لكل جماعة مشروبها الخاص، الذي يرمز الى عاداتها وتقاليدها. للإنكليز الشاي وللروس الويسكي. البرازيل اشتهرت بالقهوة كما ينتشر الكرك في الدول الخليجية. اختُرع الموجيتو في البيرو، أما الكوكا كولا فانطلقت من الولايات المتحدة. لكل عصر مشروبه الكاسح، الذي تتجمع حوله العائلة ويتصدر قائمة المشتريات. لكن المشروب الأحب الى قلب العائلات الدرزية عبر الأجيال يبقى المتة.
“قرقعة المتة” مثل يبرز حرف القاف، في إشارة واضحة إلى الصورة النمطية الدرزية، المتمحورة حول تشديد حرف القاف وشرب المتة. بينما يُطلب من كثر من أهالي الجبل تغيير لهجتهم واستبدال حرف القاف بالهمزة عندما ينزلون إلى الساحل للعمل أو التعلّم، تبقى المتة المكون الهوياتي الوحيد الذي يربط أهالي الجبل بطفولتهم وعائلاتهم وضيعهم الجبلية.
قد يظنّ البعض أن قدسية المتة مبالغ فيها الى حدّ اعتبارها مكوناً هوياتياً لأقلية دينية وديمغرافية خاصة، لأن المشروب لا يمت الى الهوية اللبنانية بصلة، بل يُستورد من الخارج. لكن في الحقيقة، امتداد عادة المتة على أجيال شتى، أدى إلى تفاعل هذه الأجيال والثقافات مع المشروب حتى أصبح يعكس البيئة التي تشربه. مثلاً، يشرب كل فرد من الأسرة المتة على حدة في دول أميركا اللاتينية. بينما في الشرق الأوسط، نظراً إلى الطبيعة الزراعية التي تأخذها مجتمعات الجبل، حتى شرب المتة يصبح عملاً جماعياً. يصب أحدهم المتة في القرعة التي تجوب العائلة والأصدقاء ريثما تنظف “البومبيجا” بقشرة الحامض قبل أن يُقدم الشراب لشخص آخر. والبومبيجا هي شبه قصبة تُشرب بها المتة، سُميت كذلك لأن الكلمة تعني اللمبة في الإسبانية وترمز الى شكل مصفاة في أسفل البومبيجا.
كما أن الابتكار الدرزي عدّل في المشروب، الذي لم يعد مقتصراً على ماء مغلي والنبتة المجففة، بل أصبح الماء يُستبدل بحليب أحياناً ويضاف إليهما السكر. في هذه النسخة الحلوة من المشروب، قد تُستبدل قشرة الحامض بورقة من نبتة العطر. كما قد يضاف المسك. أما النسخة المُرة، فيضاف إليها الهيل المطحون أحياناً، لأن الكافيين في المتة ليس كافياً لتنبيه عقلنا صباحاً ليستيقظ.
ويصبح المشروب الجماعي أكثر من مجرد منبّه عند كل تجمّع عائلي تتخلله قرعة المتة أو ربما قرعتان لتلبية تهافت العائلة والأصدقاء على المشروب. بل وتشهد جلسات المتة مشاجرات عائلية تذهب خلالها القرعة ضحية أولى تليها السكرية. ثم تتم الصلحة عند شرب نخب قرعة متة أخرى. وقد تُحزم القرعة منقوشة عليها قلعة بعلبك أو الأرزة مع عبارة “بحبك يا لبنان” في أحد أمتعة المهاجرين، الذي يرمي الى أخذ ذكرى له من الوطن.
امتداد عادة المتة على أجيال شتى، أدى إلى تفاعل هذه الأجيال والثقافات مع المشروب حتى أصبح يعكس البيئة التي تشربه.
اليوم، وسط الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعصف بالشرق الأوسط، تُهدد المتة عند كل مفترق طرق. المتة الحلوة أصبحت ترفاً لكثيرين مع ارتفاع سعر السكر والحليب، وتراجع جودة المتوافر منه. كما أن الهيل لم يعد متاحاً كالسابق، بخاصة أنه من البضائع المستوردة بالعملة الصعبة.
ارتفع سعر المتة من عشرة آلاف للكيلوغرام الواحد إلى أكثر من 200 ألف في لبنان. وتمت دولرة مكونات المتة وعدتها مع انهيار عملتي لبنان وسوريا، ما جعل من شرب المتة حكراً على الأغنياء. استجابة لذلك، لجأت بعض العائلات إلى طحن المتة لتدوم لفترة أطول. واضطرت عائلات أخرى إلى تجفيفها بعد استعمالها، لاستخدامها مرة أخرى. ولم يعد شرب المتة أكثر من مرة في اليوم خياراً، بل أصبح ترفاً، إذ تكتفي معظم العائلات بجلسة متة واحدة في اليوم.
مثلما تلخّص المتة الوضع الاقتصادي – السياسي اليوم، تلخص الكثير من التاريخ والعلاقات الدولية لدول حوض البحر الأبيض المتوسط على مدى قرون. بدأت القصة عند زيارة الإمبراطور البرازيلي الأخير، بيدرو الثاني، الشرق الأوسط في سبعينات القرن التاسع عشر، ودعوته سكان الساحل الى السفر إلى البرازيل. تشجع مسيحيو المنطقة التي تُعرف اليوم بلبنان، على السفر بعد حرب أهلية درزية – مسيحية في جبل لبنان، أودت بحياة أكثر من عشرين ألف مسيحي فروا من الجبل إلى الساحل.
بعدها، تعاقبت الأسباب التي أدت إلى هجرة أهالي حوض البحر المتوسط الى أميركا اللاتينية: الحربان العالميتان الأولى والثانية والنكبة الفلسطينية، إضافة الى تأزم الأوضاع الاقتصادية والسياسية وبطش السلطات المحلية بالأقليات الدرزية والمسيحيين واضطرار كثيرين منهم إلى الهجرة. فعلى سبيل المثال، انتهج الرئيس السوري السابق أديب شيشكلي، سياسات عدائية تجاه دروز سوريا في خمسينات القرن الماضي، وتجدر الإشارة هنا إلى أن سوريا اليوم، هي المستورد الأول عالمياً للمتة الأرجنتينية.
وجد مسيحيون كثر ملجأ في أوروبا، بخاصة بعد الإرساليات وسائر البعثات الأكاديمية والدينية، ووجد الدروز في أميركا اللاتينية ملجأ أدى إلى توافد سكان الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط إلى البرازيل، بعد زيارة الملك بيدرو الثاني، الذي أتاح استقدام الشراب الى الشرق الأوسط، معتمدين على صورة أخرى للشرق، وهي براعة الفينيقيين بالتجارة.
لكن تلك الهجرة لم تكن الاحتكاك الأول بين العالم العربي وأميركا اللاتينية. بل إن سفن كريستوفر كولومبوس تزامن وصولها الى أميركا اللاتينية مع طرد ملك إسبانيا آخر إمبراطور مسلم الى الجزيرة الأيبيرية. احتكاك مملكتي إسبانيا وأوروبا مع الحضارة العربية بالشق الشمالي الأفريقي منها، أدى إلى نقل معالم من هذه الحضارة إلى دول أميركا الجنوبية والمتوسطة، حيث احتسى بعض من شعوبها الأصلية نبتة المتة.
المفارقة أن هذا التاريخ الحافل للمتة، لم يجعل من النبتة معروفة لدى كثيرين إلا عندما حمل المنتخب الأرجنتيني الى قطر أطناناً من المتة خلال كرة القدم. ثم عندما نشر ميسي صورة له مع كأس العالم وهو يشرب المتة. كأن الترحال من أميركا اللاتينية مجدداً بدا ضرورياً لإحداث هذا الزخم حول مشروب مفضل لدى كثيرين.
لم تعد المتة اليوم مهمة. كانت حديث الساعة عند فوز الأرجنتين. أما الآن، فعادت إلى سابق عهدها: مشروب الوصم للدروز. لعله وصم صحيح ودقيق ينطبق على الدروز من المحيط الى الخليج وفي المهجر أيضاً. لكن مطلقي الوصم يغضّون الطرف عن تشكيل هوية درزية تتخطى النزاعات السياسية وكونها موضوع دراسة يتيح فهم المجتمع الدرزي بالعوامل التي أثرت فيه. لذا، عندما يتهم أحدهم شخصاً ما بـ”قرقعة المتة”، فإنه يستهتر بما هو أجمل صورة نمطية قد تُلصق بجماعة ما وأكثرها دقة.
إقرأوا أيضاً: