في شباط/ فبراير 2003، كنت واحداً من نحو ستين عراقياً اجتمعوا في بلدة صلاح الدين التي تقع في المنطقة الكردية في شمال العراق، لمناقشة شكل الحكومة العراقية الانتقالية التي ستُشكِّل فور إطاحة نظام صدام حسين. كنا نعلم أن النظام على وشك السقوط، لأنني دُعيت مع ثلاثة عراقيين آخرين إلى البيت الأبيض، وأخبرنا بذلك بعبارات قاطعة لا لبس فيها الرئيس جورج دبليو بوش نفسه في الأيام الأخيرة من كانون الثاني/ يناير 2003. وقد ذُكر في هذا الاجتماع الذي عُقد في البيت الأبيض، أول تصريح شبه علني بأن الولايات المتحدة ستطيح في الواقع بصدام عسكرياً هذه المرة الثانية، بعدما اختارت تركه في السلطة عقب هزيمته في حرب الخليج عام 1991.
كنا نحن الأربعة “مستقلين”: لا ينتمي أي منا إلى أي حزب أو تيار ضمن مجموعة المنظمات التي شكلت آنذاك المعارضة العراقية لنظام حزب البعث بزعامة صدام. علاوة على ذلك، كنا جميعاً من بين ما يقرب من ألفي شخص حضروا اجتماع المعارضة العراقية الذي عُقد في لندن في كانون الأول/ ديسمبر 2002. وقد اختار ذلك المؤتمر الستين شخصاً الذين اجتمعوا في صلاح الدين في شباط. وكان على جدول الأعمال خطاب سيلقيه زلماي خليل زاد، المبعوث الخاص للبيت الأبيض في العراق. كان من المقرر أن يكون خطابه تتويجاً لمداولاتنا، لكن خليل زاد لم يحضر. وقد ماطلنا اجتماعاتنا لأيام في انتظاره. في حين أعرب البعض أن سبب غيابه هو الأحوال الجوية.
خليل زاد لم يأت أبداً إلى صلاح الدين. وبدلاً من ذلك، تم استدعاء 4 من أبرز شخصيات المعارضة إلى قاعدة إنجرليك الجوية الأميركية في تركيا لمقابلته هناك. لقد فضّل عدم قطع هذه المسافة الإضافية إلى شمال العراق، لأنني أعتقد أن طبيعة رسالته للمجتمعين في صلاح الدين قد تغيرت.
كان الأشخاص الأربعة، مسعود بارزاني وأحمد الجلبي وإياد علاوي وجلال طالباني. وقد أُبلغوا في قاعدة إنجرليك بشكل قطعي أنه لن تكون هناك حكومة عراقية انتقالية. بدلاً من ذلك، ستكون هناك حكومة احتلال أميركية. وكان على المعارضة العراقية، بمن في ذلك قوات البيشمركة العسكرية الكردية -وهي قوة لا يستهان بها آنذاك- الانسحاب، وعدم تنفيذ أي عمليات عسكرية داخل العراق. وقد جاء ذلك مناقضاً لكل ما أُجري من مفاوضات بين المعارضة العراقية والحكومة الأميركية خلال الـ11 عاماً التي انقضت منذ حرب الخليج الأولى. وعلاوة على ذلك، فقد مهد الطريق للعلاقات المستقبلية الوعرة وغير الودية للغاية بين الأعضاء المستقبليين الـ 25 الذين شكلوا مجلس الحكم الموقت (وكان معظمهم في الاجتماع الذي عُقد في صلاح الدين)، والسفير بول بريمر، مدير سلطة الائتلاف الموقتة اعتباراً من منتصف عام 2003.
أثناء وجودي في صلاح الدين، كتبت مقالاً ضد فكرة الاحتلال وانقطاع “مسيرة السيادة العراقية”، مشيراً إلى أن ذلك سيكون خطأ ذا أبعاد تاريخية وخيمة. وأوصيت في عمود صحافي نشر في 15 شباط 2003، في صحيفة الـ”غارديان” الإنكليزية، بتشكيل حكومة انتقالية عراقية تحدد موعداً مؤكداً لعقد الانتخابات(1). ولكن الأوان قد فات. وفي وقت ما بين اجتماع لندن والمؤتمر الذي عُقد في صلاح الدين، اتُّخذ القرار المشؤوم لاحتلال أميركي مباشر للعراق من دون الاكتفاء بسقوط صدام حسين لوحده.
إقرأوا أيضاً:
خلاف على عبارة واحدة
بعد صلاح الدين، ظلت هناك مسألة ثانوية يتعين التعامل معها: فقد كنا بحاجة إلى إصدار بيان ختامي عام يلخص الإجراءات. هذه الأنواع من البيانات تتسم بكونها مجموعة مملة ومبتذلة من العبارات التي يجب كتابتها ولكن عادة لا يقرأها أحد. تألفت لجنة الصياغة مني وعادل عبد المهدي (رئيس وزراء مستقبلي) وثلاثة من زملائه الإسلاميين الذين كانوا على استعداد للسماح لنا نحن الاثنين بتولي قيادة هذه المهمة. عملنا حتى الساعات الأولى من صباح اليوم الذي كان علينا فيه القيام برحلة شاقة للعودة إلى إسطنبول والمنزل. ومع اقتراب جلستنا من نهايتها، كنا لا نزال مختلفين حول جملة واحدة في الوثيقة الموجزة.
كان الخلاف حول صياغة عبارة أضفتها تتناول حقوق الأقليات. لقد اعتبرت أن هذه الحقوق تأسيسية لـ “الديمقراطية”، أياً كان ما تعنيه هذه الكلمة. من المفترض أننا جميعاً أردنا إرساء الديمقراطية في العراق. ولكن لم يكن في وسعي أن أوقّع على وثيقة تؤكد على حكم الغالبية فحسب، وهو في الواقع حكم الشيعة العراقيين، وذلك لأنها ستكون مناهضة للديمقراطية في غياب العنصر الأهم: الحفاظ على الحقوق الشخصية وحقوق الأقليات.
ونظراً إلى أنني شخصياً كنت في الأقلية بين الخمسة، طلبت تصويتاً رسمياً للبت في هذه المسألة لأننا كنا جميعاً منهكين ونحتاج إلى النوم لبضع ساعات قبل رحلة العودة. لكن عبد المهدي، ممثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، اعترض على فكرة التصويت بين أعضاء اللجنة؛ محتجاً بأن الموافقة لا بد من أن تكون بالإجماع.
سألته “ما المانع من إجراء تصويت؟”. “أنا من الأقلية وسأخسر التصويت على أي حال، وأنا سعيد تماماً بذلك. لكنني لا أستطيع أن أضع اسمي على صياغة للديمقراطية لا أتفق معها”.
فكانت إجابته بأني لا أمثل أحداً سوى نفسي (وهذا صحيح)، بينما هو والآخرون يمثلون “قوى” مؤلفة من “جموع” من الناس. لذلك، لم تكن أصواتنا متساوية، ولم تكن فكرة التصويت منطقية على الإطلاق؛ عليّ الرضوخ لرأي الغالبية. كانت طريقة التفكير هذه هي السبب الذي جعلني أحاول تضمين هذه الجملة في الوثيقة في المقام الأول – وهي جملة وصلت بالمصادفة إلى المنصة خلال مؤتمر المعارضة في لندن، وتم التصويت لصالحها في كانون الأول 2002 خلال اجتماع لندن.
للأسف الشديد، لا تزال أفكار عبد المهدي حول مبدأ “التمثيل” لـ”قوى” جماهيرية وهمية، الذي هو نوع مما يطلق عليه هذه الأيام اسم “سياسة الهوية”، قائمة حتى يومنا هذا في السياسة العراقية. وهي في نهاية الأمر طريقة تفكير حول العراق تغيب فيه فكرة الكيان السياسي الواحد، لصالح وصفه كلعبة محصلتها صفر تلعبها مجموعة متعارضة من “الجماعات” المشكلة على أساس عرقي أو ديني أو طائفي، وهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم متنافسون مع بعضهم البعض (عادة على أساس من عانى أكثر من الآخر في الماضي). في هذه اللعبة فكرة العراق، أو العراق كمثل أعلى، غائبة بالكامل. في نهاية المطاف، تجبر فكرة “الإجماع” الضعيف (أو الأصغر، أو الأقلية) بينهم بشكل أساسي على الخضوع لإرادة الأقوى، وتكمن” الديمقراطية ” حسب ظنهم في حقيقة إذعانهم.
أذكر هذا لأن عبد المهدي (مواليد عام 1942) سيصبح لاعباً رئيسياً في العراق ما بعد عام 2003. فقد كان الرجل المفضل لدى سلطة الائتلاف الموقتة، وهو خبير اقتصادي فصيح يتحدث لغات كثيرة، وبدا للأميركان وكأنه يمثل نموذجاً معتدلاً من أشكال الإسلام السياسي. وعلى القدر نفسه من الأهمية، كان مقبولاً لدى إيران فضلاً عن سلطة الائتلاف الموقتة. أما في مجلس الحكم الموقت، الذي أسسته سلطة الائتلاف الموقتة في تموز 2003، كان عبد المهدي من الناحية الفنية مجرد بديل، ولكنه كان مع أحمد الجلبي العضو الأكثر قدرة على الإقناع وعمل بمثابة العقل المدبر للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق أثناء مداولاتهم المختلفة في مجلس الحكم. من نواح كثيرة، تقبُّل سلطة الائتلاف الموقتة لـعبد المهدي، وأفكاره السياسية، وممارساته منذ 2003- بما في ذلك المناصب التي شغلها كوزير للمالية (2004-2005)، ونائب الرئيس (2005-2011)، ووزير النفط (2014-2016)، ورئيس الوزراء (2018-2019) – يجسد خير مثال للطبقة السياسية الجديدة في مرحلة ما بعد عام 2003، التي أرست أسسها سلطة الائتلاف الموقتة عندما أنشأت مجلس الحكم الموقت.
السياسة بوصفها تقسيم للغنائم
الغريب في الأمر، أن “الإجماع” الذي تم السعي للوصول إليه في شباط 2003، استند إلى ممارسات المعارضة العراقية في حقبة التسعينات – وهي الممارسات نفسها التي تكرست داخل الواقع العراقي بطرق غريبة خلال الحقبة السياسية المضطربة التي شهدتها البلاد بعد 2003. قد يبدو للوهلة الأولى أن فكرة الإجماع تتوافق مع التقاليد الإسلامية، رغم عدم صحة هذا الادعاء. ولكن الأهم من هذا التصور المتفشي في أوساط النخبة، أن فكرة “الإجماع” تكمن وراء نظام “المحاصصة” السياسية، وهو النظام الذي يقوم على أساسه شغل المناصب الحكومية الرئيسية من خلال “إجماع” رؤساء الأحزاب والكتل الكبرى، باستخدام معايير طائفية أو عرقية صرفة. ففي نظرهم، يتّسم هذا الحل بطابع ديمقراطي وإسلامي، بينما في الواقع هو مجرد اتفاق الفصائل القوية على حساب الأضعف منها، باعتبار العراق مجرد “غنيمة” تقسم ثرواته بين الكل بـ”الإجماع” على غرار قبائل العرب في عصر الجاهلية.
سابقاً، في أيام المعارضة العراقية، كان لدى المحاصصة قدر ضئيل من المنطق (على الرغم من أنني سبق وأشرت في أوائل التسعينات إلى أن هناك بدائل أفضل)، نظراً إلى أن المعارضة المنظمة آنذاك كانت حفنة من الجماعات التي نصبت نفسها بنفسها، والتي لم يكن لديها أي أساس مجتمعي آخر لاتخاذ القرارات (باستثناء الأكراد). ولكن بعد مضي عشرين عاماً على استلامهم زمام السلطة على ظهر دبابات أميركية، أصبح نظام المحاصصة وسيلة لتشكيل وإعادة تشكيل الجماعات نفسها التي تتقاسم الغنائم، والتي لا تأتي الآن بالطبع من دول أخرى أو من نشاطات ميليشيات الأحزاب، ولكن من الدولة العراقية.
فقد نشأت جميع جماعات المعارضة “الأصلية” (الحزبان الكرديان، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وبقية الأحزاب) إما في المنفى أو لم تعرف شيئاً بخلاف حياة المنفى لعقود. وكما أوضحت في كتاب “جمهورية الخوف” عام 1989، بحلول أواخر السبعينات، كان حزب البعث قد قضى على جميع أشكال المعارضة المنظمة داخل العراق، وذلك منذ أواسط عقد السبعينات (2). حتى داخل الحزب الحاكم نفسه، ناهيك بالمجتمع ككل، لم يبق هناك أي شيء بالإمكان تسميته حياة سياسية بعد عملية التطهير الدموية التي ارتكبها صدام عام 1979. لقد استؤنفت السياسة في أعقاب حرب الخليج عام 1991، لكن فقط في المنفى أو في الشمال الكردي الذي كانت تحميه منطقة حظر الطيران المدعومة من الأمم المتحدة.
المفارقة، أنه عندما قررت الولايات المتحدة، بدافع من عدم الثقة في المعارضة العراقية، إنشاء سلطة الائتلاف الموقتة عبر احتلال أميركي للعراق، انتهى الأمر بهذه السلطة نفسها إلى تبني الممارسات نفسها التي تبنتها المعارضة منذ التسعينات. وأفضل مثال على ذلك هو إنشاء سلطة الائتلاف الموقتة مجلس الحكم الموقت(3). عند اختيار أعضاء سلطة الائتلاف الموقتة في 2003، ركز بريمر على فكرة “التمثيل” نفسها التي استخدمتها قوى المعارضة في عقد التسعينات، وذلك على حساب أي اعتبار آخر. لم تكن المسألة تشكيل قيادة قادرة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد، بل كانت رسم صورة جميلة لكي يراها العالم الخارجي المشكّك في عملية إطاحة صدام بالأصل، والمعادي غالباً لقرار الولايات المتحدة لإطاحته. بالنسبة الى واشنطن،كان لا بد من وجود الأعداد الصحيحة في هذه “الصورة” من الأكراد (5) والعرب (18)، في حين كان يجب أن تذهب 13 مقعداً من أصل 25 إلى الشيعة (لاحظ هم الغالبية)، واقتصر عدد العرب السنة على خمسة مقاعد، مع إضافة ثلاث نساء، وعضو من أصول تركمانية وعضو مسيحي أشوري، إلى هذا الخليط. لقد كان هذا التوزيع مفعماً بالنوايا الحسنة، وغبياً في الوقت ذاته، ولكن يُعزى إليه أيضاً القرار المهم بمنح الشيعة ميزة سياسية على إخوانهم السنة للمرة الأولى في تاريخهم الممتد لأكثر من ألف عام.
كما يعلم الجميع، لم يكن هناك تعداد عراقي حقيقي للسكان لفترة طويلة للغاية. رغم ذلك، قدم أعضاء مجلس الحكم الموقت، على شاشات التلفاز، صورة حلوة ومؤثرة، وهو الاعتبار الأهم بالنسبة الى أهل القرار في واشنطن. ورغم ذلك، لم تكن له أي علاقة بحقيقة مشاكل الحكم في العراق ما بعد سقوط الطاغية، فقد أوحت الصورة للعالم الخارجي بنوايا الولايات المتحدة لإقامة عراق “ديمقراطي”. وبالتأكيد، لم تكن “صورة” أي دولة عربية أخرى “ديمقراطية” بالقدر نفسه.
يتفق هذا الخليط المحير بين “الديمقراطية” و”التمثيل” مع فكرة الإجماع القائم على تقسيم الغنائم وفق نظام المحاصصة، وهو تمثيل جائر بحكم التعريف في غياب تعداد سكاني معترف به. إذ إن لا شيء ينتهك المحاصصة أو “التمثيل” أو “سياسات الهوية” أو الإجماع أكثر من الفكرة الليبرالية الكلاسيكية التي ترجع أصولها الى عصر الأنوار الأوروبي والمتمثلة في فكرة التصويت: “شخص واحد، صوت واحد”.
ولكي نكون منصفين، علينا الاعتراف بأنه بمجرد أن قررت واشنطن تشكيل حكومة احتلال، لم تكن هناك خيارات جيدة كثيرة لكيفية عمل ذلك. فكيف يتسنى لك أن تختار أشخاصاً من داخل بلد ظل سكانه محرومين لثلاثة عقود طويلة من أي خبرة في السياسة، فضلاً عن إجراء انتخابات؟ السياسة تجارب وممارسة في ظل أفكار وقيم قبل أي شيء آخر. بالعودة إلى الماضي، يجب أن أعترف بأن ثمة ما يبرر نظر الولايات المتحدة بعين الريبة إلى المعارضة العراقية. فقد كشف اجتماع لندن عام 2002، عن عمق ومدى النفوذ الإيراني داخل صفوف المعارضة؛ وإذا استرجعنا الأحداث، أخشى أنني قد بالغت في تقدير قدرات هؤلاء الوفود المشاركة ونواياهم “الوطنية” تجاه العراق، وقللت في حينها من شأن علاقاتهم بجمهورية إيران الإسلامية.
طابع “تمثيلي” صوري
بيد أن صانعي القرار في واشنطن لم يدركوا أنه قد غاب عنهم تماماً شيء أهم بكثير من الطابع “التمثيلي” الصوري البحت الذي قدمه مجلس الحكم إلى العالم الخارجي. مع بعض الاستثناءات القليلة، لم يختر أي من أعضاء الطبقة السياسية في المعارضة ما قبل عام 2003 ولا في مجلس الحكم الموقت، تعريف أنفسهم ك”عراقيين” في المقام الأول. أصلاً، باستثناء حزب “المؤتمر الوطني العراقي” بقيادة الجلبي، لم تكن هناك أي جماعة أو حزب يحمل كلمة “العراق” في اسمه. فقد كانوا ينظرون إلى أنفسهم بالدرجة الأولى، بوصفهم أكراداً أو عرباً أو شيعة أو سنة أو تركمان أو مسيحيين أو إسلاميين ينتمون إلى هذا الفصيل غير المعروف أو ذاك، والشيء الوحيد الذي لم يكن معظمهم ينتمي إليه من ناحية هويتهم السياسية، هو العراق. وما زال الأمر محيراً بالنسبة الى هذا الكاتب، أن لا أحد في سلطة الائتلاف الموقتة عام 2003 انتبه إلى هذا الأمر عندما اختاروا الأعضاء الـ25 لمجلس الحكم.
إن اختيار “العراق” كهوية الإنسان السياسية الرئيسية، يعني أن القيم “العليا” التي يؤيدها هذا الشخص في المعترك السياسي اليومي، هي القيم التي تتجاوز الانقسامات الدينية والعرقية، وهي قيم يتم تناولها من حيث المبدأ لجميع العراقيين وليس فقط بالنسبة الى أفراد “الجماعة” الأصل الذي ينتمي إليه هذا الإنسان. ستقوض مثل هذه القيم بالطبع نظام المحاصصة الذي يستند إلى معايير عرقية طائفية متأصلة في مشاعر المظلومية المرتبطة بها، إن كانت مظالم حقيقية أو متخيلة، وهذا بدوره سيخلق ما أسميته في كتابي الصادر عام 2022 “في القسوة”، نوعاً متخلفاً للغاية من الممارسات السياسية، أطلقت عليها اسم “سياسة المظلومية”. نحن، شعوب المشرق العربي، متخصصون في منافسة بعضنا البعض حول مستويات مظلوميتنا، وقد يكون هذا في نهاية المطاف سبب فشل وانهيار دولنا (سوريا، لبنان، فلسطين واليوم العراق). ولكن هذا موضوع كبير لوقت آخر.
بين تولي علاوي رئاسة الوزراء بدءاً من عام 2004 وعبد المهدي في عام 2018، وطوال الفترة الممتدة من عام 2013 إلى عام 2017 من الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، كانت السياسة العراقية ملعباً للجماعات التي تتبنى سياسة الهوية (والكتل البرلمانية المقابلة لها)، حيث تتنافس هذه الجماعات في ما بينها على أساس ما تتخيله من معاناتها في عهد صدام. خلالها، كان يكمن السؤال المركزي في “من مظلوميته” أكبر من الآخر، ولذلك يحق له الحصة الأكبر من غنائم الدولة (أي موارد النفط). فلم يكن النظام السابق مجرد دكتاتورية حسب أكراده وشيعته على حد سواء، بل كان بالتحديد دكتاتورية “سنية”؛ أي كانت دولة طائفية من قبل؛ والآن، بحسب ظنهم، ، أصبحت بعد 2003، بفعل مبدأ “المحاصصة”، “ديمقراطية”. كانت هذه قراءة فنتازية لطبيعة النظام البعثي كما أوضحت في كتبي، لكنها شكلت مبرراً لتهميش العرب السنة ولدعم “سياسة الهوية”، أي بالضبط تلك الطائفية التي اتهموا صدام بارتكابها. هكذا بات على السنة العرب العراقيين تصحيح كل الجرائم التي يفترض أن الأكراد والشيعة هم فقط الذين عانوا منها، وعلى أساس هذه الكذبة الكبيرة أُضفيت الشرعية على حكومات ما بعد 2003.
بالتأكيد، كان حزب البعث العراقي السبب في حصول أمور مروعة كثيرة للغاية، ومن المؤكد أنه استغل الطائفية (على سبيل المثال أثناء سحق الانتفاضة التي أعقبت حرب الخليج عام 1991)، بيد أنه لم يكن طائفياً على النسق نفسه من الطائفية الذي كانت عليه حكومة لبنان بعد عام 1945. والواقع، أن نظام البعث كان أسوأ؛ فقد كان في طبيعته شمولياً، أي أقرب إلى نظام ستالين في ذروة قمعه خلال حقبتي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
نعم، كان وجود العرب السنة نادراً في صفوف المعارضة قبل عام 2003؛ والأسوأ من ذلك، أن الأشخاص الذين اختارتهم سلطة الائتلاف الموقتة بعناية شديدة، لم يمثلوا العرب السنة داخل العراق. من خلال حديثي مع مسؤولي سلطة الائتلاف الموقتة والعراقيين المعنيين بالأمر آنذاك، علمت أن هؤلاء السنة قد اختيروا إلى حد كبير بطريقة ارتجالية، وأحياناً على أساس تفسيرات تحن الى ماضٍ مرّ عليه الدهر، ناهيك بقراءة زائفة لتاريخ العشائر التي كانت بحلول عام 2003 خليفة النظام نفسه، إذ نبعت من خيال صدام نفسه واحتياجاته في أعقاب هزيمة عام 1991. فقد درس عالِم الأنثروبولوجيا العراقي هشام داوود، هذه التقلبات في القبائل العراقية بدقة، ما دفعني الى التساؤل، هل كلف مسؤولو سلطة الائتلاف الموقتة أنفسهم عناء استشارته، إذ إنهم لجأوا للمرة الأولى في حياتهم إلى تاريخ العشائر العراقية لمساعدتهم على اختيار قادة “ممثلين” حقيقيين لمجلس الحكم الموقت؟
نظام مصمّم خصيصاً للفساد
كان هناك زعيمان عراقيان بلا منازع، هما الطاغية نفسه صدام حسين، الذي فر هارباً من بغداد في 10 نيسان/ أبريل 2003، وظلّ طليقاً حتى كانون الأول من العام نفسه، ورجل الدين الشيعي المتطرف مقتدى الصدر، الذي كان ممقوتاً من سلطة الائتلاف الموقتة ومجلس الحكم الموقت حتى حُل الأخير في حزيران/ يونيو 2004. يعيش صدام ومقتدى في خيال سياسي عراقي بطرق سحرية بالغة الغرابة والتعقيد من الناحية السيكولوجية. فقد صمدت سمعة صدام ليس بسبب الإرهاب الذي حكم من خلاله، بل بسبب الطريقة المشرفة التي مات بها عن طريق الإعدام الطائفي الذي دبره رئيس الوزراء آنذاك، نوري المالكي. فقد نُفذت عملية إعدام صدام شنقاً في 30 كانون الأول 2006، والذي وافق اليوم الأول من الاحتفال بعيد الأضحى الذي يستمر لمدة أربعة أيام بالنسبة الى العراقيين السنة (لقد تحدثت عن أهمية التوقيت بإسهاب في روايتي التي صدرت عام 2016 بالعربية تحت عنوان “الفتنة”). ومع اضمحلال الذكريات حول جرائم صدام التي لا تعد ولا تحصى، بدأ البعض يقارن حكمه بشكل إيجابي مع ما تنظر إليه الآن غالبية العراقيين وكأنه غابة وليس نظاماً بلا قواعد.
على النقيض من صدام، لا يزال مقتدى الصدر (مواليد عام 1974) على قيد الحياة. أول فعل سياسي قام به الصدر في العهد الجديد، إصدار أمر باغتيال منافسه اللدود، رجل الدين المعتدل عبد المجيد الخوئي، في اليوم نفسه الذي فر فيه صدام من بغداد، وهذا المقتدى نفسه أصبح أخيراً الفائز المفاجئ في الانتخابات التي عُقدت في تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وعندما لم يستطع الصدر حشد الدعم الكافي في البرلمان لتغيير نظام المحاصصة، الذي يعزز القادة الشيعة الراسخين الذين لا يحظون بشعبية كبيرة والذين هم خصومه، انسحب من عملية تشكيل الحكومة، وسحب أنصاره من المجلس التشريعي، وشن غزواً على مبنى البرلمان، علاوة على المعارك التي وقعت في الشوارع والتي أسفرت عن مقتل العشرات. ولا يزال مقتدى، الذي يصعب التنبؤ بأفعاله نتيجة تقلبات طبيعته المضطربة، يمارس نفوذاً كبيراً في شوارع بغداد ومدن جنوب العراق. فضلاً عن أن وجوده يهدد حكومة رئيس الوزراء الحالي المدعومة من إيران، محمد شياع السوداني (الذي أدى اليمين في تشرين الأول 2022)، ويجعلها غير مستقرّة على أحسن تقدير.
ما الذي أدى إلى هذه الحالة الفوضوية؟ كانت هناك خمس حكومات عراقية غير متماسكة ومنقسمة، جميعها قائمة على نظام المحاصصة، قبل ظهور حكومة من نوع جديد ومختلف لأنها موقتة و”قائمة بالأعمال” في أيار/ مايو 2020. وبحكم التصميم الذي انطوى عليه إنشاء مجلس الحكم الموقت، سيطرت الأحزاب والمنظمات الشيعية على جميع هذه الحكومات الخمس. فمنذ الحرب الأهلية بين الشيعة والسنة التي اندلعت بين عامي 2005 و2007، وفي أعقاب هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” في نهاية عام 2017، تبددت السلطة السياسية السنية ونفوذها. في حين كفل نظام المحاصصة أن يتولى عربي سني (بشرط أن يحظى بموافقة الشيعة) رئاسة البرلمان، لكن هذا كل ما تبقى من “سلطة” لسنة العراق. أضف إلى ذلك، أن الحرب الأهلية أسفرت عن “نفي” السنة من بغداد، وأدت هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” على يد تحالف دولي إلى القضاء على أي قوة عسكرية سنية متبقية داخل العراق. والآن، تسيطر الأحزاب والميليشيات الشيعية والكردية على المعترك السياسي بالكامل في العراق.
ظلّ نظام المحاصصة قائماً بين أوساط النخبة السياسية منذ عام 2004 حتى الآن. فقد قدم هذا النظام طريقة مستقرة لكبار السياسيين الشيعة والأكراد كي يدخلوا ويخرجوا من مناصبهم بعد الانتخابات. في حين وفر دخل النفط العراقي احتياجاتهم جميعاً بشكل جيد. هكذا تحولت الدولة إلى مصدر لغنائم تنهب فقط، وهو ما أسماه عرب الجاهلية غنيمة، والغنيمة هي ما يؤخذ من الأعداء في الحرب بعد غارة ناجحة؛ غابت بالكامل فكرة “الخدمة” لمثل أعلى اسمه دولة “العراق”، وهذا الوضع لم يزعج أحداً من النخبة، بل العكس تماماً. وباستبعاد مقتدى، استمرت المحاصصة المبنية على “إجماع” رؤوس الكتل، تُمثل النظام المفضل في أوساط النخبة. أما مشاكل مثل هذا النظام، فهي قد نشأت بسبب عدم قدرته على تقديم السلع والخدمات إلى الناس بشكل عام.
المحاصصة هي نظام مصمّم خصيصاً للفساد واسع النطاق؛ إذ إنه مُعد لتحويل موارد الدولة إلى خزائن الأحزاب والكتل الطائفية والميليشيات، وليس إلى مشاريع على أرض الواقع. وبالتالي، فإن الفساد في هذه الحالة منهجي، وليس عرضياً، أو مستشرياً فقط. أصلاً، يصعب تسميته “فساد”، إذ إنه مشرّع قانونياً وله وجود في الدستور الذي تمت صياغته على يد رؤوس الكتل المستفيدة من المحاصصة نفسها. هناك أسطورة تقول إن الأميركان كتبوا الدستور العراقي بعد 2003؛ كنت في وسط المعمعة آنذاك، وأعرف جيداً أن هذا غير صحيح ،إذ كُتبت المسودة الأولى في سرداب البيت الذي كنت أسكنه على يد عراقيين أعرفهما جيداً كانا على اتصال مستمر مع الكتل المتمثلة في مجلس الحكم آنذاك.
في مثل هذا النظام الفاسد ولكنه غير فاسد في الوقت ذاته، لا يتم اختيار الوزراء والتكنوقراط على أساس الجدارة أو الخبرة، وهم مسؤولون في الأساس أمام رؤساء أحزابهم وليس أمام رئيس الوزراء. وفي أحيان كثيرة، لا يكون هؤلاء الرؤساء حتى أعضاء في البرلمان، هذا إذا كانت لديهم أي صفة رسمية على الإطلاق. إذ ينظر قادة الأحزاب والميليشيات، مثل عبد العزيز الحكيم، ومسعود بارزاني، ونوري المالكي، وجلال طالباني، وأحمد الجلبي، وإبراهيم الجعفري، إلى أنفسهم على أنهم فوق أي منصب ما عدا المناصب العليا. أما المشرعون بالنسبة إليهم، فهم مجرد متملقين يتلقون الأوامر فقط.
هذه هي دولة المافيا بالمعنى الحرفي لهذه العبارة. وبعد مضي عشرين عاماً، لا تزال واحدة من أغنى دول العالم العربي، تنتج جزءاً ضئيلاً من احتياجاتها من الكهرباء. ففيما تحرق حقول النفط العراقية ملايين الأقدام المكعبة من الغاز الطبيعي سنوياً في مشاعل الغاز، يُشترى الغاز اللازم لتوليد الكهرباء من إيران. وأُهملت البنية التحتية لعقود، بينما بات النظام التعليمي في وضع أسوأ مما كان عليه في ظل الحكم البعثي، وأسوأ حتى من فترة العقوبات القاسية في التسعينات. وقدَّر البنك الدولي عام 2021، أن مستويات البطالة بين الشباب بلغت 36 في المئة تقريباً(4) . وقد تضرر خريجو الجامعات بشكل خاص، إذ لم يعد بإمكانهم الاعتماد على وظائف القطاع العام.
ثمة قراران رئيسيان اتخذهما رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بعد توليه منصبه، هما الأساس لفهم الانتفاضة المدهشة التي اندلعت عام 2019، والتي أطاحت به في نهاية المطاف، وغيرت طبيعة السياسة العراقية. كان القرار الأول هو دمج الميليشيات الشيعية، أي ما سمي خلال الحرب ضد “داعش” بـ”الحشد الشعبي، في جهاز الأمن القومي التابع للدولة. لم تفعل أي حكومة عراقية ذلك من قبل، فضلاً عن أن اثنين (حكومتا علاوي والمالكي) قاتلا جيش المهدي التابع للصدر بالقوة العسكرية. لماذا إذاً اتخذ عبد المهدي مثل هذه الخطوة الكبيرة؟
قد يوضح تاريخه السياسي الشخصي السبب. فقد بدأ مسيرته السياسية في الستينات، كعضو في إحدى الميليشيات التابعة لحزب البعث، وهي الحرس القومي، قبل أن يصبح شيوعياً (ستاليني في البداية، ولاحقاً ماويّ). وبحلول أواخر السبعينات، استهواه الإسلام السياسي مثلما حدث مع الكثير من اليساريين السابقين في المنطقة. ومن بين المحاور المشتركة التي تتحكم في كل هذه التيارات السياسية ذلك الاعتقاد، الذي يؤمن به البعثيون والشيوعيون والإسلاميون على حد سواء، في “قوى” تتألف من “جموع” من الناس يمكن المرء أن يدعي بأنه “يمثلها”، إما بحكم الهوية، أو الأيديولوجية. وبحلول أوائل الثمانينات، أصبح عبد المهدي مؤيداً للثورة الإسلامية في إيران، وانضم إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بعد تأسيسه عام 1982 في طهران.
طريقة التفكير هذه ليست شخصية تقتصر على الأفراد هنا أو هناك، بل هي مشكلة الثقافة السياسية العربية عموماً. تتكون معظم النخبة السياسية في العراق بعد عام 2003 من رجال (وجميعهم رجال) من جيلي، الذين تشكلوا فكرياً وعقائدياً خلال العقود الثلاثة من الحكم البعثي، وبخاصة في الثمانينات، عندما كانت الحرب العراقية – الإيرانية مستعرة. خلال هذه الحقبة الزمنية، شكلت “سياسات الهوية”، identity politics، القاسم المشترك بينهم جميعاً. وعلى رأس هؤلاء نوري المالكي ومقتدى الصدر. قد يكون الأخير نجل آية الله الموقر ويرتدي عمامة سوداء، لكن الثقافة السياسية التي توضح طريقة تفكيره هي بعثية بالكامل؛ والشيء نفسه يقال عن نوري المالكي.
في عام 2018، أظن أن عبد المهدي اعتقد أنه، كما وُلد الحرس الثوري الإيراني من المخاض الدموي للحرب العراقية – الإيرانية، وتطور الى الدرجة التي أصبح فيها اليوم العامود الفقري للجمهورية الإسلامية في إيران، كذلك يمكن أن تكون الميليشيات الشيعية العراقية التي نشأت خلال حرب طائفية ضد السنة العراقيين بدءاً من 2005، جزءاً لا يتجزأ من المؤسسة الأمنية العراقية، وذلك بوصفها النظير العراقي للحرس الثوري الإيراني. هكذا يكرر التاريخ نفسه، بدءاً كمأساة للعالم بأكمله اسمها الثورة الإيرانية وانتهاءً كمزحة مرض مروع ضحيته الشعب العراقي الذي قد سُحب البساط بالكامل من تحت مقومات دولته لصالح دولة المافيات العراقية.
الجدير بالذكر في هذا الصدد، أن هناك تمييزاً بين صنفي من أصناف الطائفية كما ظهرت في الملعب السياسي العراقي بعد 2003. الأولى، ممكن تسميتها طائفية “أيديولوجية” بحتة؛ وهذا النوع يضم نسخة الطائفية التي اعتنقها المثقفون الذين هم في الأساس علمانيون، مثل أحمد الجلبي (الذي توفي عام 2015) وعادل عبد المهدي. طائفية هؤلاء، وآخرين في النخبة السياسية العراقية، تستند إلى إيمانٍ وإعجاب بإنجازات الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، بيد أن ما جذبهم إلى تلك الثورة لم يكن بُعدها الإسلامي، بل طابعها وهويتها الشيعية الفريدة من نوعها في العالم؛ فهؤلاء ليسوا رجالاً متدينين بالأساس، وطرق تفكيرهم أقرب الى شريحة مهمة من الناشطين الصهيونيين ذوي الأصول اليسارية المهتمين بهويتهم اليهودية لأسباب سياسية بحتة (بناء دولة يهودية)، لا بالدين اليهودي نفسه. بسبب الثورة الإيرانية والجهاد السني في أفغانستان، ارتقت في الأهمية في المشرق العربي سياسات الهوية المماثلة لهذه، ولكنها ذات الأصول الإسلامية. كان هذا التصاعد ظاهرة عالمية في البداية، انطلقت بحلول أواخر السبعينات من القرن الماضي داخل اليسار الغربي كما بين الأقليات المظلومة في الغرب، بالإضافة الى الشيعة والسنة عموماً على حد سواء. الغريب في الأمر، أن جذور سياسات الهوية هذه في الغرب، وفي القارة الأميركية بخاصة، تعود إلى الفكر العنصري، الإيمان بتفوق الجنس الأبيض (الأميركي)، وهي الأيديولوجية التي أضفت الشرعية على استعباد شعوب القارة الأفريقية، وأحسن ممثل لها اليوم في الغرب هو الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب. هذا التاريخ مدروس بعمق في الحضارة الغربية (راجع كتابات جيل ليبور المقنعة للغاية على سبيل المثال). خلال سبعينات القرن الماضي، نقل اليسار الجديد الغربي المناهض للإمبريالية مركز اهتمامه من عالمية الإنسان بغض النظر عن هويته، إلى تلك السياسات التي تعتمد “الهوية” باعتبارها ملاذاً أخيراً بعد أفول نجم اليسار الجديد وانسحابه إلى الأوساط الأكاديمية الغربية. ومن هنا، ليس من المفاجئ أن تتبنى النخبة السياسية الجديدة في العراق هذه الاتجاهات النابعة بالأصل من تطورات في الثقافة السياسية الغربية والعالمية.
على صعيد آخر، تمكن ملاحظة أوجه الشبه بين سياسات الهوية العراقية والستالينية التي مارستها الأحزاب الشيوعية في أوروبا وآسيا بعد الثورة الروسية. فقد أذعنت تلك الأحزاب “الهامشية” للحزب الشيوعي الروسي وسلّمت بسيادته عليها في بلدانها ودينها الكبير تجاهه، لأن هذا الحزب هو في النهاية الوحيد الذي قاد ثورة اشتراكية حقيقية، بينما لم ينجح غيره من الأحزاب بذلك. ونظراً الى أن القومية لم تكن أبداً نقطة قوة بالنسبة الى اليسار وهذه الأحزاب الشيوعية، أصبحت مصالح بلدانهم دائماً في المرتبة الثانية بعد مصالح الاتحاد السوفياتي. لقد كلف هذا الوهم الكثير من الأحزاب الشيوعية ثمناً باهظاً، بخاصة الحزب الشيوعي العراقي في السبعينات. واليوم، هذا السيناريو عاد ليكرر نفسه مرة أخرى في حالة النخبة الشيعية في العراق، التي بلغ خضوعها لإيران درجة أعجزتها عن رؤية أي تضارب في المصالح بين إيران والعراق.
بخلاف الطائفية “الأيديولوجية” أعلاه الشبيهة بـ”الفكر الصهيوني”، هناك نوع مختلف من الطائفية أكثر حميمية وعمقاً، وألصق بالداخل العراقي؛ وهذا الصنف بخلاف نظيره “الأيديولوجي” له القابلية أن ينقلب ضد إيران بلمح البصر. ربما يكون مقتدى الصدر – الذي كان جيش المهدي التابع له مسؤولاً عن بعض أفظع تجاوزات الحرب الأهلية بين عامي 2005 و2007 – هو الممثل الأبرز لهذا النوع. كما تعد مكائد المالكي السياسية عندما كان رئيساً للوزراء وحقده للسنة الذي تبين في بعض أفعاله، مثالاً آخر على هذا النوع نفسه. تمثل هذه الطائفية شعوراً دنيئاً وانتقامياً، وأسلوباً متحجراً مناهضاً للعقلانية، يتصرف على أساس المشاعر الفجة بناءً على أسوأ ما في الطبيعة الإنسانية من دون أدنى اعتبار للقضايا الأوسع للسياسة والمجتمع. بهذه الروح، قلب المالكي، عندما كان في الحكم، الجيش العراقي إلى جيش “طائفي”، إرضاءً لأصدقائه وأفراد عائلته والموالين له، حيث أفقد المؤسسة العسكرية بعضاً من أمهر قادتها السنة والشيعة الذين كانت قد دربتهم الولايات المتحدة. وكانت النتيجة خسارة مدمرة للموصل في حزيران/ يونيو 2014، عندما هزمت شرذمة قليلة من إرهابيي تنظيم الدولة الإسلامية الجيش العراقي الذي كان عدد جنوده في الموصل آنذاك حوالى المئة ألف.
كان القرار الثاني المصيري الذي اتخذه عبد المهدي في مطلع حكمه، هو عزل الفريق أول عبد الوهاب الساعدي – أنجح القادة في مكافحة الإرهاب في العراق – من منصب نائب قائد قوات جهاز مكافحة الإرهاب العراقي (ICTS) في أيلول 2019. قاد الفريق الساعدي عمليات القتال داخل المدن الحضرية لاستعادة الموصل من “داعش” في عامي 2016 و2017، كما كان مسؤولاً عن جنود لواء العمليات الخاصة الأول البالغ عددهم عشرة آلاف؛ وهي الوحدة الوحيدة المتبقية التي دربتها الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب، والتي لا تزال باقية بعد عملية التطهير التي شنهّا المالكي. كان الساعدي ضابطاً محترفاً وبطل حرب حقيقياً، وقد بلغت شهرته أن سكان الموصل بنوا له تمثالاً على نفقتهم الخاصة. وبعد فترة خدمته هناك كقائد للواء الذهبي – وهو الاسم الذي عُرف به لواء العمليات الخاصة الأول – بدأ الجيش العراقي يستعيد ثقة الجمهور العراقي.
بطبيعة الحال كان قادة الميليشيات الموالون لإيران يخشون الفريق الساعدي ويحسدونه، وكان من بينهم أفرادٌ مثل أبو مهدي المهندس، الذي لقي حتفه في غارة الطائرات الأميركية المسيّرة من دون طيار في كانون الثاني 2020 على مطار بغداد، وهي الغارة نفسها التي قُتل فيها اللواء قاسم سليماني من الحرس الثوري الإيراني. وفور عزل الساعدي من منصبه، انطلقت تظاهراتٌ في الموصل وفي محافظات الجنوب الشيعي، مسقط رأسه. ثم أزالت الحكومة التمثال الذي بُني له في جوف الليل. ورفع المتظاهرون لافتات كُتب عليها: “الأبطال يحررون مدننا، والجبناء يحكموننا”. ويعتقد المراقبون أن هذه التظاهرات المبكرة كانت الشرارة التي أشعلت انتفاضة تشرين في الأول من تشرين الأول 2019، ومنها عمّت التظاهرات والاعتصامات جميع أنحاء جنوب العراق، وانتشرت كالنار في الهشيم.
إقرأوا أيضاً:
“نريد وطناً!”
بدأت احتجاجات 2019 بشكل سلمي؛ وركزت المطالب على مشكلة البطالة (بخاصة بين الشباب)، وسوء الخدمات العامة، وفساد الدولة الذي اعتبره المتظاهرون ممثلاً بنظام المحاصصة. سيطر الشباب على المسيرات المبكرة، وهم من كانوا أطفالاً في العراق بعد عام 2003 وغالبيتهم ليست لديهم ذكريات شخصية عن صدام أو حكم البعث. وإذا كان هناك من حديث عن صدام أساساً، فقد كان محصوراً بأحاديث كبار السن الذين فضلوا “نظامه” مقارنة بالمحنة الحالية التي تعيشها الدولة العراقية، تلك الدولة التي نهشتها وقضت على مقدّراتها فصائلٌ لا هَم لها سوى توسيع ثرواتها.
كانت الميزة الرئيسية التي جلبتها حرب عام 2003 للعراقيين دون سن الأربعين، هي التعرف على الإنترنت وانفتاح العراق على العالم الخارجي، ومن ثم فإنهم – على عكس النخبة السياسية – لا يفكرون أصلاً بالأيديولوجيات، أو مثل البعثيين. سرعان ما أصبحت ساحة التحرير في قلب بغداد هي النقطة المحورية للاحتجاجات، مع حدوث تظاهرات أخرى في البصرة والنجف وبلدات أخرى أصغر. وخلال أيام، تحولت بغداد لتصبح أشبه بمدن مثل القاهرة وتونس في الأسابيع الأولى من موجة الربيع العربي؛ فعلى غرار احتجاجات عام 2011، انتشرت الدعوات لإجراء انتخابات مبكرة ومطالبات باستقالة عبد المهدي، وهكذا سرعان ما امتدت المطالبات لتشمل إجراء إصلاحات سياسية جوهرية في العراق.
منذ البداية، كان شعار “نريد وطناً” هو شعار التظاهرات. وقد استُخدمت كلمة “الوطن” هنا بمعناها الجغرافي، بعيداً تماماً من المضامين الدينية للأمة (التي يستخدمها الإسلاميون) أو النعرات العرقية للقوم (التي يستخدمها القوميون العرب). المطلب الأساس هو وطن بمعنى بقعة جغرافية تحكمها دولة واحدة ذات سيادة ضمن تلك البقعة، بغض النظر عن تاريخها أو كيفية تشكلها وعلى أيدي من تشكلت الدولة. المهم هو امتلاك دولة وهوية خاصة بها.
وكما حدث في القاهرة خلال الربيع العربي، بمجرد أن بدأت حملة القمع الحكومية العنيفة، دافع المتظاهرون العراقيون عن مطالبهم بالسيطرة على الأماكن العامة، وإقامة المخيمات في الساحات العامة، وتوزيع الطعام، وتقديم الرعاية الطبية. وزينت لافتات المتظاهرين ورسوماتهم وأعمالهم الفنية الأخرى الكتل الإسمنتية الحضرية الباهتة، بينما ازدهرت شعبية المحاضرات والقراءات الأدبية المفتوحة، التي نظمها المتظاهرون. لم يشهد العراق شيئاً من هذا القبيل لأكثر من 50 عاماً.
من الضروري أن نأخذ بالاعتبار أن هذه الاحتجاجات كانت غالباً احتجاجات يقودها شباب الشيعة ضد نظام سياسي طائفي تقوده الكتل والأحزاب الشيعية؛ أي أنه تمرد شيعي على قيادة شيعية طائفية. ولأسبابهم الخاصة، ظل الأكراد والسنة على الهامش. مع ذلك، شكلت تلك التظاهرات امتداداً لتظاهرات سابقة ذات جذور محلية أعمق (معظمها في الجنوب) بدأت منذ عام 2011، ولكن بعد هدوء رياح الربيع العربي، أخمدت تلك الاحتجاجات المبكرة التي شاركت فيها المحافظات السنية التي كانت تفتقر إلى مختلف الخدمات العامة. هذه الحركات المبكرة كلها قمعها بوحشية مروعة المالكي الذي كان يترأس الحكومة آنذاك. وقد حاول عبد المهدي إلقاء تبعات تلك الاحتجاجات على البعثيين أو المحرضين الأجانب – كدأب المالكي من قبله – ولكن قلة من الناس صدقته.
بخلاف انتفاضة ما بعد حرب الخليج عام 1991، والتي استهدفت النظام البعثي، ما فرض عليها أن تلجأ الى العنف، فإن احتجاجات جماهيرية سلمية بهذا الحجم لم تحدث من قبل في العراق. سرعان ما اكتشفت الحكومة التي كانت غير مستعدة لمواجهة هذا الكم الهائل من الشباب في الشوارع، أنها لا تستطيع الاعتماد على أفراد شرطتها الذين أخذوا بين الحين والآخر يدعمون المتظاهرين. حتى آية الله علي السيستاني – رجل الدين الأكثر احتراماً في العراق – دعا إلى التهدئة في البداية، لكنه عاد في 25 تشرين الأول وندد بمحاولة الحكومة التستر على استخدامها العنف المتزايد ضد المتظاهرين السلميين.
تجسدت الانقسامات داخل الحكومة بطرق مختلفة، من بينها رد فعل رئيس المخابرات آنذاك، مصطفى الكاظمي، الذي عيّنه سلف عبد المهدي. (الإفصاح الكامل: بين عامي 2003 و2012، أدار الكاظمي مؤسسة الذاكرة العراقية، التي أسستُها في بغداد عام 2003). استخدم الكاظمي مؤسسته لمساعدة المتظاهرين بسرية وحذر، إذ قدم لهم مساعدات من قبيل توفير منازل آمنة للناشطين والصحافيين المستهدفين من الجماعات المسلحة وميليشيات الأحزاب الشيعية شبه العسكرية.
في إحدى الحالات التي حققتُ فيها شخصياً؛ ألقى مسلحون ملثمون القبض على ناشطة في العشرينات من عمرها فيما كانت في طريقها إلى منزلها من ساحة التحرير. استجوبوها لمدة تسعة أيام عارضين عليها صوراً من الكاميرات في الساحة، ومنشوراتها على مواقع التواصل الاجتماعي. تمكّن البلطجية – الذين لم يكونوا جزءاً من الأجهزة الأمنية الرسمية – من الوصول حتى إلى حساباتها المصرفية وخريطة تحركاتها خلال السنوات الأخيرة، وفي هذا دليل على التنسيق العميق بين وزارة الداخلية والميليشيات المدعومة من إيران، التي سمح عبد المهدي بدمجها في مؤسسات الدولة الأمنية في عام 2018. لحسن الحظ، تمكنَت الفتاة من الحفاظ على تشغيل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) على هاتفها، ومن خلاله حدد أعضاء جهاز المخابرات الذي كان يديره الكاظمي موقعها، وحاصروا المنزل الذي كانت محتجزة فيه، وأجبروا رجال المليشيات على إطلاق سراحها. خرجت الفتاة بعد ذلك من العراق إلى الإمارات العربية المتحدة، حيث أجريتُ مقابلة معها في شباط/ فبراير 2020.
تعتبر تجربة تلك الناشطة دليلاً دامغاً على أن الميليشيات المدمجة حديثاً في أجهزة الدولة الأمنية كانت مسؤولة في الغالب عن العنف الذي حصل في عام 2019 ودفع المتظاهرين إلى تغيير خططهم. فللقضاء على “قادة” المتظاهرين الذين حددتهم لقطات الفيديو التي قدمتها الأجهزة الأمنية العراقية، وضعوا قناصين على أسطح المنازل. وفي الحقيقة، كانت عفوية التظاهرات تعني غياب “قادة” بينهم، ولكن عبد المهدي وأعوانه أصروا على وجود عناصر قيادية “بعثية” و”أميركية” مندسّة من الخارج. وعلى الرغم من الإدانة من داخل الحكومة وخارجها على عنف الميليشيات، فقد أدى استخدام الرصاص الحي إلى مقتل ما بين 600 إلى 1000 شخص على مدار أربعة أشهر. ردّ المتظاهرون على هذا العنف، فأضرموا النار في المقرات الرئيسية لعدد من الميليشيات في بغداد؛ بما في ذلك عصائب أهل الحق، وحزب الفضيلة، وحزب الدعوة بزعامة المالكي، ومنظمة بدر التابعة بالأصل للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، كما اشتعلت النيران في القنصلية الإيرانية في كربلاء.
من جانبه، هدد رئيس الوزراء السابق – حيدر العبادي – بسحب أعضائه من البرلمان تعبيراً عن التضامن مع المتظاهرين. أما الصدر – الذي لعب على كلا الجانبين – فقدم أنصاره تحت اسم “كتائب السلام” من أجل “حماية” المتظاهرين. ومع تصاعد الضغط على عبد المهدي للاستقالة، لم يأخذ أحد “تحقيقاته” في عنف الميليشيات على محمل الجد، ولا حتى مكتب السيستاني. قُتل عدد كبير جداً من الشباب الشيعة في عهد عبد المهدي، وبحلول تشرين الثاني/ نوفمبر كان عليه أن يرحل.
لكن ماذا سيحدث بعد رحيله؟ للإجابة على هذا السؤال، أجرى رؤساء الأحزاب والكتل الشيعية السبعة الكبرى مشاورات سرية مع عبد المهدي، وطلبوا منه الاستقالة رسمياً مع استمراره في رئاسة وزراء حكومة تصريف الأعمال. في أثناء ذلك، كانت الفكرة أن يقدم المرشحون المتعاقبون للمنصب – والذين حظوا بقبول ظاهري من المتظاهرين – قوائمهم الوزارية لرؤساء الأحزاب، الذين وفقاً لمداولاتهم السرية سيسقطون كل مرشح بحجة عدم تجاوزه مطلب الإجماع الذي تفرضه قيادات الكتل والجماعات المسلحة، وهم الحكام الحقيقيون في العراق. كانت الخطة هي إخلاء الساحة من كل المرشحين الواحد تلو الآخر حتى يظل عبد المهدي “آخر خيار متاح”، ومن ثم يكون من الطبيعي إعادته إلى المنصب.
زمن الكاظمي
بعدما نجحت النخبة السياسية بالفعل في استبعاد اثنين من المرشحين، وقع الاختيار على مصطفى الكاظمي كمرشح ثالث – المرشح الوحيد الذي حظي بقبول المتظاهرين – ومع ترشيحه فشلت الخطة. أصبح هذا الصحافي السابق والمدافع عن حقوق الإنسان ورئيس المخابرات هو رئيس الوزراء الجديد للعراق في أيار/ مايو 2020، بعدما كانت البلاد بلا حكومة لمدة ستة أشهر. إجراءات الأول تمثلت بإعادة الفريق الساعدي إلى جهاز مكافحة الإرهاب العراقي، ولكن هذه المرة قائداً للجهاز، وليس نائباً للقائد.
أصبح الكاظمي رئيساً للوزراء بدعم هادئ غير مباشر من السيستاني، الذي كان استياؤه من الفساد والخلل في بغداد واضحاً منذ فترة طويلة. أما إيران فقد أذعنت لصعوده لهذا المنصب نظراً لوجودها في العراق، الذي تحول الى حالة من الفوضى بعد وفاة سليماني، واعتقادها أن الكاظمي ربما لن يكون التهديد على مصالحها الذي كانت طهران تخشاه. كما أن إيران كانت بحاجة إلى العراق من أجل كسر أغلال العقوبات الدولية؛ فالسوق العراقي والبنوك العراقية التي أنشأها قادة الميليشيات هي قنواتٌ لغسل الأموال وتوريد العملات الأجنبية للنظام الإيراني. ربما تكون طهران قد رأت أن رئيس الوزراء الموالي للغرب في بغداد سيكون غطاءً أفضل لعمليات خرق العقوبات من رئيس حكومة موالٍ لإيران. وبجانب هذين السببين وراء دعم الكاظمي، ثمة سبب ثالث متمثل بكتلة الصدر البرلمانية، التي وضعت كفتها لمصلحة الكاظمي جزئياً بسبب علاقاته الجيدة مع المتظاهرين. إن سجل مقتدى الصدر في انحيازه للمتظاهرين حيناً وضدهم حيناً آخر كان إشارة سيئة جداً بالنسبة لقاعدة دعمه الخاصة، التي تتكون من شريحة متحمسة متآخية مع المتظاهرين في الشوارع. لقد وعد الكاظمي بمحاسبة المسؤولين عن مقتل المئات، وهو مطلب رئيسي للمتظاهرين.
لا تجمع الكاظمي صلاتٌ عميقة بالأحزاب الدينية الشيعية في العراق، على عكس معظم رؤساء الوزراء السابقين. ولكن من أجل تشكيل حكومته، كان عليه الحصول على تأييدهم بالإجماع؛ وهنا برز الى الصدارة أكبر عائق أمام الإصلاح الحقيقي في العراق. أُجريت الانتخابات المبكرة التي طالبت بها كل الأطراف في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 بدعم وعمل دؤوب من قبل الكاظمي، بيد أن السوداني – خليفته في المنصب – لم يتسلم منصبه إلا بعد عام من الجمود السياسي وأعمال الشغب التي اجتاح خلالها أتباع الصدر القصر الجمهوري ومجلس النواب. وبما أن السوداني يدين بوصوله لمنصبه للمجموعة البرلمانية للإطار التنسيقي للقوى الشيعية وزعيمه الطائفي المالكي؛ فمن المتوقع أن يرضخ رئيس الوزراء الجديد لمطالبهم.
إن النظام الطائفي لتقاسم السلطة في العراق مصممٌ بحيث يكون منصب رئاسة الوزراء مكبّلاً من الأساس، لكن لم يكن هذا المنصب بمثل هذا الضعف في أي وقت أكثر مما كان عليه في عهد الكاظمي. يرجع ذلك جزئياً إلى حقيقة أن الأحزاب والميليشيات الشيعية لم تكن تريد الكاظمي في المقام الأول في هذا المنصب، ففي النهاية كان عبد المهدي هو رجلهم. وفوق ذلك واجه الكاظمي معضلة يكاد يكون من المستحيل حلها تتمثل في محاولة استرضاء كل من الطبقة الحاكمة الراسخة في مقاعدها حسب نظام المحاصصة، والشباب العراقي المنتفض ضد نظام المحاصصة والمنتشر في الشوارع.
خلال الفترة التي قضاها الكاظمي في المنصب، بدأت التحقيقات حول هوية قتلة الشباب، وأصدر خبراء عراقيون مستقلون قوائم بأسماء القتلى، واتُخذت الخطوات الأولى لمحاسبة المشتبه بهم، وصًرفت تعويضات لأسر الضحايا. كان معظم المشتبه بهم في جرائم القتل من رجال الميليشيات الموالية لإيران، وقد قابلوا تلك التهم بمواصلة حملة الاغتيالات التي شملت أتباع الكاظمي البارزين مثل هشام الهاشمي (الذي أطلقت عليه النار في بغداد في 6 تموز/ يوليو 2020). كما تعرض منزل الكاظمي للقصف بطائرة بدون طيار في تشرين الثاني 2021.
وعلى رغم جهود الكاظمي، كانت معظم التحقيقات غير مجدية لأنه بمجرد القبض على المشتبه به وتوجيه الاتهام إليه، كان القضاة يتعرضون للترهيب، ما يؤدي إلى إطلاق سراح المشتبه بهم.
ملخص الأمر، يمكننا القول إنه لا توجد اليوم “دولة” في العراق بالمعنى المتعارف عليه لهذه الكلمة، وذلك لأن وسائل العنف لا تتركز في يد سلطة واحدة، والتي هي من أهم مقومات أي دولة. إن الغالبية العظمى من القرارات الحاسمة ليست بأيدي كبار المسؤولين في الدولة؛ بل يبتّ فيها سماسرة السلطة الغامضون، وهم “زعماء” المافيات العراقية، الذين يديرون ويترأسون “جيوشاً” خاصة بهم، وأكثرهم سوءاً وشراسة تجاه المنتفضين الشباب يعمل تحت وصاية إيرانية الى هذا الحد أو ذاك.
أراد المتظاهرون “وطناً”، ولكن في العالم الحديث “الوطن” يشترط وجود دولة حديثة، أي أن تملك “سيادة” كاملة نابعة من سيطرة الحكومة على وسائل العنف ضمن حدود معترف بها، كي تحقق كل ما تحمله كلمة “الوطن” من معانٍ. نعيش اليوم في عالم وحدته السياسية الأساسية هي الدولة. بدون دولة تضيع قيمة الإنسان، كما يعرف بالفطرة كل فلسطيني وكل لاجئ سوري. ولهذا فإن العراق بحاجة ماسة إلى كسر شوكة تفشي الميليشيات التي استفحلت قوتها العسكرية إذا أراد ألا يكون مصيره مثل مصير لبنان وسوريا. لقد أدرك الكاظمي ذلك، بيد أنه كان مكبلاً في منصبه. يعد الكاظمي أكبر أمل للعراق في السنوات العشرين الماضية، لكن في كل نقاش بيننا، حين جادلت ضرورة استخدام القوة العسكرية لمواجهة تعدد الجماعات المسلحة في البلاد، كان رده: “كنعان، سيفي مصنوع من الورق، وأحتاج إلى وقت لتحويله إلى سيف من حديد”.
إلا أن الوقت لم يسعف مصطفى الكاظمي، وفي أي حال كانت فكرة اندلاع حرب أهلية جديدة في العراق تخيفه. اليوم؛ تنشط الميليشيات في كل مكان، وتمارس الضغط على جميع مفاصل السلطة داخل الحكومة وخارجها. إنهم يهددون القضاة والأكاديميين والنشطاء بشراسة، ويبتزون الشركات مطالبين بأموال مقابل “الحماية”. هم بالمعنى الحرفي للكلمة “مافيات” تبتز الشعب بشتى السبل.
أصحاب النفوذ اليوم في العراق هم من جيل عبد المهدي، ويشاركونه العقلية نفسها. إن هذا الجيل – وليس الغزو الأميركي عام 2003 – هو ما دفع الشعب العراقي إلى حافة الهاوية. والأمل الآن بجيل الشباب، الذي أشعل انتفاضة تشرين. لم يُهزم هؤلاء الشباب الشجعان في عام 2020، إنهم لا يؤمنون بالطوائف والقبائل وعلاقات الدم المتخلفة كما تؤمن النخبة السياسية العراقية الحالية، بل يطمحون إلى وطن يُسمى العراق، مما يجعلهم آخر أمل للبلاد.
دولة المافيا العراقية: استعادة السياسة
كيف نصف الغزو الأميركي عام 2003 في ضوء الصورة التي قدمتها عن السنوات العشرين الماضية في العراق؟ هل كان هذا الغزو “احتلالاً” بغيضاً أم “تحريراً” لملايين البشر من الاستبداد؟ كان هذا الموضوع محل نقاش حاد داخل العراق ولا يزال يثير مشاعر قوية بين الناس. دعونا نستذكر الحرب التي مهدت لحرب ٢٠٠٣؛ حرب الخليج عام 1991 – التي قلما يدور حولها جدل. جاءت هذه الحرب بمنزلة “استعادة” لنظام الدول العربية الذي دمره صدام حسين بغزو واجتياح الكويت ومحو وجود الدولة الكويتية؛ لقد اتبعت تلك الحرب منطقاً لا يختلف كثيراً عن منطق العدوان الروسي على أوكرانيا؛ فقد استهدف هجوم صدام نظامَ الدول العربية في عام 1990 مثلما استهدف فلاديمير بوتين في عام 2022 نظام الدول الأوروبية الذي تكوّن بعد الحرب العالمية الثانية. ومهما كانت وجهة نظرنا بشأن حرب عام 2003، فإن الحدثين المحوريين في 1991 و2003 مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ السياسي للشرق الأوسط بأكمله.
عام 1991، انتفض ملايين العراقيين في الجنوب والشمال ضد استبداد صدام، وفعلوا ما كان في ذلك الوقت غير وارد بتاتاً في السياسة العربية؛ لقد طلبوا من قوات الحلفاء التي كانت تقصفهم لأسابيع مساعدتهم في الإطاحة بالديكتاتور القابع على صدورهم، وقد حدث هذا بعدما طرد تحالفٌ عسكري بقيادة الولايات المتحدة صدام حسين من الكويت في شباط 1991. هذه الانتفاضة تمثل حدثاً لم يشهد تاريخ العالم العربي مثله من قبل. لا تمثل تلك الأحداث التاريخية مقدمة لحرب 2003 فحسب، بل نجد فيها أيضاً إرهاصات مهمة للربيع العربي عام 2011. كان صدام أول طاغية عربي يسقط من بين الطغاة الذين أفرزتهم البيئة السياسية العربية منذ عام 1967. وكان سقوطه – ذلك الحدث المدوي والمؤثر في الشرق الأوسط بأكمله – هو ما فتح أعين الثقافة السياسية العربية على فكرة جديدة؛ أن غيره من الطغاة العرب يمكن أن يواجهوا المصير نفسه. سقوط الأول، صدام، مهد الطريق سيكولوجياً لسقوط آخرين. أصبح الآن من الممكن تصور ما لا يمكن تصوره قبل 2003. هذا يعني، أنه مهما كانت نيات صانعي القرار الأميركيين في عام 2003، سواء كانت خبيثة أو حميدة أو ساذجة إلى أقصى حد، إلا أنه لا شك في أن حرب الخليج عام 1991، تلك الحرب الحاسمة والتي غالباً ما يتم تجاهلها باعتبارها “لم تكتمل”، قد اضطلعت بدور ولو جزئي في توجيه تصرفات الولايات المتحدة ذلك العام.
إذا كانت حرب الخليج لعام 1991 تتعلق بإعادة الدكتاتور إلى السلطة بتكلفة باهظة على الشعب العراقي، مع استعادة نظام الدول العربية كما كان قبل اجتياح الكويت؛ فإن حرب عام 2003، الذي جاء في أعقاب هجمة القاعدة على الولايات المتحدة في 11 أيلول/ سبتمبر، والأحداث التي أعقبت ذلك في أفغانستان، أدى ذلك إلى التشكيك العميق في الشرعية الأساسية للأنظمة العربية بأكملها، تلك الأنظمة التي تشكلت في ظل هزيمة حزيران 1967. عند تلك اللحظة في عام 2003، أصبح من غير الممكن إيقاف الزلزال الذي بدأ عندما قررت الولايات المتحدة الإطاحة بالطاغية، بغض النظر عن صواب هذا القرار أو خطئه. لنتذكر أن الربيع العربي كان مسبوقاً بانتخابات فريدة من نوعها في مصر وفلسطين، فضلاً عن الاحتجاجات الجماهيرية الحاشدة في لبنان عام 2005، والتي أسفرت عن طرد الجيش السوري من هذا البلد.
لماذا كانت فكرة حكومة احتلال أميركي للعراق في عام 2003 فكرة بالغة السوء كما كتبت في تلك السنة؟ لأنها أربكت القضية الأساسية في إزاحة نظام صدام: شرعية النظم العربية المستبدة الطويلة الأمد في المشرق العربي. فحتى لو صدقنا أن صدام حسين امتلك أسلحة دمار شامل، إلا أنها لم تكن أبداً القضية الجوهرية من منظور عراقي. إضافة إلى ذلك، فإن أي شيء يمكن اعتباره “احتلالاً” يثير في أذهان العرب صوراً قاتمة من حال إسرائيل والفلسطينيين، أو التاريخ الدموي لفرنسا في الجزائر. لم تكن مشاريع الاحتلال الأكثر سلمية التي أقامها الحلفاء في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية جزءاً من التاريخ الحي للعالم العربي. علاوة على ذلك، فعلى عكس الألمان واليابانيين، لم يُهزم العراقيون كشعب؛ tمن الناحية الخطابية، كان يفترض أن يكون العراقيون “محرَّرين” من الاستبداد، لا أن يكونوا “محتلَين”، بيد أن هذه الفروقات الدقيقة في معاني الكلمات لم يفهمها الأشخاص العاديون الذين لهم تاريخهم الخاص المر، في ما تعنيه كلمة “الاحتلال”.
لم يدرك العراقيون داخل العراق ما عرفه كل فرد في المعارضة العراقية المنفية؛ وهو أن الولايات المتحدة لن تتباطأ داخل البلاد في أي حال من الأحوال؛ فالأمر هذه المرة ليس كما كان الحال مع البريطانيين في الهند، أو إسرائيل في فلسطين. فما لبثت الولايات المتحدة أن دخلت العراق حتى شرعت تبحث عن مخرج، وهنا يمكننا ان نقول، إما أن تمارس الدولة “احتلالاً” كما يجب، أو لا تشرع فيه من الأساس. وهكذا؛ انحرف التركيز عن التهديد الرئيسي الذي يشكله الطغيان على العالم العربي، وأصبح المنطق الأخلاقي لحرب عام 2003 قاتماً وغامضاً للغاية، وتلاشت الآمال التي منحت للعراق والمنطقة من خلال الإطاحة بصدام تحت وطأة احتلال أميركي مشؤوم منذ البدء، والذي فشلت الولايات المتحدة في إدارته فشلاً ذريعاً. كانت الإطاحة بالطاغية لحظة استثنائية في تاريخ المنطقة، ولكن كغيرها من اللحظات الاستثنائية، لم تسفر إلا عن آمال زائفة وأحلام محطمة، ومن بينها أحلام هذا الكاتب.
ما الذي يغذي كل التحولات السياسية الكبرى؟ إنه الأمل؛ وما هو عدو الأمل؟ الإسراف في الواقعية. في سوريا 2011 أو العراق تشرين الأول 2019 لم يكن أمام أي ناشط ديمقراطي خيار سوى تحدي الصعاب، إذ دائماً ما تُصرّف الأمور في مجتمعات مدمرة نتيجة الحروب والقمع الوحشي بطريقة تفضي إلى مزيد من العراقيل. إن أهم التغييرات في السياسة لا يمكن التنبؤ بها، وتحدث على الحدود الخارجية والبعيدة جداً لما هو ممكن. إنها ليست نتاج جمع القواسم المشتركة الدنيا للمجتمعات المنتهكة والمظلومة لعقود، مثل عراق صدام أو ليبيا القذافي أو سوريا الأسد.
كانت الديمقراطية غاية ممكنة ومرغوبة بشكل لا يمكن إنكاره في العراق بعد عام 2003، ولكن هل كانت هي المسار الوحيد الذي يمكن أن يسلكه نظام ما بعد صدام؟ بالطبع لا. في مقابلة مع بيل مويرز عشية حرب عام 2003، اعترفتُ بذلك، وقلت إن جميع مظاهر القسوة وعنف الدول العربية المستبدة البادية في أعمالي السابقة أحسن دليلاً على ذلك. ولكن حتى مع ضآلة فرص إنشاء عوالم أحسن من تلك التي نجدها اليوم في المشرق العربي، لا تزال الديمقراطية بمعنى الحريات الشخصية والحفاظ على حقوق الأقليات تستحق السعي الدؤوب لتحقيقها. فبعد كل شيء، هذا موقف أخلاقي تجاه العالم، وليس طرحاً سياسياً أو مسألة تحليلات التكاليف مقابل الفوائد في هذه السيناريو أو تلك. وعلى أي حال، فإن مجرد وقف الانتهاكات الجسيمة واستعادة النشاط السياسي الذي أطفأ صدام جذوته، هما أهم من تحقيق الديمقراطية. وسواء كرهنا أو أحببنا السياسة التي تنتجها المجتمعات المضطهدة بعمق، أو نوع الأنظمة التي قد تولدها هذه السياسات، فإن استعادة النشاط السياسي بحد ذاته هو مطلب أساسي وجوهري لما يعنيه أن تكون إنساناً.
الهوامش
1. كنعان مكية، “خيانة آمالنا |Our Hopes Betrayed”، الجارديان، 15 فبراير/شباط 2003، www.theguardian.com/world/2003/feb/16/iraq5.
2. كنعان مكية، جمهورية الخوف: سياسة العراق الحديث |Republic of Fear: The Politics of Modern Iraq (بيركلي: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 1989).
3. هذا الاسم فرضه أعضاء المجلس العراقيون على بريمر؛ فقد كان يريد أن يؤسس مجلساً “سياسياً” أو “استشارياً”، لكن ذلك لم يمثل أهمية تذكر للعراقيين، تحت قيادة أحمد الجلبي، لذا جعلوا بريمر يتبنى صفة “الحكم”.
4. “البطالة، إجمالي الشباب (٪ من إجمالي القوى العاملة من الشريحة العمرية 15-24) تقديرات منظمة العمل الدولية النموذجية – الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،” https://data.albankaldawli.org/indicator/%20SL.UEM.1524.ZS?locations=ZQ
5. بحسب جون فيا؛ تقول ليبور “يجب على أي شخص يقدم مطالبات قائمة على الهوية بمنصب سياسي أن يأخذ في الحسبان الحقيقة المؤسفة بأن ستيفن دوغلاس هو سلفه المباشر، وليس أبراهام لينكولن أو فريدريك دوغلاس،” صحيفة Current ، 14 نوفمبر/تشرين الثاني، 2018،
6. انظر المقالات التي كتبتها تحت الاسم المستعار سمير الخليل في أعقاب حرب الخليج مباشرة: “Help Iraq Save Itself,” New York Times, 27 March 1991; “Iraq and Its Future,” New York Review of Books, 11 April 1991.
7. أخبرت مويرز: “لا أريد أن يقوم الجنود الأميركيون بدوريات في المدن العراقية؛ سيكون هذا خطأ فادحاً”، وأنا أتفق معه في أن إدخال الديمقراطية إلى العراق لن يكون سهلاً، وهو ما عبرت عنه بفكرة أن الفيدرالية يمكن أن تكون “طليعة وبذرة الديمقراطية في العراق”. انظر: “NOW with Bill Moyers—Transcript, Special Edition: March 17, 2003،”
نشرت النسخة الإنكليزية من هذا المقال على Journal Of Democracy.
إقرأوا أيضاً: