في أول زيارة لفريق “درج” إلى دمشق منذ تأسيس المنصة عام 2017، وبعد سنوات من تحقيقاتنا حول فساد النظام السوري ورجال الأعمال المرتبطين به وانتهاكاته، بالتعاون مع الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية (سراج) زرنا عدداً من الفروع الأمنية التي كانت شاهدة على ممارسات النظام السابق. كان الهدف توثيق جرائم النظام بالصورة والبحث في الوثائق المتناثرة، بعضها محروق أو ممزق، التي توثق الجرائم والانتهاكات، بما في ذلك الجرائم المالية.
حصلنا على تصريح من وزارة الإعلام في الحكومة الإنقاذية الجديدة لدخول هذه الفروع. داخل “فرع فلسطين”، وجدنا أنفسنا أمام كم هائل من الوثائق والسجلات التي كشفت عن الطبيعة البوليسية للنظام السابق. تنقلنا بين المباني داخل الفرع، حيث كانت صور الأسدين الأب والابن مرمية على الأرض إلى جانب الأعلام والبدلات العسكرية التي تخلّى عنها مرتدوها. كما وجدنا جوازات سفر مبعثرة من جنسيات مختلفة، بينها عدد كبير من الجوازات السعودية.
بعض الوثائق التي عثرنا عليها كانت حديثة العهد، تعود إلى ما قبل يومين فقط من سقوط نظام بشار الأسد. الزنازين كانت موحشة ومخيفة، والملفات المحروقة أثارت تساؤلات حول ما قد تحتويه من معلومات قد تخفف آلام أهالي المعتقلين المفقودين، أو تُدين مجرمي النظام.
أثناء البحث، سمعنا صوتاً ينادي “حسن”، تلاه إطلاق نار كثيف على مدخل أحد مباني الفرع. هرعنا للخروج لنكتشف أن مسلحي “هيئة تحرير الشام” أطلقوا النار في الهواء لإيقاف لص حاول التسلل إلى الفرع. غادرنا بسرعة من دون استكمال العمل.
عدنا في اليوم التالي لنجد روائح حرق جديدة في المكان، يبدو أن هناك محاولات مستمرة لحرق المزيد من الوثائق أو سرقتها، وفق ما فهمناه من مسلحي الهيئة.
وجدنا ملفات لأشخاص من جنسيات مختلفة: لبنانية، سعودية، إيرانية، روسية، أوزبكية وغيرها. بعض غرف الفرع التي تضمّ الوثائق كانت محروقة بالكامل، والكثير من الوثائق مرمية على الأرض داخل المباني وخارجها، بعضها مبلل وقد فقد أحباره.
في الطابق السفلي، السجون كانت متاهات لا نعلم كيف دخلناها ولا كيف خرجنا منها. الروائح كانت خانقة إلى درجة لا تُحتمل، وأثرها لم يفارق أجسادنا حتى اليوم؛ فزميلي وأنا، ما زال أنفانا ينزفان بعد 10 أيام من مغادرتنا الفرع. فماذا عن الضحايا والمعتقلين؟ كيف تحملوا هذه الظروف؟ يخبرنا أحد المعتقلين السابقين في مقابلة مع “درج” أنه في الفترة الأخيرة من اعتقاله كانوا يضعون 7- 8 أشخاص في الزنزانة الانفرادية الواحدة في “فرع فلسطين”، وبدأت حالات الوفاة نتيجة الاختناق. عندما شممنا الروائح هناك، استطعنا تخيّل هول الأمر؛ فلم نمكث أكثر من ساعة وما زالت الحساسية تلاحقنا إلى اليوم. فكيف بمن قضى سنوات في هذه الظروف اللاإنسانية؟
أثناء توجهنا إلى السجون تحت الأرض، نبّهنا أحدهم إلى خطر الضياع في الداخل؛ فمن الواضح أن كثيرين قبلنا ضاعوا في متاهات أقبية “فرع فلسطين” خلال الأسابيع الماضية أي بعد سقوط النظام. كل زنزانة تحمل قصصاً لا تُحصى: كتابات على الحائط تعدّ الأيام، وآيات قرآنية، وأسماء لأهل وأحباء كُتبت بيد معتقلين. البعض رسم لوحات فنية بسيطة، لكن الأغلب كان يدعو للفرج.
كان فرع الخطيب تجربة مختلفة وأكثر سريالية. دخلنا إلى الطابق السفلي المظلم حيث الزنازين الانفرادية. رافقنا أحد مسلحي “هيئة تحرير الشام” طوال فترة وجودنا التي استمرت ساعتين ونصف الساعة، كان يحمل سلاحه بصمت ولم يفارقنا للحظة.
بسبب انعدام الكهرباء، اضطررنا لاستخدام هواتفنا للإضاءة أثناء تصوير الوثائق. ساعدنا عنصر الهيئة بإضاءة هاتفه لتسهيل المهمة. تحت الأرض وفي ظلام دامس، كان المشهد غريباً، مسلح يساعدني بلطف على توثيق جزء من تاريخ انتهاكات النظام السابق في هذا الفرع!
تبقى الوثائق الموجودة في الفروع الأمنية، ذات أهمية بالغة كأدلة حاسمة، يمكن أن تُسهم بشكل كبير في تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين، خاصة بعد السقوط المفاجئ والسريع للنظام.
إقرأوا أيضاً: