قبل فترة ليست بطويلة، تمت دعوتي، مع مجموعة من الأصدقاء، إلى غداء في منزل “باتمان”. قبل أن أكمل القصة، يجب أن أوضح من هو “باتمان”. أُطلق اسم “باتمان” على رجل لبناني حقق نجاحاً كبيراً في مسيرته المهنية—بحيث أصبحت الثروة والسلطة سهلتَي المنال في حياته—فقرر ارتداء قناع وبدلة، محاولاً أن يصبح بطلاً خارقاً وينقذ المدينة. هذا النموذج من الرجال اللبنانيين “الأبطال” ذوي الطموح السياسي، الذين أسميهم باتمان، تجاوزوا مستويات الاحتياجات الأساسية التي يحددها هرم “ماسلو”، وأصبح هدفهم تحقيق الذات. وفي سعيهم لتحقيق ذاتهم، قرروا إنقاذ بيروت.
نعود إلى القصة: باتمان هذا يعيش في شقة جميلة في رأس بيروت. عندما طرقت بابه، فتحه بهدوء ورحّب بي، مع كأس في يده. الطريقة التي كانت تلتفّ بها أصابعه حول الكأس أوحت بأن عضلات أصابعه مشدودة أكثر من اللازم. الكأس بدا وسيلة للاسترخاء، لكنه أعطى الانطباع بأن كأسه هو الآخر بحاجة إلى كأس.
كان بجانبه مضيف، يقف قريباً جداً، وكأنه أكثر من مجرد مضيف؛ بدا كصديق، ومستشار، وحارس شخصي في آن. إذا دخل شخص مسلّح فجأة، تخيلت هذا المضيف يسحب مسدساً مخبأً تحت قميصه الأبيض المثبت بعناية، للدفاع عن صاحب عمله. كان الجو مشحوناً بحالة من التأهب تفوق ما تتطلّبه دعوة غداء عادية- ربما هذا هو ثمن البطولة؟ كنت من أوائل الواصلين، لذا قادني المضيف- دعونا نسميه “ألفريد”، لأنه يذكرني بـ”ألفريد” الخاص بباتمان- من المدخل إلى التراس، حيث بدأ الضيوف الأوائل بالتجمّع.
كان التراس يطل على شاطئ بيروت والمرفأ والقوارب الصغيرة. بدا تصميم أثاث التراس معقداً، إذ تتفوق مفاهيمه الجمالية على وظيفته الأساسية؛ طاولة القهوة، على سبيل المثال، كانت عبارة عن كرة خشبية مقطوعة من الأعلى. الكراسي كانت منخفضة أكثر من اللازم، والأكواب رقيقة كالورق. كل التفاصيل بدت مبالغاً فيها مثل النقاشات التي كانت تدور بين الحاضرين حول مستقبل لبنان، والسياسة، والاقتصاد… ومثل الحاضرين أنفسهم. ثم وصل باتمان، وكان ألفريد يتبعه.
رحب بالجميع بأدب، وشارك في بعض الأحاديث الخفيفة هنا وهناك. طرح عليّ أسئلة عامة جداً، أجبت عليها بشكل عام أيضاً، ثم وصفني بـ”المناضلة”—لهندسات ذهنية قام بها وحده- فيما كان يشد على قبضته. هذه القبضة المشدودة أوضحت لي أنه يتحدث مع نفسه وليس معي، أولاً لأني لا أصف نفسي بالمناضلة، وثانياً لأنه هو بحاجة إليّ لأن أكون “مناضلة” كي يكون هو “بطل”. أدركت حينها أنني مجرد شخصية ثانوية في غداء اليوم، وظيفتها أن تدعم “البطل”، أن تومئ برأسها، وتشدد على قبضته.
في البداية، شعرت بالإهانة قليلاً، لأنني شخص مدلّل اعتاد أن يكون الدور الرئيسي دائماً من حصته، ولكن سرعان ما أدركت أن هذا التراس لن يستطيع أن يتحمل المزيد من الأدوار الرئيسية، أو قد ينهار، بخاصة مع وجود statement-piece مثل تلك الطاولة.
في هذه الأثناء، كان ألفريد يقف عند مدخل التراس، يراقب من يدخل ومن يخرج. من الواضح أن باتمان لم يكن يريد أياً من شخصياته الثانوية أن تتجسس في أرجاء المكان. لم يكن مستعداً للسماح لنا باكتشاف كهفه السري، أو مركبته، أو حاسوبه الفائق، ناهيك بخططه لإنقاذ المدينة أو أي تسريبات عن خطر مترقب.
بعدما أنهى أحاديثه القصيرة مع معظم الحاضرين، نفدت مني الإجابات الذكية والقصيرة، فاختلقت عذراً للمغادرة. جئت إلى هنا كي أقترب من عالم “باتمان”، لكن بدا أن الأمر سيستغرق أكثر من زيارة…
تشير الدراسات إلى أنه في المجتمعات التي تعاني من تفاوت طبقي واضح- مثل الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا- يميل الأفراد إلى تطوير تقدير الذات بشكل مبالغ فيه.
في هذه المجتمعات، يُنظر إلى كل إنجاز بسيط على أنه “عظيم”، فيعتبر السياسيون، مثلاً، التزامهم بالقيم الأساسية كالشفافية والنزاهة عملاً بطولياً. تُعزز هذه الظاهرة أيضاً الثقافات الفردية، إذ يُنظر إلى فائض الاستقلالية كبديل للتكاتف الجماعي. وبذلك، يعتقد هؤلاء السياسيون أنهم وصلوا إلى مناصبهم بجهودهم وحدهم (حتى يحين موعد الانتخابات).
لبنان يعرف هذه النماذج جيداً، كونه يعاني من تفاقم انعدام المساواة، سواء بين الطبقات الاجتماعية أو بين الجنسين، في سوق العمل أو في مؤسسات الزواج، وبين القطاعين الخاص والعام. كما أنه مجتمع يميل إلى الفردية بشكل كبير، إذ يدفع غياب الدولة عن القيام بمسؤولياتها كل فرد إلى إيجاد حلول ذاتية لضمان استقراره. سواء كان ذلك في الضمان الاجتماعي، أو حفظ الأموال خارج النظام المصرفي، أو تأمين الغذاء، يجد اللبناني نفسه مضطراً إلى ابتكار وسائله الخاصة للنجاة وسط الفوضى العارمة.
باختصار، لبنان بلد ينخره الفساد، ما يساهم في ظهور المزيد من هؤلاء “الأبطال”. في المقابل، ظاهرة “صناعة الأبطال” أقل وضوحاً في المجتمعات ذات التفاوت الطبقي المحدود. في هذه البلاد، ما كان ألفريد بحاجة إلى البقاء على مستوى عالٍ من الترقب، لكان هو أيضاً يحمل كأساً، لشارك “باتمان” ضيوفه بعض مغامراته لأن إنقاذ المدينة مسؤوليتنا جميعاً.
في الحقيقة، في البلاد التي يكون مستوى الفساد فيها أكثر تعادلاً، يكون تجاوز مستويات الاحتياجات الأساسية في هرم “ماسلو” أسهل للجميع، ويختار كلّ منا مدينة لينقذها. لذلك، كشخصيات ثانوية، علينا أن نذكر “باتمان” لبنان بأن من أوائل مهامه “دمقرطة” صناعة الأبطال، لأن ذلك سيسهل عليه وعلى ألفريد بروتوكولات الاستضافة أولاً، ويجعل الأثاث أكثر راحة ثانياً.
عندما كُلّف نواف سلام بتشكيل الحكومة، زار الكثير من “الأبطال” شقته، والتقطوا صورة مع مكتبة ضخمة خلفهم، ونشروها على وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد كان عاماً صعباً، ورؤية هذا العدد من “الأبطال” في صورة واحدة تعني أن القادم أصعب، لأنه مؤشر مؤسف إلى الكم الهائل من قلة المساواة والفساد في المدينة.
إقرأوا أيضاً: