أضعُ المنشفة المبللة على رقبتي كما يضع سائق سيارة أجرة واحدةً على رأسه وسط حرّ دمشق، الكهرباء مقطوعة والحرّ يكاد يجعلني كلوحة لسلفادور دالي، “سايخة” كآيس كريم في يد طفل، وبينما يقود السائق وسط دمشق ويطلق الشتائم، ويغازل صبية والعرق يتصبب منه، أفكر بالكتابة وبالكيبورد الساخن أمامي، وبصراخ جارتنا على طفلها ذو الخمس سنوات، الذي يقلد كلّ أصوات البائعين الجوالين لساعات، فلساعة صباحاً يصرخ: “ع المكسر يا بطيخ”، بعد مرور البائع المتجول من دون أن يشتري والداه ولو بطيخة واحدة. أمّا ظُهراً فيصرخ: “كل كيلين خيار بـ100 ليرة” ويحفظ عبارة إنكليزية واحدة “اوه ماي غاد”، يطلقها كلما مشى أو ضرب الكرة أو صرخت به أمه. أضع المنشفة المبللة حول عنقي وأكاد أصرخ وأنا أكتب عن “إيميل زولا”: “مش شايف الغمّاز ولاه حمار”، وعندما أقرأ “ربيع جابر”، أكاد أصرخ على زحام السيارت وأطلق الزمور وأنظر في المرآة إلى الصبية الجالسة في الخلف وابتسم.
هذه المدينة تجعل الجميع واحداً، فأنت كاتب وسائق أجرة وأمٌّ تصرخ وبائع جوّال، كلنا صوت واحدٌ من الصراخ، وطفل يركل القطة بقدمه ويقول: “أوه ماي غاد”، الصراخ على أبواب المؤسسات الاستهلاكية، الصراخ لأم مفجوعة، صراخ طفلة وهي تغتصب. في دمشق تموت الأحلام ويبدأ الحرّ والجوع والكلمات القليلة التي تقال بصوت عالٍ، كلمات عن الجوع وحسب وعن سيارة قطعت الطريق عليك ومنشفة متسخة على رأس سائق.
لماذا يعلو الصراخ أينما اتجهت في دمشق؟
لماذا بتنا أكثر غضباً ولماذا لم نعد نهمس؟ يبدو أن الخوف يزداد وتظهر أشياء كثيرة معه ليعبّر الإنسان السوري عنها بالعنف والصراخ، والاغتصاب والقسوة والسرقة والصراخ، كلنا نتيجة حتميّة للعنف والحرب وانهيار الأنظمة التعليمية والصحية، كلنا نتيجة الخسارة، تدفعنا الرغبة في التعويض عن سنوات سرقت منّا ونحن نشاهد الموت يزحف إلى الشوارع والمنازل، بينما ينصح التجار ورجال الأعمال بعضهم نصيحة روتشيلد الذهبية: “عندما ترى الدم في الشوارع، اشترِ. إنه الوقت المناسب للشراء”. نعم فالذي اشترى شقة فاخرة في بداية الأزمة بـ240 مليون ليرة سورية، فهي اليوم تقارب المليار ونصف المليار ليرة سورية، لكن لن أتحدث عن العقارات عالية الثمن ولا المضاربين ومستغلي الأزمات، هناك صراخ يعلو وسط ذلك كله، فالصراخ لغة السوريين الجديدة.
عزف الكمان خلفية لجوع الصغار
دوماً ما تخيلنا، أقصد في سوريا، الجوع كحدث يحصل فجأة، أي أننا سنفقد الطعام فجأة وتتحول أجساد أطفالنا إلى هياكل عظمية، لكننا الآن ونحن داخل الحدث الأكبر، أقصد بداية المجاعة بات الأمر مختلفاً ونستطيع أن ندرك ملامح وصولنا إلى هنا، نستطيع أن نسرد طيلة النهار أحداثاً مختلفة ومؤشرات تقول إننا على أبواب المجاعة، لم تُفقَد المواد الغذائية تماماً من الأسواق، لكن الحصول عليها بات أصعب ويكلف الكثير. صارت المشتريات أصغر حجماً، يعدُّ صاحبها الحبات على أصابعه، وتقدّر النساء حصة كلّ طفل وبناء عليه تشتري كمية أقل معتمدة على كمية أكبر من الخبز.
يبدو أن الأمور كلها تبدو تافهة أمام الجوع، الثقافة والأحلام والهوايات، وأصغر المسرات تشعرك بالذنب، كيف لك أن تضحك وتستمتع بالموسيقى وسط هذا الخراب! كلّ شيء يفقد قيمته الحقيقية فحتى مع وجود الحرب لم يشعر السوريون بهذا الخواء، وفقدان معاني الحياة الحقيقية، الجوع أكثر التجارب قسوة، ما معنى عودتي لتعلم عزف الكمان، هل سأضعه خلفية لأنات الأطفال الجائعين؟ أو خلفية لـ”جون” الصبي ذي الخمس سنوات الذي يقلّد الأصوات كلها في دمشق، ما معنى القراءة والكتابة أمام الشتائم من العيار الثقيل لأجل قنينة زيت وكيلو سكر؟
يبدأ الجوع وتغزو ملامحه الوجوه حين تصغر كرة الآيس كريم وتصبح الملذات الصغيرة والباردة أصغر وأصغر، وحين يدحرج الموظف في محل حلويات مشهور كرة الآيس كريم، أردد مازحة: “يبدو أنك بخيل، هذه الكرة نصف حجم الكرات سابقاً”، فيرد بخجل: “هذه تعليمات الإدارة”، فأخجل أكثر، على رغم أنه يحاول دحرجة كرة ثانية أكبر، أخجل من العامل البسيط ومن الكرة التي تكبر من دون أن تكون كافية لعيون الأطفال وللطعم الحلو في فمي والذي أكاد أتحسسه مراً في النهاية، أجل لأني أعلم أن الجوع يبدأ حين تصغر كرات الآيس كريم ثم تتلاشى شيئاً فشيئاً.
لماذا يبدأ الاغتصاب والجوع معاً؟
لا شيء يحدث مصادفة، فالآلام إن قررت أن تحضر تجيء سوية، للألم طريقةٌ خاصة في تقديم ذاته. بدت الأيام القليلة الماضية كما لو أنّها فيلم رعب من الطراز الرفيع، كثُرت حالات الاغتصاب، شابة اغتصبها أخوها وقتلها في دمشق، طفلة تغتصب وتقتل وسط الحقول في مدينة طرطوس، لكن أليست فكرة الموت في الحقول دافئة؟ تموت في الحقول بين الأشجار وتحت السماء الواسعة، بقليل من الحرية لكن الحريّة قاسية هنا، فالجسد عارٍ ومنتهك والطفلة تركت وحيدة لفكرة الليل والحيوانات المتوحشة. يقولون يجب أن ننتبه للباس الصغيرات فالوحوش خارجاً تنتظر اللحم المكشوف لتظهِر أنيابها، لكنهم لا يقولون يجب أن ننتبه إلى العنف والرغبة في إذلال الآخر. لا يتحدثون عن تلك القسوة والإجرام والكبت الذي مورس منذ عقود حتى أنجبَ كائنات، تتلذذ بصراخ الصغيرات وبأجسادهن المكسورة، هكذا تعلم السوريون عبر حلقة مفرغة أن يذلّوا بعضهم بعضاً. هكذا يتأكدون أنهم موجودون ويمارسون كينونتهم بأكثر الصور قباحة، لا شيء كالجوع والعنف يخلق حكايات مرعبة، تعلمنا هذا في سوريا لكننا ولأننا نخشى الجوع والمجهول نقول يجب أن ينتبه الآباء لما ترتديه بناتهم الصغيرات فالوحوش خارجاً تنتظر أن تغتصب الجميع وما الفرق، ما الفرق حقاً فكلّ الأجساد عارية حين تموت!
أتخيل صراخهن وهن يُغتصبن والأيدي التي تكُمُّ حريتهن الأخيرة بالتعبير ولو بصرخة، أتخيل الوالد المتستر على اغتصاب الأخ أخته، هل كان يشعر بالحنو؟ هل تذكر أول مرة حملها وكيف ابتسمت للمرة الأولى، هل يتذكر القساة كلّ ذلك حين يصبحون قاتلين؟
أتذكّر سائق الأجرة الذي صرخ على فتاة تقود سيارة بأن تعبر سريعاً ثم ردد العبارة المشهورة: “الفتيات لا يعرفن القيادة لأنهن خائفات على الدوام”، فأجبته من المقعد الخلفي: “نعم خائفات لأن أمثالك في الخارج لا يثقون بهن، انظرْ كم من سائق يقول لها كيف تقود، على رغم أنكم جميعاً تعلمون أنكم السبب في كونها خائفة وأن الشوارع هنا سيئة والقيادة داخلها تحتاج وحشاً”، ضحك السائق ضحكة صفراء وشعرت للحظة بأنني الضحية التالية للاغتصاب، هكذا تماماً تبدأ حكايات الاغتصاب والصراخ.
في دمشق يمضي الزمن، محملاً بالصراخ والخوف والجوع وطعمة الآيس كريم، من دون أن يكون أقل قسوة، ويجد الجميع مبرراً لكل شيء، الجوع بارتفاع الدولار والاغتصاب بالثياب الفاضحة والسيدات اللواتي لا يتقن القيادة بالخوف، لدينا لكل ألمٍ تبرير وحجة، تبرير يجعل الحياة أثقل والآتي مخيفاً أكثر.