إمكانية التعايش مع مفهوم الدولة في لبنان لم يعد ممكناً.
فالدولة كمفهوم أسقط، وأقصد هنا المفهوم الفلسفي وما يتناسق معه من مفاهيم وآليات، كالمؤسسة والنظام والقانون والمواطن والمواطنة وفعل التسايس الأهلي والاندماج والتعارض والخلق والنتاج الوطني.
فالدولة لدى ابن خلدون مثلاً لا تتبلور إِلّا إذا حققت وظائف تستفيد منها الجماعة البشرية. وبهذا لا ينطبق هذا المفهوم على الدولة اللبنانية، إذا أعطيت هذه التسمية الدلالية. فالدولة في تشكلها الحديث لبنانياً، لم تعبر بالمواطن الى أبعد من كونه ساكن أرض، أو يتعايش فوقها مع جماعته وجماعات أخرى تربطهم ولاءات، مفهوم الدولة أبعد ما يكون عنها. فالولاء يسير على خطوط ومعادلات لا تتقاطع مع المواطنة، وبما فيها من اختلاف وتنوع هوياتي. فكما يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز “الهوية ليست تطابقاً بل الاختلاف”. وهذا الاختلاف اللبناني لم يجد سبيله كمحرك إيجابي للمجتمع ومؤسسات الدولة التي تعاملت مع الهوية كتماثل يحتكم إلى الولاءات الأولى، القبيلة والمذهب والطائفة والزعامة والعشائرية.
والحال، أن الدولة بتعزيزها النظام الطائفي استبعدت في قيامها أي تمظهر للدولة السياسية العصرية، فالدولة اللبنانية لم تعد فقط “فاشلة” (من ناحية الممارسة المؤسساتية والخدماتية)، او متعثرة في ترسيم حدودها (كما الحال مع سوريا) او في ترسيخ سلطتها (حيث سلطات العشيرة والحزب والميليشيات)، بل ايضاً يمكن القول بأسف أنها ميتة. فهي لم تتكيف مع متغيرات محيطها العالمي من جهة حقوق الإنسان مثلاً (حقوق المرأة والمثليين والمثليات والزواج المدني)، ولا استقراء حقيقي لمستقبلها. فهي تنسحب مراراً في الحياة العامة لتحل مكانها مفاهيم رجعية ومتذمرة ومتشكية (كالنداء الدائم بالمظلوميات وحقوق المسيحيين والتآكل الديموغرافي، وربطها بالتوطين ومسألة اللاجئين).
لنعترف أن الدولة لبنانياً متوحشة وعنيفة وسالبة لحقوق سكانها، وسكانها هنا ليس اللبنانيون فقط. فهناك خليط سكاني متنوع من السوريين والعراقيين والفلسطينيين، وكلهم يقيمون تحت دولة وهمية اسمها الدولة اللبنانية. دولة تستقطع منهم حقهم في العيش والاندماج وتزيد من شروخ وجودهم ونسيجهم مع السكان الآخرين. وهنا أخرج من الهوية اللبنانية (القاتلة) لأحكي عن هوية متنوعة لبنانياً، كبلد تثاقف وتلاقح أهلي ومعرفي ونسيجي عابر للطوائف والهويات والحسابات الضيقة. ولهذا فنموذج الدولة الناجحة على الاقل يعبر الهويات لينتظم الجميع في هوية وطنية مختلفة، خارج الوطنية الدوغمائية. النموذج الفرنسي مثالاً، حيث السكان مواطنون متساوون بالحقوق والواجبات متعايشون في دولة تقبل اختلافاتهم بعيداً عن شيء اسمه الهوية الفرنسية، وهذا هو خطاب اليمين. فلا هوية في الحقيقة للانسان سوى نفسه.
والدولة اذا حاولنا تطبيق مفهوم لوي ألتوسير المرتبط عضوياً في فعالية الأجهزة الإيديولوجية للدولة، هو أيضا غير متماثل معها. ففي لبنان السلطة (وهي وجه من وجوه الدولة) لا تعيد بناء أي تصور عن المجتمع ولا فوارقه القائمة لا بل تزيد من شروخه وتعطي الآليات والاساليب والقوة لسلطات أخرى او لطائفة على أخرى. وهذا ما نراه دلالياً من نشوء مفهوم صار مكرساً: معادلة الجيش / الشعب / المقاومة. وهو مفهوم يستخدم بوفرة في الحياة السياسية اللبنانية ويعد واحداً من وجوه العمل السياسي وخطابه. وهذا المفهوم الايديولوجي أيضاً مات. وتظهر فيديوهات 7 ايار/ مايو بالأمس (ليس 7 ايار المجيد الأول على تماثل الذكرى ولبوسها لبوس الحدث نفسه) تلك الحقيقة بوضوح.
إن انتفاء هذه القاعدة جاء من خلال محاولة احتواء سلطة لسلطة أخرى. سلطة الجيش لسلطة المقاومة / الشعب. مواجهة ستأخذ تضارباً ومنحىً عنفياً، كما حصل بين مواجهة الشعب (غير المنتمي الى سلطات معينة) والجيش والقوى الامنية في مظاهرات إسقاط النظام (وهي مواجهة صحية تظهر فيها السلطة كوحش).
مشهد أمس يجعلنا امام مفهوم جديد ومركب: “دولة الموتسيكات” نسبة إلى اللفظ المحلي الرائج للدراجات النارية او “موتسيك”، وانتهاء عصر استخدام دويلة حزب الله كما سميت سابقا. ويتجاوز هذا المفهوم شكله المسطح، فهو ليس فقط تعابير ضمنية او معلنة عن حضور سياسي وأهلي مغروز بمذهبيته وطائفيته على حد سواء، او منطلق من مفهوم الاستقواء وضعف الدولة وليس صورة عن المجتمع المدقع والغائر والمتذرر، بل هو سمة حديثة عن دولة كانت متآكلة والآن أعلن موتها بالشكل الصريح.
فبعد أن كرست معادلة “الجيش/ المقاومة/ الشعب” والدولة الى احتضار كلي. هذا المفهوم في انغراسه بالتربة اللبنانية سياسة واقتصاداً ونسيجاً، حوّل المفهوم الى تقديس يبرر للجماعات الغرائزية الخروج الى الشارع واستعراض عضلاتها وفائض قوتها وتهديد الآخرين لأمر بسيط أنهم يملكون السلاح. وسلاح حزب الله “المقدس” المستخدم مراراً في الداخل والخارج، عبر عنه أمس بدولة الموتسيكات. الموتسيكات كترميز عن انتفاء أي دولة لبنانية مفترضة وقبول سكان لبنان (مجنسين ومقيمين وغير شرعيين) بهذه الدولة وخطابها العنيف والاقصائي والذكوري. بدءاً من تكفين وجه الرئيس اللبناني الاسبق رفيق الحريري بعلم حزب الله ومروراً بجولات الاشرفية وغيرها. هذا الاستعراض ينشىء “مجتمع القوة” في مواجهة “مجتمع الضعفاء” والقوة لسلاح غير شرعي.
وكل من حاول الاعتراض على هذا المفهوم كان مصيره التخوين والاعتداء والتصفية كما حصل مع الصحافي علي الامين وليس بعيداً عن هذا الحكم بحبس الصحافية حنين غدار او تخوين كل شيعي ينادي بصوت خارج مزرعة حزب الله وتسميته بشيعة السفارة.
في المحصلة تبدو المواجهة امس بين سلطة الدولة (او ما تبقى من سلطتها) و”شعب المقاومة” يعكس مدى انهيار هذه المعادلة / المفهوم وموته ومعه موت الدولة بآخر ما حملته من أنساق. فبالتالي نحن امام مفهوم جديد ناشىء، هو مفهوم دولة الموتسيكات، دولة ستتعاظم وتكبر ويتعايش معها اللبنانيون ويعيدون تشكيلها كواحدة من عناصر دولتهم الحديثة والمؤسفة.