن السوريون بفلسطينيي غزّة.
غزة، مدن سوريّة وهيروشيما. جميع الأطفال محبوسون في إطارات من المعاناة والأمل، جميع أوراق التاريخ مطوية في بعضها البعض. أومئ برأسي، من دون أن أقول شيئًا، لأن اللغة تبدو غير كافية، ومع ذلك بشكل أو بآخر كافية، لأنني أؤمن بأن الأسى هو لغة يتقنها الجميع. أركض نحو الرف، وألتقط الكوب، سطحه مزخرف بأوراق قيقب مصنوعة يدويًا، كل أخدود لمسة من التحدي الأخضر. أحمله في يدي، متخيلًا ابنة أخي تحمل الكوب يومًا ما، وأصابعها تتبع النقوش، وفي تلك اللحظة الهشة، أشعر بقوة الإصرار البشري. نحن ننجو، نتذكر، نهب الحياة لمن سيأتون بعدنا. الأوراق، الكوب، عيون الأطفال – جميعهم يُصرون على ذلك.
أقف أمام البائعة التي ترتدي قفازين أبيضين من القطن. أخبرها أن هذا الفنجان هدية عيد ميلاد، سينتهي به المطاف بين يدي ابنة أختي في سوريا، فتبتسم وهي تلفّه بورق إسفنجي رقيق، ثم تبدأ تسرد حكايته بسرعةٍ وحرفيةٍ تدل على أنها ترويها عشرات المرات في اليوم، ومع ذلك لا تتعب من الابتسام وهي تتحدث إلي:
“يربطُ الكثير من الناس هيروشيما بصورة ورقة القيقب اليابانية. نعم إنها الشجرة الرسمية لهيروشيما ورمز جزيرة مياجيما. نتابع رحلة أوراقها الخضراء في أوائل الصيف إلى ألوانها النارية في الخريف، تشكّل الشجرة عرضًا مذهلاً من الألوان على مدار العام. والحرفيون هنا يعملون على نسخ أوراق القيقب الحقيقية بعناية، واحدة بعد أخرى، ليصنعوا شكلًا مطابقًا للحجم والتفاصيل للورقة الطبيعية. هل ترى هذه الشقوق الدقيقة على سطح الفخار؟ مع مرور الوقت، ستبدأ ألوانها في التغير أيضاً – وهذه ليست عيبًا، بل سمة من سمات السيراميك، يجب احتضانها والاستمتاع بها ثم تتمنى للطفلة عيد ميلاد مليئاً بالمرح”.
كلّ ما نحتاجه للبقاء هو أن نستمر في السرد، لأن التوقّف عن الحكي هو الشكل الأهدأ للموت.











