في مساء يوم مزدحم بالعمل، استقبل معتزّ مكالمة هاتفية، تخبره بأن عليه الحضور لأمر مهم، الزمان عقب انتهاء المكالمة مباشرةً، والمكان في الجهة المقابلة له. وبالفعل، توجّه لمعرفة الأمر، ليجده إخباراً بأن المنطقة التي أسّسها ويعمل بها، ستُزال، ضمن خطة التطوير التي طاولت الكثير من المباني والمناطق في محافظة القاهرة.
معتز نصر الدين، هو مؤسس مركز “درب 1718” الثقافي، المكان الذي علم شفهياً أنه ستتم إزالته، يقع في منطقة الفسطاط في القاهرة القديمة، كجزء من تطوير الحي، وهي قرية الفخارين المقابلة لها. ويعد المكان ملتقى للفنانيين والموسيقيين وأصحاب المواهب المختلفة، ويمثل لهم مساحة للتعبير والتدريب والتعلم أيضاً.
يضمّ المركز الثقافي الذي أسّسه نصر الدين في بداية الألفينات، مباني عدة، بينها مصنعان للفخار، وورش نحت وسيراميك وأعمال زجاجية ومعدنية، وأيضاً مؤسسات وورش فنية. وفي اللقاء الذي جمع كلاً من معتز، رئيس الحي، ومدير قرية الفخارين ونائب المحافظ وأشخاص آخرين، علم أن هناك قراراً شفهياً صدر بإخلاء المكان لبدء هدم 3 مبان لتوسعة الطريق، ليخرج من هذا اللقاء متجهاً إلى مجلس الدولة، لرفع دعوى قضائية، والمطالبة بوقف القرار الذي لم يطلع عليه بعد، وأيضاً بمساندة مجلس النواب.
في عام 2002 وبعد فترة طويلة أمضاها في الخارح، التقى نصر الدين محافظ القاهرة، وعرض عليه المشروع، فأتاح له حينها الأرض بمساحة تقدّر بـ30 فداناً، لتتحول الفكرة الى مشروع ثقافي يبدأ نشاطاته في 2008، ينظم ورشاً وندوات، وفعاليات فنية مختلفة.
يرى نصر الدين، أن المشروع بموقعه الحالي لا يعيق أي توسعة، بخاصة أن الجهة المقابلة له فارغة بمساحة تزيد عن 100 متر، وهو يقع على مساحة 3 أفدنة، منها 1500 متر لإقامة النشاطات الفنية، وباقي المساحة مخصصة لأعمال الحديد والأسمنت والفخار والنحت والنحاس.
أطلق نصر الدين حملة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يطلب فيها المساندة من الجميع، وأطلق عريضة لوقف هدم المبنى، جاء فيها: “دعت السلطة المحلية أخيراً إلى إخلاء فوري لـ”درب 1718″ من دون إخطار رسمي، وتتمثل الخطة في هدم صالة العرض لتوسيع الشارع الذي يربط بمتحف الحضارات، من دون أي اعتبار للمساهمات والخدمات المهمة التي يقدمها مركز درب للفنون للفنانين في جميع المجالات الثقافية والفنية منذ إنشائه في عام 2008، ولا للمجتمع الحرفي المزدهر النابض بالحياة الذي تطور حول المركز”. وطالبت العريضة بإعادة النظر في قرار الهدم، والبحث عن حلول بديلة تسمح بالحفاظ على المؤسسة الثقافية.
ورغم أن القرار ما زال، حتى كتابة هذه السطور، شفهياً، ولم يصدر بشكل رسمي، إلا أنه قبل ما يقرب من 3 أشهر، حضر موظفون من الحي الى المؤسسة، وبلّغوا مالكها بأنه سيتم هدم مبان عدة لتوسعة الطريق، وبعد نحو أسبوع أخبروه بأن القرار تم إلغاؤه، ولكن في نهاية تموز/ يوليو الماضي زار موظفون جدد الحي، للإبلاغ مجدداً بقرار الهدم، وبضرورة إخلاء المباني.
منطقة الفسطاط التي يقع فيها “درب 1718″، أزيلت منها بالفعل مبان سابقة، منها مبان سكنية وورش، للغرض الحالي نفسه، وهو توسعة الطريق ضمن خطة التطوير، والتي طاولت مناطق عدة في محافظة القاهرة الكبرى. ففي القاهرة القديمة التي تقع الفسطاط داخلها، والتي تعد منطقة من أقدم الأحياء في القاهرة الكبرى، تم هدم 11 عقاراً وإخلاء أكثر من 7 منازل، ثم اتجهت الكراكات شرقاً إلى منطقة عرب اليسار، التي تجمع صغار الحرف اليدوية وورش تصنيع الفخار، وهدمت 8 عقارات بسبب أعمال التطوير.
إقرأوا أيضاً:
لم يكن “درب 1718” المحاولة الأولى لمواجهة المواقع الأثرية والثقافية، في مقابل خطة التطوير كما تسميها الحكومة، فسابقاً، وتحديداً في 2021، أطلق مثقفون حملة للحفاظ على مقر جمعية أدباء وفناني الإسكندرية “الأتيلييه”، والذي يعد واحداً من المراكز الثقافية الذي يعود تاريخ بنائه الى أكثر من 100 عام، بعد قرار قضائي بإخلائه، وقد حصل مالكو المقر على حكم قضائي بإخلاء المبنى.
وقبل أتيلييه الإسكندرية، كانت المواجهة مع قصر ثقافة المنصورة، والذي يطل على نهر النيل في المدينة، ليدخل القصر ضمن أحد المشاريع السكنية المعروف باسم “تحيا مصر”. آنذاك، قال وزير النقل في مؤتمر صحافي، أنه من المقرر توفير مكان بديل للقصر، وأنه “مش لازم يكون على النيل”، ما دفع كتاباً ومثقفين ونواباً في البرلمان أيضاً الى رفض القرار.
الحملة التي دشّنها نصر الدين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وطلب فيها دعم برلمانيين ومثقفين، تضامن معها أيضاً إعلاميون، منهم المذيعة لميس الحديدي، التي قالت في برنامجها “كلمة أخيرة” المذاع على فضائية “أون إي” التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، التي تتبع بدورها للدولة: “عندنا مرشح لليونسكو إزاي وبنهدم مناطق الفن اليدوي، المنطقة بها كبار فناني التحف والنحت مثل محمد مندور وعزة فهمي ليه نشيلها لمجرد أننا نوسع الطريق”، موضحًة: “الفن أهم من الكوبرى والأسفلت، ومصر بلد لحم ودم وروح مش أسفلت وكباري، في باريس بيلفوا حوالين الشجرة والتمثال والشوارع ضيقة، ليه عايزين نغير روح مصر؟ الرئيس السيسي تدخل من قبل لحل مشكلة المقابر بنفسه، مين هيحل مشكلة منطقة درب”.
عبارة “التطوير”، الى جانب عبارات مثل “إخلاء وهدم أو غلق”، أصبحت تتكرر على مسمع المواطن المصري أخيراً، والتي طاولت أوجه الحياة كافة، بدءاً من إقفال حدائق ومتنزهات عامة، مروراً بهدم وإخلاء منازل وأماكن عمل، وصولاً الى هدم وإخلاء أماكن ثقافية. وعلى رغم تعدّد أوجه الأماكن التي تصدر فيها قرارات، إلا أن “الاستثمار” هو الهدف منها كلها، وتحويلها الى مناطق استثمارية أو تجارية لكسب مزيد من المال، علماً أن ذلك يعد مخالفة واضحة للمادة 33 من الدستور، التي تنص على أن تحمي الدولة الملكية بأنواعها الثلاثة، الملكية العامة، الملكية الخاصة، والملكية التعاونية.
النائب فريدي البياضي، عضو مجلس النواب، تقدم بسؤال برلماني حول “درب 1718″، قائلاً: “هذه المؤسسة التي صدر للأرض المقامة عليها بقرية الفسطاط للفنون والفخار؛ بمصر القديمة؛ قرار تخصيص من محافظة القاهرة منذ 23 عاماً، وباشرت درب 1718 نشاطها منذ ما يقارب 20 عاماً مزاراً عالمياً وشعاع نور من الفن ونقطة جذب للسياحة الفنية العالمية. والفنان الذي يمتلكها ويديرها، فنان معروف محلياً ودولياً في مجال الفنون الخزفية والتشكيلية المختلفة، شارك في الكثير من المعارض المحلية والدولية سواء بمفرده أو بمشاركة فنانين مصريين وعالميين مختلفين، وتم إدراجه في عدد من الموسوعات الفنية المحلية والعالمية، وحصل على الكثير من الجوائز الدولية تقديراً لإبداعه ودوره الفني البارز”.
كذلك، توجّه البياضي بسؤال الى وزارة الثقافة: “أين دور الوزارة في حماية الفن والمبدعين ؟! وماذا قدمت الوزارة لتشجيع وحماية مثل هذه النقاط المضيئة التي تشكَل هوية مصر الفنية والثقافية؟”. وتبعه بسؤال آخر وجّهه الى وزير التنمية المحلية: “لماذا لم يتم اللجوء إلى شق الطريق وتمهيده من الجهة المقابلة لدرب 1718، خصوصاً أنها منطقة شاغرة؟ لماذا لا تتم طمأنة الفنانين الموجودين في المنطقة، والتأكيد على عدم التعرض للمركز المذكور أو الفنانين الآخرين بالهدم أو الإزالة مع بحث البدائل التي تحافظ على الطابع الفني الخاص بالمكان وعدم تضرّر أنشطته”.
لم يفقد نصر الدين الأمل، فهو يرى أن الفن سيستمر، وأن التطوير هو الفن، وأن تستقبل الأماكن الثقافية فنانين وموهوبين وتوفر فرصاً للمواهب التي لا تستطيع التعبير عن نفسها، فهذا هو التطوير الحقيقي، وهذا ما تعمل درب 1718 عليه منذ البداية، واختتم حديثاً متمنياً أن يكون القرار قد صدر بشكل خاطئ.
إقرأوا أيضاً: