أظهرت سلطة الأمر الواقع في سوريا، نهماً شديداً تجاه إعادة إغلاق المجال العام، والسيطرة عليه، كدأب النظام الذي تدعي أنها هي من أزاحته. وهي سلطة أمر واقع، لأنها تمكنت بقوة السلاح والدعم الإقليمي فقط. كما كان حالها إبان استواء الأمر في سوريا، ما بعد ثورة 2011، والرد الهمجي من نظام الأسد على تلك الثورة، ومن ثم توزع مناطق النفوذ في كل البلاد ما بين أجزاء خاضعة لسلطة أسدية، وصلت ذروة اهترائها في انهيارها السريع خلال بضعة أيام فقط، بعد حكم دام لأكثر من نصف قرن، وأجزاء أخرى تقاسمتها قوى محلية مختلفة، حسب اللون الطائفي أو العرقي السائد في كل منطقة على حدة.
سلطة الأمر الواقع، وككل سلطة تشبهها، لا يمكنها الركون إلى رأي عام يتشكل ضمن مجال عام مفتوح للنقاش بشأن مصير البلاد والعباد. إذ إن هذا الرأي لا يمكن أن يكون ثابتاً، بحيث يؤمن دعماً مستمراً، غير مشروط، لسلطة بعينها. إذ هو، كرأي أولاً، خاضع للكثير من المعطيات المتعلقة بمصالح أصحاب ذلك الرأي ومصائرهم، وما قد يجمعون، أو يشكلون غالبية وازنة، لقبوله أو رفضه. وهو بالتالي طريق سلمي، مشروع، تكفله الدساتير المحترمة كافة، لإحداث التغيير المنشود، لمصلحة أصحاب تلك الغالبية أو سواها، من دون الحاجة إلى ثورة، قد تهدد مصير الكيان كله إن لم تنجح في الوصول إلى أهدافها.
أساس المشكلة هو في تلك الكلمة “التغيير”، وهو بالنسبة الى أية سلطة، ذات طابع استبدادي، أمر لا يمكن الركون إليه، إذ قد يطيح كل المعطيات التي فرضت تلك السلطة لصالح معطيات جديدة يفرضها أصحاب المصالح المتنوعة، الذين بدورهم سيجدون الفرصة مواتية لإعادة تشكيل اصطفافاتهم بناء على مصالحهم، قبل هويتاهم، وبالتالي ستفقد تلك السلطة، مبرر وجودها الأهم: كونها الممثل الذي يُفترض أنه الشرعي والوحيد لمصالح أبناء تلك الطائفة، أو العرق، أو القبيلة، أو أي تشكيل ذي أساس هوياتي.
ماذا بقي من سوريا؟
“التغيير” إذاً يبدي بدوره نهماً، لا يقل عن نهم السلطة الاستبدادية، في زعزعة أركان تلك السلطة بالذات، فاتحاً المستقبل لاحتمالات أخرى للعيش بدون وجود تلك السلطة، أو ما يشبهها، كقدر أزلي فرض نفسه، بشرعية القوة، والعلاقات الإقليمية (حالة سوريا، منذ بدء الحقبة الأسدية إلى يومنا هذا، فريدة في هذا الجانب)، من دون أية شرعية أخرى مستمدة من الداخل المحلي الذي تسيطر عليه تلك السلطة، باستثناء تلك الشرعية المتأتية عن الخوف وحده.
وحتى لا نظلم السلطة الجديدة في دمشق، ونقول إنها تماماً كنظام الأسد، فإن الخوف الذي استندت إليه، في محاولتها لتثبيت أركان حكمها في أسرع وقت، لم يكن متأتياً من جهتها، بمعنى الخوف من بطش النظام الحاكم (ما زالت تلك السلطة بحاجة إلى وقت، قد يطول، لفرض “هيبتها”) بقدر ما كان متأتياً من “عدو”، داخلي دائماً، يريد إطاحة “الانتصار” الذي حققته ثورة السوريين. وهو، أي ذلك “الخوف”، موجّه تجاه ما تم التعارف عليه بصفته “البيئة الداعمة لنظام الحكم الجديد” بالدرجة الأولى، لشدّ عصبها خلف النظام الجديد. بينما في ظل النظام الأسدي، كان “العدو” دائماً خارجياً، وله عملاء في الداخل. وكان الخوف كذلك نابعاً من “هيبة” النظام الأسدي وكلاب حراسته المسعورين، وموجه تجاه عموم السوريين. ما خلا هذه الفوارق، فإنه لا يمكن ملاحظة أي فارق آخر بين نظام الأسد، والسلطة الجديدة في دمشق.
وكذلك الأمر، وحتى لا نمضي في ظلم تلك السلطة، مدعين أنها وحدها من خلق هذا الخوف، لا بد من الاعتراف بأن دور نظام الأسد كان هو الأساسي في خلق خوف هائل مريع لا يمكن تجاوزه بسهولة، وبحاجة إلى وقت طويل وظروف ملائمة للتخفيف من آثاره، على الأقل.
ما فعلته تلك السلطة الجديدة، أنها استثمرت في هذا الخوف، ودعمته، وحاولت تعميقه، ناقلة إلى جمهورها فكرة بسيطة جداً: الثورة كانت سنية ضد استبداد علوي، ولذلك فإن البيئة السنية هي من دفع الثمن الأفدح لتلك الثورة، التي ما أن انتصرت، وعاد السنة لحكم البلاد، كما يفترض أن يكون الأمر، كونهم الغالبية، حتى بدأت الأقليات بالتمرد، وهي نفسها التي رضيت، صاغرة، بحكم علوي دام نصف قرن!
إذا، وضعت سلطة الأمر الواقع في دمشق الجميع أمام خيار وحيد، لا بديل عنه، وهو المضي في فرض سلطتها، من خلال حشد “الغالبية” السنية خلفها في مواجهة بقية السوريين، أياً كانت طوائفهم أو أعراقهم.
هذا ليس تجنّياً، إنه ما نراه ونسمعه يومياً في عموم سوريا، وبالتحديد تلك المناطق التي استطاعت سلطة الأمر الواقع، وميليشياتها المسلحة، الدخول إليها والقيام باستعراض قوة دموي، أدى إلى مذابح في مناطق العلويين، مع محاولة تكرار الأمر نفسه في مناطق الدروز، في محيط دمشق، باتجاه السويداء. وبالتالي يصح السؤال هنا: هل ما تفعله ميليشيات تلك السلطة، “المنفلتة” كما يدعوها البعض، أو المرتبكة “تجاوزات فردية”، كما تدعوها السلطة، عند محاولتها لعب دور “الحكم”، بانتهازية مكشوفة وممجوجة؛ هل ما تفعله تلك الميليشيات سيقود إلى الهدف “الأسمى”، حسب ما وعدت به السلطة جمهورها السني، أي تثبيت حكم سني مطلق لعموم سوريا، أم أنه سيقود إلى العكس تماماً: الإجهاز على ما تبقى من سوريا، بعد أن دمّرها نظام الأسد فعلياً؟
إقرأوا أيضاً:
“انتصار” وحيد للثورة
ما ثبّتته ثورة السوريين في 2011، وما عاد من الممكن التراجع عنه، حتى ولو شاءت ذلك القوى التي ركبت ظهر تلك الثورة ووصلت إلى السلطة بواسطتها، هو ألا مجال، مرة أخرى، لحكم مركزي مطلق في البلاد على الشاكلة الأسدية، ولو بلون طائفي آخر. هذه حقيقة، الإقرار بها، لا يمنح أولئك الذين ساهموا في تلك الثورة شعوراً براحة ما، بسبب ما يمكن وصفه بـ “إنجاز” لهم، بقدر ما يضع الجميع أمام مسؤولية كبيرة جداً، وهي تلك المتعلقة ببقاء سوريا نفسها ككيان سياسي جامع ومستقل، ويمثل كل أبنائه.
الحديث عن “حساسية سنية” بسبب الأثمان الهائلة، وهي هائلة فعلاً، التي دفعها أبناء تلك الطائفة وبناتها خلال الثورة التي قامت ضد نظام الاستبداد الأسدي، والتي لولا “الحاضنة” السنية، لما كان لتلك الثورة أن تستمر لأيام، وهذا كلام صحيح للمناسبة، الحديث عن تلك “الحساسية”، لن يعفينا من النظر إلى ما هو أبعد من تلك المأساة الكبيرة. إنه السؤال المتعلق بمصير “سوريا الجديدة” التي بشرت بها تلك الثورة. هذا هو السؤال الذي كان يجب أن يتم التصدي له، ومنذ اللحظة الأولى التي أُعلن فيها سقوط نظام الأبد الأسدي. محاولة الالتفاف على هذا السؤال، تحت أية ذريعة كانت، وكائناً ما كان حجمها الحقيقي، لن يفعل شيئاً سوى غض الطرف عن محاولة أخرى، يائسة، لتكريس أبد آخر، وبوجه طائفي مختلف، ليس إلا.
المشكلة الكبرى، هي أننا فعلياً لن ندفع ثمن تلك “المماطلة”، أياً كانت أسبابها، تأخير في وصول المولود المرتجى، إذ إن التأخير هذا لن يفعل شيئاً سوى قتل الوليد وأمه معه، والأبد ما عاد خياراً لأي من السوريين، اللهم باستثناء من يرون أن فرصتهم في الحكم قد حانت الآن.
ما هو ثمن الهزيمة؟
سوريا التي نعرفها، أو ظننا أننا نعرفها، وبنينا تصوراً ما حولها، سوريا هذه لن يعود لها بقاء، وهناك مكون من مكونات ما يسمى بـ “الشعب السوري” يريد فرض إرادته على بقية المكونات، بالطريقة الأسدية المقيتة نفسها. هذا طبعاً على فرض أن هذا “المكون”، أي الشارع السني العريض، يصطف بكامله خلف سلطة الأمر الواقع الجديدة.
نعم، يمكن القول إن الثورة هُزمت، هذا قيل أصلاً قبل بضع سنوات من “الانتصار” الجديد المفاجئ، ويعاد تكراره حديثاً. ولكن أيضاً، السؤال الأهم هو ذلك المتعلق بثمن تلك الهزيمة… إنها سوريا كلها. هكذا ببساطة وبدون أي مواربة. هذا ما نعرفه جميعاً، وما نحاول الالتفاف من حوله، مطالبين بتريث ما هناك، وبمراعاة حساسية ما هنا. أو بتلويح بثورة جديدة، قد تحصل، إن بقيت سلطة الأمر الواقع في دمشق مصرّة على المضي في مشروعها الاستبدادي إلى النهاية. إذ السؤال يبقى: من هم أولئك المستعدون للقيام بثورة جديدة من أجل سوريا، التي أثبتت على مدار النسبة الأعظم من سنوات استقلالها أنها لا يمكن أن تحكم إلا بسلطة مركزية مستبدة؟! إن كان الأمر كذلك، فلتذهب سوريا إلى حيث تشاء، إذ هناك من بين من كانوا سوريين، من يريد أن يحيا في منطقته بسلام وأمان من دون إذلال جديد يمارسه عليه شخص آخر، فقط لأنه ينتمي إلى طائفة، أو عرق، أو قبيلة، مختلفة!
ولكن في المقابل، هل الخيار أعلاه ممكن من دون المزيد من الدم؟! نهم السلطة، التي تريد أن تكون مركزية مهيمنة، الى الدم، لا حدود له. هذا ما أثبتته التجارب، عندنا وعند غيرنا. وفي المقابل، فإن أولئك المدافعين عن حريتهم وأمانهم، وأرواحهم أيضاً، لن يلبثوا أن يطلبوا العون من أية جهة كانت، لضمان أن تستمر حياتهم وحريتهم معاً. أي أننا أمام الورطة الدموية المجربة نفسها في حروب أهلية عدة، بما فيها تلك التي خضناها على أرضنا بمعية نظام الأسد. كل القوى التي استمرت في مواجهة النظام، بعد تدمير القوى المدنية الديموقراطية المستقلة، كانت بالكامل مستندة إلى تحالفات إقليمية ودولية، تماماً كما كان النظام نفسه، وكانت تلك القوى المضادة ذات لون أيديولوجي واضح، وحكمت مناطقها بقبضة حديدية- كان بودّي أن أتابع: باستثناء السويداء! ولكن العبارة، بعد كل ما حدث خلال اليومين الماضيين، تعصر القلب فعلاً.
عن بعض الواقعية… المرة
يطلب منا أن نفكر بشكل واقعي، عندما يتعلق الأمر بسوريا والأفق الممكن أمامها. أظن أن قمة الواقعية الآن تتلخص بعبارة واحدة: دم أقل، كائناً ما كانت النتيجة، حتى لو تعلقت بمصير وجود سوريا كله. سوريا ليست أغلى ممن يفترض أنهم السوريون. ليست أغلى من دموع أب اقُتلع قلب ابنه، الطفل، على بعد أمتار من بيته. ليست أغلى من كل أولئك الضحايا المختفين، والمختطفين، والمقتولين، فقط لأن هناك معتوهاً جديداً قرر أن يعيد امتلاك الأبد.
خارج هذا، لا معنى لأي كلام، أو نصيحة، أو توقع… أو حتى تلويح بثورة قادمة. إذ بعد كل هذا الدم، أظن أن الأوان فات، حتى أمام العقلاء، الديموقراطيين، الرافضين حكم الأبد أياً كانت طائفته، من أبناء الطائفة السنية. إذ بعد العجز عن تشكيل موقف موحد، أو على الأقل جامع لبعض زخم، تجاه حكم استبدادي جديد، مكشوف في كامل ممارساته، وتحت ذرائع متعددة، باتت الثقة بصواب موقفهم، ومصداقيته، محدودة جداً، حتى في أوساط الطائفة السنية نفسها. إذ مَن هذا الذي يمكن أن يتضامن مع ضعيف، لم يجرؤ على قول كلمة حق في زمانها ومكانها المناسبين، وفرص القول هذا كانت أكثر من أن تُحصى، قبل أن يبدأ الدم بالسيلان؟!
أظن أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن نحفظ من خلاله ما تبقى من كرامتنا كبشر، قبل أن نكون سوريين، سنة، مسيحيين، دروزاً، علويين… الشيء الوحيد الممكن والمطلوب بإلحاح من دون أي تأجيل هو أن نوقف نزيف الدم الآن، وبأي ثمن ممكن.
ربما، إن بقي أحد ما ليتذكر “مأثرة” ما للسوريين، أو الذين كانوا سوريين يوماً، فستكون هذه وليست سواها. وربما أيضاً، كان لهذه “المأثرة” دور في التأسيس لعقد جديد بين سوريين جدد، من أجيال قادمة، قد يدركون أن الحياة معاً أمر واعد ويستحق المحاولة، ما دام يلبي مصالح الجميع وطموحاتهم وحقوقهم.