لدى كل السوريين رغبة في أن يكونوا مَرئيين، ولن تتحقّق هذه الرؤيا قبل أن يأخذوا حقّهم في الأرض، وحقّهم من كل من أساء إليهم.
يجسّد بشار الأسد، في وضوح تام، مفهوم “الثالوث المظلم” (Triade Sombre) الذي يجمع بين النرجسية (Narcissisme) والسيكوباتية (Psychopathie) والماكيافيلية ((Machiavélisme. ولا يمكن، في أي حال من الأحوال، اعتبار سفاح سوريا الأسد مجرد نرجسي، في المعنى البسيط للكلمة.
فقد بُنيت شخصيته لتكون نموذجاً للاستبداد والجريمة بأبعاد نفسية عميقة وخطيرة. في نرجسيته المتضخمة، ظهر كحاكم يرى في نفسه مركز الكون، ويدّعي أنه “المنقذ” الوحيد لسوريا، بينما في الواقع يبرّر تدمير المدن، وقصفها بالطائرات، وتشريد الملايين، من أجل البقاء على عرشه. هذا الإحساس المفرط بالأهمية الذاتية جعله يغضّ الطرف عن آلام الشعب، رافضاً أي احتمال للتنازل أو النظر إلى الآخرين إلا كأدوات في خدمته.
أما السيكوباتية، فهي التجسيد الأوضح لقسوته المطلقة التي لا تعرف الرحمة؛ إذ أصدر قرارات تُزهق أرواح المدنيين، واستخدم الأسلحة الكيميائية ضد الأبرياء من دون أن يشعر بأي ندم أو ذنب، وكأن الدماء التي تُسفك ليست سوى تفاصيل صغيرة في سبيل الحفاظ على سلطته، طلاء لواجهة أحلامه السيادية.

ومن جانب آخر، تتجلى الماكيافيلية في استراتيجياته الباردة والمدروسة في عناية، حيث استغل الحلفاء الدوليين، مثل روسيا وإيران، كقطع شطرنج في لعبة السلطة، وباع سيادة وطنه لضمان استمرارية حكمه. وكان يُدير إعلامه ودعايته بطريقة تضمن تضليل العالم، كي يقدم نفسه كضحية “للإرهاب”، بينما الحقيقة أنه صانع الرعب والشر المطلق. وسيظل سجن “صيدنايا” التجسيد الأكثر واقعية ودلالة على أن الضحية الحقيقية، في القضية السورية، كانت هي الشعب السوري، الذي طالب بالحرية والكرامة.
لذا، فإن أول فعل مطلوب بعد رحيله، كفعل سياسي واجتماعي، هو تحقيق العدالة، العدالة القضائية تحديداً، أمام الشعب. فمن خلال الفعل القضائي، يمكن تأكيد الحقائق ودحض أي تشكيك أو لغط حول ما جرى، ويجري في سوريا. العدالة القضائية تُعدّ السبيل الأمثل للخروج من دائرة أي تلاعب سياسي، سواء كان سابقاً أو لاحقاً، لسقوط نظام الأسد؛ لا سيما أن بشار الأسد كان خبيراً في استخدام أسلوب الـGaslighting، حيث أنكر وجود السجون السياسية التي بناها بعد أن ورثها وأعاد تأثيثها وهندستها من عهد القائد الأب الطاغية.
وهو لم يكتفِ بإنكارها أمامنا، بل فعل ذلك أيضاً أمام الصحافة والمجتمع الدولي، مما جعل الآخرين يشككون في حقيقة الجرائم المرتكبة، ضد السوريين. وهكذا، صار الحديث طوال أكثر من عقد عن حاجة سوريا إلى بديل سياسي، بدلاً من الاعتراف بحقيقة أن سوريا في حاجة إلى إنهاء حقبة من حكم الطاغية، ومعه نظامه الأسدي المجرم.
هذا الخليط القاتل من السمات الثلاثة، يفسر سلوك الرئيس السابق بشار الأسد ونظامه القمعي الذي تجاوز كل الحدود، ممتداً إلى تدمير أي أمل في الحرية أو العدالة في سوريا. إن تحليل شخصية الأسد من خلال منظور “الثالوث المظلم” (Triade Sombre) ليس مجرد تمرين أكاديمي نفسي، بل هو أداة ضرورية لفهم آليات الطغيان والقمع التي خنقت سوريا، عبر عقود. تفكيك هذا الثالوث المظلم يتطلب مواجهة شاملة تبدأ بفضح نرجسيته المزيفة، مروراً حتى محاكمته على سيكوباتيته الإجرامية، وانتهاء في كشف ماكيافيليته التي حوّلت البلاد إلى مسرح للدماء، والمصالح الدولية.

سوريا لن تستطيع تجاوز مأساتها ما لم يتم اقتلاع هذا الثالوث من جذوره، فالظل الثقيل، ظل بشار الأسد في الإجرام والتنكيل، باقٍ وقابع فوق المدن السورية، واستمرار هذا الظل، ولو من بعيد، يعني استمرار الهيمنة على العقول والأرواح. إن العدالة الحقيقية وحدها قادرة على كسر هذا النمط، وتحرير الشعب السوري، من آثار طاغية أعاد تعريف مفهوم السلطة والجريمة، من خلال معايير لاإنسانية.
عودة سوريا كوطن للكرامة والحرية مشروطة، في إزالة ثالوث الاستبداد الأسود الذي ترسّب عميقاً في شرائح المجتمع السوري، ومواجهته ليست خياراً بل ضرورة حتمية لضمان مستقبل أكثر إنسانية وعدلاً.
على السوريين ألا يتخلّوا عن الدمى الصغيرة المضادة للقلق Poupées anti-inquiétudes، تلك التي تحمل همومهم وآلامهم، لتكون شاهداً رمزياً على ما كانوا يواجهونه من ظلم وقهر وطغيان، قبل سقوط بشار الأسد. فالدمية الخاصة بما يُقلقنا من بشار الأسد لا يمكن إزاحتها بمجرد هروبه، ولا ينبغي التخلي عنها قبل أن نهمس لها كل يوم وكل مساء، قبل النوم، عن العدالة والمحاكمات الجنائية الآتية ضده.
وفقاً للأسطورة الغواتيمالية، تُمنح هذه الدمى للأطفال أو للأشخاص الذين يشعرون بالقلق أو يعانون من الأرق بسبب مظلومياتهم. يُطلب من الشخص أن يهمس لها، بمخاوفه وقلقه قبل النوم، حيث يُعتقد أن لهذه الدمى قدرة أسطورية على تخليصه من همومه، إذ تعمل خلال الليل على تخفيف أعبائه النفسية، بعد أن توضع تحت الوسادة. نعرف أعداءنا الخارجيين، معرفة جيدة، مثل روسيا وإيران، الداعمين الرئيسيين لنظام الاستبداد الأسدي، ومع ذلك، ما يغيب عن وعينا أحياناً، هو أن سقوط بشار الأسد أو هروبه لا يعني، بالضرورة، نهاية الحكاية، بل ربما بدايتها.
بعد الثورة، نحتاج إلى رئيس حقيقي، رئيس لم يولد رئيساً، بل صنع من نفسه سياسياً يحمل قيم الكرامة والحرية. ومن أجل ذلك، لا يمكننا التخلي عن دمية القلق التي نحملها رمزياً، تلك التي نحدثها كل يوم عن بشار الأسد، وعن غيره، وعن العدالة التي نطالب بها: محاكمته هو وأتباعه الأسديين، وكل من تورط معهم في إجرامهم الممارس على الشعب السوري.
محاسبة المجرمين وكشف هوية النظام المجرم هي مسألة لا يمكن تجاوزها، لأنها تمثل الأساس، من أجل تحقيق العدالة واستعادة الكرامة. طالما أننا لم نحاكم أحداً بعد، من مرتكبي الجرائم داخل نظام الأسد السابق، سواء كانوا قتلة أو جلادين مارسوا التعذيب في حق المعتقلين، فإن أي حديث عن التغيير سيبقى ناقصاً. نحن في حاجة إلى رمز قضائي يُمثل عدالة العصر وشروطه القانونية، بدلاً من استدعاء رموز تاريخية كمقصلة الثورة الفرنسية، على الرغم من أن تأثير الثورة الفرنسية لم يكن محصوراً في انتصارها العسكري أو السياسي، بل في المحاكمات التي أعقبتها. من دون تحقيق العدالة ضد جرائم بشار الأسد، الذي يجسد “الثالوث المظلم” (Triade Sombre) تبقى الحرية ناقصة، وشبيهة بحرية ضحايا نجوا من الموت، ولكن من دون أن يروا إنصافاً حقيقياً لآلامهم.

أي تساهل أو تمييع في محاسبة المجرمين سيُبقي الشعب السوري حبيس دائرة المظلومية، ويمنع الانتقال من ذهنية الضحية إلى ذهنية المواطن الحر. هذا التساهل سيخلق حالة من التوتر الدائم في مواجهة كل جلاد يشبه أو يعيد إنتاج نموذج بشار الأسد. ومن دون تحقيق العدالة، لن يستطيع الشعب السوري بناء مستقبل أفضل لأبنائه وأحفاده.
على الإدارة السورية المستقبلية أن تتجاوز التحول الشكلي من الزي العسكري إلى الزي الرسمي، وأن تتجسد في دور القضاء العادل الذي يُكرس سيادة القانون. دولة القانون تعني محاسبة المجرمين بلا هوادة، بعيداً عن أي حلول سطحية تقوم على الصفح أو المصالحات الزائفة مع المجرمين الحقيقيين.
لا مكان في سوريا لمفاهيم التسامح مع القتلة أو المغتصبين أو الجلادين. لأن أي تخاذل سيجعل إنسانيتنا مخدوشة ويُبقي بشار الأسد في ذاكرة التاريخ كرئيس سابق عادي، وليس كسفاح قاتل وديكتاتور أجرم في حق شعبه.
العدالة الحقيقية يجب أن تأتي شاملة وحازمة، وإلا فإننا سنُعيد إنتاج نسخة جديدة من النظام البائد، مع اختلاف في الأسماء فقط.
تجربة السوريين مع نظام بشار الأسد ليست مجرد صراع سياسي، بل هي جرح جماعي عميق ترك أثراً في الوجدان الجمعي لهم. هذه التجربة، مع ما حملته من قمع وتهجير ودمار، لم تقتصر على إحداث أزمات مادية أو اجتماعية أو سياسية فحسب، بل أنتجت صدمة نفسية جماعية تسكن ضمن الذاكرة الجمعية للسوريين. إن كيفية مواجهة هذه الصدمة، يوجب على العقلاء مساعدة الآخرين، من أجل الانتقال من مرحلة الحدث الصادم (T1) وبعدها مرحلة الاستجابة النفسية المعقدة (T2) حيث تصبح الصدمة في هذه المراحل، قادرة على شلّ قدرة الأفراد والمجتمع، في محاولاتهم للتفاعل السليم مع الواقع، مما يعيق تجاوزها ويحولها إلى دائرة مغلقة تُعيد إنتاج نفسها باستمرار.
تظهر العدالة أمام السوريين، مثل مخرج صائب من هذه الدائرة. العدالة هنا ليست مجرد محاكمة رمزية أو تسوية سياسية، بل هي أداة نفسية واجتماعية تُعيد بناء العلاقة بين الضحية والحدث.
العدالة تعمل على تحويل الألم الفردي إلى ذاكرة جمعية، وتُخرج معاناة السوريين من نطاق المأساة الشخصية إلى قوة تاريخية جامعة. العدالة تُعيد تنظيم الذاكرة لتكون جزءاً من السرد الوطني الجديد، سرد يقوم على الكرامة لا على الإذلال، وعلى الاعتراف بالضحايا… لا على تجاهلهم.
استمرار النظام في الإفلات من العقاب يعني أن الصدمة تظل حاضرة في الوعي الجمعي للسوريين، تُستدعى يومياً عبر الخوف والقلق من تكرار المأساة. العدالة هنا هي السبيل إلى كسر هذه الحلقة. ليست العدالة مجرد إغلاق للملفات، بل هي تطمين للشعب السوري بأن الظلم لن يتكرر، وأن الظالم سيُحاسب، وأن الكرامة ستُستعاد. في هذا المعنى، تصبح العدالة علاجاً ضرورياً، من أجل إعادة التوازن النفسي والاجتماعي، ليس فقط للأفراد، بل للمجتمع بأسره.
من فكرة “الدمى المضادة للقلق” (Poupées anti-inquiétudes) التي يهمس لها الإنسان بمخاوفه قبل النوم، يبدو الكلام إلى هذه الدمية رمزياً؛ دمية يُودع السوريون فيها مخاوفهم وآلامهم، ليحوّلوا هذه الطاقات السلبية إلى خطوات إيجابية نحو المستقبل. لكن، على عكس تقليد دمى القلق، فإن العدالة ليست أداة لتخفيف الألم مؤقتاً، بل هي عملية جذرية تُخرج الصدمة من جذورها وتُعيد بناء بلاد حقيقية.
كما أن الخروج من حالة التجمد النفسي، أو الفلاش باك flashback التي تسببها مرحلة ما بعد الصدمة (État de stress post-traumatique) يشير إلى دور العدالة في كسر دائرة الخوف والتوتر الناتجة عن الصدمات، حيث يقدم الأمل في الذهاب إلى القضاء تخفيفاً للآلام النفسية المبرحة التي يعيشها السوريون الذين فقدوا أحباءهم تعذيباً في المعتقلات، أو قتلًا في المظاهرات، أو قهراً في المنفى. العدالة تُسهم في تحويل الذكريات المؤلمة من معاناة فردية إلى ذاكرة جمعية تحمل معاني التحرر والكرامة. وفي هذا السياق، تمكن في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2023، قرار من قضاة التحقيق الجنائي الفرنسيين، من إصدار مذكرات توقيف في حق الرئيس السوري بشار الأسد، وشقيقه ماهر الأسد وآخرين، بتهمة استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في الغوطة الشرقية ودوما، في العام 2013، مما أودى بحياة أكثر من ألف شخص. بغير هذا التشافي القانوني، لا تشافي ممكن للسوريين.
فكيف يمكن لإنسان سوري أن يعيش مستقبلاً في المدينة ذاتها التي من الممكن أن يتواجد فيها أحد: جلّاديه، مغتصبيه، سجانيه، أو قاتلي عائلته في دمشق، أو في حماة، أو في حمص، أو في حلب… إلى آخره، أو حتى في أي مدينة خارج سوريا؟ أليس هذا وحده مُشتتاً عن فعل الحياة؟
إذاً، على أحدهم من القضاة، أن يرتدي زي القضاء، وعلى قضاة كثر أن يجتمعوا، ليكونوا مؤتمنين ومؤهلين، كي تبدأ هذه المحاكمة. محاكمة سورية أو عالمية، ما يهم أنها محاكمة قضائية لمن ثبت إجرامه وشارك في جرائم الأسد ، وليست ثأراً أو انتقاماً وحشياً.
إقرأوا أيضاً: