fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

دولة ولاية الفقيه وانتخاباتها الرئاسية: اقتصاد مأزوم وشعب يعاني وتطلعات إمبراطورية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الرئيس الإيراني القادم، أياً كان اسمه، كما سابقه، سيكون موالياً لنهج الخامنئي المتشدد و سيأتي بانتخاباتٍ “مُهندَسة” تلغي أي اختيارٍ حقيقي، أياً كانت نسبة المشاركة في هذا الانتخابات

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

خلال شهر ستجري انتخاباتٍ لاختيار رئيس جديدٍ للجمهورية في إيران، إبراهيم رئيسي، الذي خلا مكانه بمقتله في حادث تحطم مروحية في  19 آيار/مايو  الماضي، أتى إلى سدة الرئاسة بوعودٍ سخية لتحسين الوضع الاقتصادي، لكن الأمور خلال مدة رئاسته، التي لم تكتمل، لم تزدد إلا سوءاً بالنسبة للغالبية الكاسحة من الإيرانيين.

 الأزمة تسبق تولي الرئيس الراحل منصبه عام 2021، ولا تنفصل عن الخيارات السياسية التي التزمت بها الجمهورية الإسلامية، تحت حكم الخميني ثم الخامنئي. 

أول ما يلفت النظر هنا التضخم، كما تخبرنا تقارير صندوق النقد والبنك الدوليين، خلال العقود الأربعة الماضية، كان متوسط التضخم السنوي في إيران 20% (و هو ما يعني أن الأسعار تتضاعف في المتوسط كل أربع سنوات تقريباً) في السنوات القليلة الماضية كان الوضع أشد سوءاً  مما سبق، منذ 2019 لم ينخفض التضخم عن 39% سنوياً، بل إنه لامس حاجز ال40% عام 2019، ثم تخطاه عام 2021 حين وصل إلى 40.2 %،  ثم  45.5% عام 2022 ، ثم  41.5% عام  2023 ، وهذا طبقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، الذي توقع (أيضاً) أن ينخفض الرقم في العام الجاري إلى 37.5% .  

وكمؤشر (كارثي) على طبيعة الأمور، تقول تقديرات البنك الدولي التي تستند إلى إحصائيات رسمية إيرانية، أن  أسعار الغذاء ارتفعت بنسبة 483% في السنوات الخمسة الأخيرة (أي أنها كانت تتضاعف تقريباً سنوياً في المتوسط)  معدلات التضخم شديدة الارتفاع، لا تنفصل عن تدهورٍ مستمر في قيمة الريال الإيراني (العملة الوطنية) مقابل الدولار الأميركي، مما يعكس مدى ضعف الاقتصاد عموماً. 

إيران سابع أكبر منتج للنفط،  وصاحبة رابع أكبر مخزون منه في العالم، لكن العقوبات الأميركية تضع قيوداً على تطوير قطاع النفط في البلاد وصناعاته، وأيضاً على بيعه،  مما يحجم قدرة الجمهورية الإسلامية استخراجاً وتسويقاً وسعراً (إذ يباع  البترول الإيراني بأسعارٍ أقل من سعر السوق العالمي طبقاً لتقارير البنك الدولي) وبرغم تنوع الاقتصاد الإيراني، يبقى اعتماده على النفط قبل غيره من الموارد نقطة ضعف تكاد تكون قاتلة. 

خلال عام 2018 ، ومع انخفاض أسعار البترول آنذاك،  خسر الريال الإيراني ثلثي قيمته، مما أشعل موجة التضخم الجديدة الحادة المتواصلة حتى الآن؛ التي ذكرنا، علماً أن محاولات خفض التضخم عن 30% ، التي أعلنها محافظ البنك المركزي؛ على تواضع هذا الهدف، فشلت حتى الآن. 

وما بين العقوبات وأثرها وتذبذب أسعار النفط، شهدت إيران انكماشاً في اقتصادها (نمواً سلبياً) في الأعوام 2015 و 2018 و2019، والظاهرة هذه ليست جديدة: ففي الفترة من 2011 حتى 2021 فقد الاقتصاد الإيراني ما يصفه البنك الدولي بعقد ضائع من التنمية، فخلال هذا الفترة انخفض متوسط نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي (GDP) بنسبة  0,6 %  في المتوسط سنوياً (بعد حساب التضخم). 

بدأت البلاد تشهد بعض التعافي مع ارتفاع سعر النفط بعد 2019، وأيضاً مع تراخي إدارة جوزيف بايدن (2021 حتى الآن) النسبي في تطبيق العقوبات (التي كانت إدارة أوباما قد رفعتها كما هو معروف ليعيد دونالد ترامب العمل بها) عاد الاقتصاد للنمو، بدءاً من عام 2020 وحتى الآن،  بمعدلات تراوحت ما بين 3 و4% سنوياً.  

التدهور شبه المتواصل حتى مطلع العقد الحالي، مع ما رافقه من تضخم، ضرب بقوة القدرة الشرائية للإيرانيين، مما أدى إلى استفحال الفقر في البلاد. 

تمدح تقارير البنك الدولي كفاءة الدولة الإيرانية في توفير بيانات سنوية، متاحة للعامة، عن الدخل والإنفاق بمصداقية ودقة عاليتين، وطبقاً للبيانات المتوافرة  في العام 2022 ، كان متوسط معدل إنفاق الأسرة الحقيقي  (أي بعد حساب التضخم) أقل بنسة 7,7% مما كان عليه عام 2017، علماً أن هذا أتى بعد ارتفاعٍ مطرد في الاستهلاك قبل تشديد العقوبات عام 2011. 

وبرغم أن الجمهورية الإسلامية حققت إنجازاتٍ ضخمة في مكافحة الفقر مطلع القرن الحالي، إلا أن الفترة 2011 -2021 (عقد التنمية الضائع كما أسلفنا) شهدت تدهوراً حاداً، إذ سقط عشرة ملايين إيراني تحت خط الفقر خلال هذه المدة، لترتفع نسبة الفقراء من 20%  إلى  28,1% من مواطني البلاد، على أساس أن خط الفقر يبدأ عند متوسط دخل قدره 6,85 دولاراً في اليوم (بحساب الدولار بمعادل القوة الشرائية لا بسعر السوق، أي بحساب ما تشتريه العملة المحلية للمواطن مقارنة بالعملات الأخرى).

 لكن التدهور لا يتوقف هنا، فأربعون بالمئة من الإيرانيين عام 2021  ممن يصنفون أنهم فوق خط الفقر أصبحوا مهددين بالسقوط تحته، أي أنهم يواجهون بنسبة خمسين بالمئة احتمال السقوط تحت خط الفقر خلال الأعوام القليلة المقبلة. علماً أن تقارير مصدرة من مركز أبحاث تابع للبرلمان الإيراني، تخبرنا أنه عام 2023 كان نحو نصف الإيرانيين لا يأكلون ما يكفيهم من السعرات الحرارية . 

الارتفاع المتواصل في معدلات الفقر، لا يعكس فقط غياب التنمية الاقتصادية أو محدوديتها، بل بنية عميقة من اللا مساواة، فالأربعون في المئة  الأدنى دخلاً من الأسر الإيرانية، لم يستفد مما عرفته البلاد من نموٍ متقطع بين 2011 و 2021، خلال هذه السنوات عانت الأسر الفقيرة أكثر من غيرها في فترات الركود، واستفادت أقل من غيرها حين عرفت البلاد انتعاشاً اقتصادياً. الأسر الأدنى دخلاً شهدت انخفاضاً في الإنفاق على الاستهلاك بمتوسط 2% سنوياً، مقارنة ب 1% للأسر الأعلى دخلاً، وهو ما يبدو منطقياً حين نأخذ في الاعتبار أن دخل الأيسر حالاً (أو الأقل فقراً) أعلى على أي حال، لكنه أيضاً يعني أن خسارة الأفقر أشد وأسرع وتبعده أكثر عن فرص تحسين وضعه.

أما الجفاف وتقلبات المناخ فلا يبشران بالخير، فقد ساهمت الزراعة؛ حسب أرقام البنك الدولي، بأقل قليلاً من 14%  العام الماضي (2023) من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، ووظفت، طبقاً لأرقام منظمة العمل الدولية (آخر عام 2022) 17% من العاملين في إيران، لكن الزراعة هنا تتأثر؛ كما في كل العالم اليوم، بالتقلبات الحادة للطقس.

 عرفت إيران موجات قاسية من الجفاف في السنوات الأخيرة، لم يؤثر الأمر على الزراعة فقط، بل وصل شح المياه  خلال 2023 في إقليم سيستان وبلوشستان الفقير في أقصى شرق البلاد، إلى تعذر الحصول على الماء للاحتياجات اليومية، كذلك يتأثر بشدة شمال غرب البلاد، حيث يتركز النشاط الزراعي بسبب التوافر النسبي للمياه،  ثم، في نمط يتكرر مع التقلبات المناخية، يتبع الجفاف الشديد موجة فيضاناتٍ خطيرة، شهدت البلاد واحدة منها في ربيع 2019، وأخرى أوائل ربيع هذا العام،  وكمؤشرٍ آخر على حجم أزمة المياه شهد إقليم خوزستان (غرب البلاد) احتجاجات عنيفة بسبب شح المياه عام 2021 حيث هتف المتظاهرون “أنا عطشان” بعد موجة جفافٍ حادة، علماً أن البلاد تفقد بسرعة شديدة مخزونها من المياه الجوفية بسبب الاستخدام غير المنضبط، بما في ذلك طرق للزراعة والري لا تراعي واقع الندرة المائية.

 أزمة المياه هذه، عدا ما تعنيه من إفقارٍ مباشر، لا بد أن تدفع الكثيرين إلى الهجرة نحو المدن، حيث تضغط التقلبات المناخية على حرفٍ كالزرعة والرعي والصيد (إذ تتقلص البحيرات والأنهار مع شح المطر)  مع تردي أوضاع البلاد الاقتصادية عموماً، يمكن لنا أن نتخيل أي واقعٍ سيخلقه ضغطٌ سكاني متعاظم على مدن البلاد.

حسب الإحصائيات الرسمية الحكومية الإيرانية؛ من 2020  حتى 2023 ، ارتفعت القيمة المضافة من قطاع النفط والغاز في الاقتصاد الإيراني، ثلاث مرات أسرع من معدل نمو إجمالي الناتج المحلي، يبقى النفط مصدر دخل البلاد الرئيس رغم محاولات تنويع الأنشطة الاقتصادية، مما يبقي اقتصاد البلاد رهينةً تقلبات أسعار النفط من جهة، ولأثر تضييق الخناق على صادرتها الذي تفرضه العقوبات الأميركية، أيضاً يبقى القطاع العام لاعباً أساسياً في الاقتصاد، وهذا قد يحُجم فرص الاستثمار الخاص في الاقتصاد، سواء أتى من داخل البلاد أو خارجها. 

لكن ما يبدو أكثر ضرراً، هو شبكة الاستثمارات الهائلة التي تملكها أذرع الولي الفقيه، خاصة الحرس الثوري، طبقاً لموقع وزارة الخزانة الأميركية: “الحرس الثوري أقوى لاعب  اقتصادي في إيران، إذ يتحكم بقطاعات واسعة من الاقتصاد بما في ذلك الطاقة (بما يشمل البترول)و قطاع التشييد والبناء، والخدمات المصرفية، علماً أن الحرس الثوري، له تاريخ طويل من الالتفاف على العقوبات الأميركية، عبر شبكة معقدة من شركات تُستخدم كواجهة لاستثماراته ونشاطاته”، لهذا من الصعب للغاية، تحديد مدى سيطرة الحرس الثوري على الاقتصاد الإيراني، لكن تقديراتٍ تدعي أن ثلث النشاط الاقتصادي في البلاد في قبضته. 

ومع الحجم الكبير للقطاع العام، والهائل لحضور الحرس الثوري، يعاني الاقتصاد الإيراني من مستوياتٍ عالية من الفساد، حسب منظمة الشفافية الدولية في العام 2023 كانت أقل دول العالم فساداً، عند رقم 1، الدنمارك، وأشدها سوءاً في هذا المضمار الصومال عند 180، أما إيران فكان ترتيبها 149، نفس ترتيب لبنان وزيمبابوي. (نيجيريا كانت أفضل قليلاً عند 145، أما الجارة جمهورية أذربيجان حيث يحكم “وريث” للرئاسة فكانت في ترتيب   أسوء: 154 ، الترتيب نفسه  الذي يحتله  جار آخر: العراق، حيث النفوذ الإيراني حاضرٌ بقوة). 

في العام 2019 شهدت البلاد موجة عنيفة من الاحتجاجات بعد رفع أسعار الوقود، ظاهرة لا بد أن تتكرر  إن لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية، خاصةً إذا أخذنا في الاعتبار انسداد الأفق السياسي الذي تعيشه الجمهورية الإسلامية. لكن الخيارات  التي أدت لاصطدام سياسي متواصل مع الولايات المتحدة، عدو أقوى من إيران بما لا يقاس، والتي أيضاً قررت تأميم أصول خاصة بعد الثورة، والتي بنت دولة يصعب، إن لم يستحل، حسابها هي وذراعها الضارب، الحرس الثوري، هذه الخيارات جميعاً باقية بلا تغيير حتى إشعارٍ آخر، وهي خيارات لن يملك الرئيس الجديد أي سلطة حقيقة لتغييرها، فالأمر كله بيد الولي الفقيه. و عموماً لا خطر هنا على دولة هذا الأخير، فالرئيس القادم، أياً كان اسمه، كما سابقه، سيكون موالياً لنهج الخامنئي المتشدد و سيأتي بانتخاباتٍ “مُهندَسة” تلغي أي اختيارٍ حقيقي، أياً كانت نسبة المشاركة في هذا الانتخابات.

لكن لا خير و لا استقرار  يُرجى من توجهات تبدوا مؤدلجة إلى حد فقدان المرونة، بل وإلغاء السياسة فعلياً، توجهاتٍ لا تقيم كثير وزنٍ لمعاناة من تحكم وتسعى لبناء امبراطورية ومناطق نفوذ بينما متوسط دخل مواطنيها في فئة الدخل المتوسط المنخفض  (طبقاً للبنك الدولي متوسط نصيب الإيراني من إجمالي الناتج المحلي سنوياً 4670 دولار أمريكي، مقارنةً ب 46125 في بريطانيا، 54931 في إسرائيل، و 76326 في الولايات المتحدة). تجاهل الواقع الاقتصادي هذا لحسابات العقيدة والسياسية ستدفع ثمنه دولة ولاية الفقيه إن عاجلاً أم آجلاً، وحتى ذلك الحين ستستمر معاناة الكثير  من الإيرانيين. 

جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 12.04.2025

النسيان كسياسة: عن الحرب التي لم تنتهِ في لبنان

لم تكن الحرب الأهلية اللبنانيّة مجرّد صراع أهلي تمّ تجاوزه، بل أساس للنظام الذي تلاها، وبدل أن تكون لحظة تأسيس لذاكرة وطنية، أصبحت لحظة إنتاج لسياسة النسيان. كلّ ما يُذكّر بالحرب من محاكمات إلى مناهج دراسية، إلى أرشيفات، اعتُبر تهديداً يجب إسقاطه.
08.06.2024
زمن القراءة: 7 minutes

الرئيس الإيراني القادم، أياً كان اسمه، كما سابقه، سيكون موالياً لنهج الخامنئي المتشدد و سيأتي بانتخاباتٍ “مُهندَسة” تلغي أي اختيارٍ حقيقي، أياً كانت نسبة المشاركة في هذا الانتخابات


خلال شهر ستجري انتخاباتٍ لاختيار رئيس جديدٍ للجمهورية في إيران، إبراهيم رئيسي، الذي خلا مكانه بمقتله في حادث تحطم مروحية في  19 آيار/مايو  الماضي، أتى إلى سدة الرئاسة بوعودٍ سخية لتحسين الوضع الاقتصادي، لكن الأمور خلال مدة رئاسته، التي لم تكتمل، لم تزدد إلا سوءاً بالنسبة للغالبية الكاسحة من الإيرانيين.

 الأزمة تسبق تولي الرئيس الراحل منصبه عام 2021، ولا تنفصل عن الخيارات السياسية التي التزمت بها الجمهورية الإسلامية، تحت حكم الخميني ثم الخامنئي. 

أول ما يلفت النظر هنا التضخم، كما تخبرنا تقارير صندوق النقد والبنك الدوليين، خلال العقود الأربعة الماضية، كان متوسط التضخم السنوي في إيران 20% (و هو ما يعني أن الأسعار تتضاعف في المتوسط كل أربع سنوات تقريباً) في السنوات القليلة الماضية كان الوضع أشد سوءاً  مما سبق، منذ 2019 لم ينخفض التضخم عن 39% سنوياً، بل إنه لامس حاجز ال40% عام 2019، ثم تخطاه عام 2021 حين وصل إلى 40.2 %،  ثم  45.5% عام 2022 ، ثم  41.5% عام  2023 ، وهذا طبقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، الذي توقع (أيضاً) أن ينخفض الرقم في العام الجاري إلى 37.5% .  

وكمؤشر (كارثي) على طبيعة الأمور، تقول تقديرات البنك الدولي التي تستند إلى إحصائيات رسمية إيرانية، أن  أسعار الغذاء ارتفعت بنسبة 483% في السنوات الخمسة الأخيرة (أي أنها كانت تتضاعف تقريباً سنوياً في المتوسط)  معدلات التضخم شديدة الارتفاع، لا تنفصل عن تدهورٍ مستمر في قيمة الريال الإيراني (العملة الوطنية) مقابل الدولار الأميركي، مما يعكس مدى ضعف الاقتصاد عموماً. 

إيران سابع أكبر منتج للنفط،  وصاحبة رابع أكبر مخزون منه في العالم، لكن العقوبات الأميركية تضع قيوداً على تطوير قطاع النفط في البلاد وصناعاته، وأيضاً على بيعه،  مما يحجم قدرة الجمهورية الإسلامية استخراجاً وتسويقاً وسعراً (إذ يباع  البترول الإيراني بأسعارٍ أقل من سعر السوق العالمي طبقاً لتقارير البنك الدولي) وبرغم تنوع الاقتصاد الإيراني، يبقى اعتماده على النفط قبل غيره من الموارد نقطة ضعف تكاد تكون قاتلة. 

خلال عام 2018 ، ومع انخفاض أسعار البترول آنذاك،  خسر الريال الإيراني ثلثي قيمته، مما أشعل موجة التضخم الجديدة الحادة المتواصلة حتى الآن؛ التي ذكرنا، علماً أن محاولات خفض التضخم عن 30% ، التي أعلنها محافظ البنك المركزي؛ على تواضع هذا الهدف، فشلت حتى الآن. 

وما بين العقوبات وأثرها وتذبذب أسعار النفط، شهدت إيران انكماشاً في اقتصادها (نمواً سلبياً) في الأعوام 2015 و 2018 و2019، والظاهرة هذه ليست جديدة: ففي الفترة من 2011 حتى 2021 فقد الاقتصاد الإيراني ما يصفه البنك الدولي بعقد ضائع من التنمية، فخلال هذا الفترة انخفض متوسط نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي (GDP) بنسبة  0,6 %  في المتوسط سنوياً (بعد حساب التضخم). 

بدأت البلاد تشهد بعض التعافي مع ارتفاع سعر النفط بعد 2019، وأيضاً مع تراخي إدارة جوزيف بايدن (2021 حتى الآن) النسبي في تطبيق العقوبات (التي كانت إدارة أوباما قد رفعتها كما هو معروف ليعيد دونالد ترامب العمل بها) عاد الاقتصاد للنمو، بدءاً من عام 2020 وحتى الآن،  بمعدلات تراوحت ما بين 3 و4% سنوياً.  

التدهور شبه المتواصل حتى مطلع العقد الحالي، مع ما رافقه من تضخم، ضرب بقوة القدرة الشرائية للإيرانيين، مما أدى إلى استفحال الفقر في البلاد. 

تمدح تقارير البنك الدولي كفاءة الدولة الإيرانية في توفير بيانات سنوية، متاحة للعامة، عن الدخل والإنفاق بمصداقية ودقة عاليتين، وطبقاً للبيانات المتوافرة  في العام 2022 ، كان متوسط معدل إنفاق الأسرة الحقيقي  (أي بعد حساب التضخم) أقل بنسة 7,7% مما كان عليه عام 2017، علماً أن هذا أتى بعد ارتفاعٍ مطرد في الاستهلاك قبل تشديد العقوبات عام 2011. 

وبرغم أن الجمهورية الإسلامية حققت إنجازاتٍ ضخمة في مكافحة الفقر مطلع القرن الحالي، إلا أن الفترة 2011 -2021 (عقد التنمية الضائع كما أسلفنا) شهدت تدهوراً حاداً، إذ سقط عشرة ملايين إيراني تحت خط الفقر خلال هذه المدة، لترتفع نسبة الفقراء من 20%  إلى  28,1% من مواطني البلاد، على أساس أن خط الفقر يبدأ عند متوسط دخل قدره 6,85 دولاراً في اليوم (بحساب الدولار بمعادل القوة الشرائية لا بسعر السوق، أي بحساب ما تشتريه العملة المحلية للمواطن مقارنة بالعملات الأخرى).

 لكن التدهور لا يتوقف هنا، فأربعون بالمئة من الإيرانيين عام 2021  ممن يصنفون أنهم فوق خط الفقر أصبحوا مهددين بالسقوط تحته، أي أنهم يواجهون بنسبة خمسين بالمئة احتمال السقوط تحت خط الفقر خلال الأعوام القليلة المقبلة. علماً أن تقارير مصدرة من مركز أبحاث تابع للبرلمان الإيراني، تخبرنا أنه عام 2023 كان نحو نصف الإيرانيين لا يأكلون ما يكفيهم من السعرات الحرارية . 

الارتفاع المتواصل في معدلات الفقر، لا يعكس فقط غياب التنمية الاقتصادية أو محدوديتها، بل بنية عميقة من اللا مساواة، فالأربعون في المئة  الأدنى دخلاً من الأسر الإيرانية، لم يستفد مما عرفته البلاد من نموٍ متقطع بين 2011 و 2021، خلال هذه السنوات عانت الأسر الفقيرة أكثر من غيرها في فترات الركود، واستفادت أقل من غيرها حين عرفت البلاد انتعاشاً اقتصادياً. الأسر الأدنى دخلاً شهدت انخفاضاً في الإنفاق على الاستهلاك بمتوسط 2% سنوياً، مقارنة ب 1% للأسر الأعلى دخلاً، وهو ما يبدو منطقياً حين نأخذ في الاعتبار أن دخل الأيسر حالاً (أو الأقل فقراً) أعلى على أي حال، لكنه أيضاً يعني أن خسارة الأفقر أشد وأسرع وتبعده أكثر عن فرص تحسين وضعه.

أما الجفاف وتقلبات المناخ فلا يبشران بالخير، فقد ساهمت الزراعة؛ حسب أرقام البنك الدولي، بأقل قليلاً من 14%  العام الماضي (2023) من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، ووظفت، طبقاً لأرقام منظمة العمل الدولية (آخر عام 2022) 17% من العاملين في إيران، لكن الزراعة هنا تتأثر؛ كما في كل العالم اليوم، بالتقلبات الحادة للطقس.

 عرفت إيران موجات قاسية من الجفاف في السنوات الأخيرة، لم يؤثر الأمر على الزراعة فقط، بل وصل شح المياه  خلال 2023 في إقليم سيستان وبلوشستان الفقير في أقصى شرق البلاد، إلى تعذر الحصول على الماء للاحتياجات اليومية، كذلك يتأثر بشدة شمال غرب البلاد، حيث يتركز النشاط الزراعي بسبب التوافر النسبي للمياه،  ثم، في نمط يتكرر مع التقلبات المناخية، يتبع الجفاف الشديد موجة فيضاناتٍ خطيرة، شهدت البلاد واحدة منها في ربيع 2019، وأخرى أوائل ربيع هذا العام،  وكمؤشرٍ آخر على حجم أزمة المياه شهد إقليم خوزستان (غرب البلاد) احتجاجات عنيفة بسبب شح المياه عام 2021 حيث هتف المتظاهرون “أنا عطشان” بعد موجة جفافٍ حادة، علماً أن البلاد تفقد بسرعة شديدة مخزونها من المياه الجوفية بسبب الاستخدام غير المنضبط، بما في ذلك طرق للزراعة والري لا تراعي واقع الندرة المائية.

 أزمة المياه هذه، عدا ما تعنيه من إفقارٍ مباشر، لا بد أن تدفع الكثيرين إلى الهجرة نحو المدن، حيث تضغط التقلبات المناخية على حرفٍ كالزرعة والرعي والصيد (إذ تتقلص البحيرات والأنهار مع شح المطر)  مع تردي أوضاع البلاد الاقتصادية عموماً، يمكن لنا أن نتخيل أي واقعٍ سيخلقه ضغطٌ سكاني متعاظم على مدن البلاد.

حسب الإحصائيات الرسمية الحكومية الإيرانية؛ من 2020  حتى 2023 ، ارتفعت القيمة المضافة من قطاع النفط والغاز في الاقتصاد الإيراني، ثلاث مرات أسرع من معدل نمو إجمالي الناتج المحلي، يبقى النفط مصدر دخل البلاد الرئيس رغم محاولات تنويع الأنشطة الاقتصادية، مما يبقي اقتصاد البلاد رهينةً تقلبات أسعار النفط من جهة، ولأثر تضييق الخناق على صادرتها الذي تفرضه العقوبات الأميركية، أيضاً يبقى القطاع العام لاعباً أساسياً في الاقتصاد، وهذا قد يحُجم فرص الاستثمار الخاص في الاقتصاد، سواء أتى من داخل البلاد أو خارجها. 

لكن ما يبدو أكثر ضرراً، هو شبكة الاستثمارات الهائلة التي تملكها أذرع الولي الفقيه، خاصة الحرس الثوري، طبقاً لموقع وزارة الخزانة الأميركية: “الحرس الثوري أقوى لاعب  اقتصادي في إيران، إذ يتحكم بقطاعات واسعة من الاقتصاد بما في ذلك الطاقة (بما يشمل البترول)و قطاع التشييد والبناء، والخدمات المصرفية، علماً أن الحرس الثوري، له تاريخ طويل من الالتفاف على العقوبات الأميركية، عبر شبكة معقدة من شركات تُستخدم كواجهة لاستثماراته ونشاطاته”، لهذا من الصعب للغاية، تحديد مدى سيطرة الحرس الثوري على الاقتصاد الإيراني، لكن تقديراتٍ تدعي أن ثلث النشاط الاقتصادي في البلاد في قبضته. 

ومع الحجم الكبير للقطاع العام، والهائل لحضور الحرس الثوري، يعاني الاقتصاد الإيراني من مستوياتٍ عالية من الفساد، حسب منظمة الشفافية الدولية في العام 2023 كانت أقل دول العالم فساداً، عند رقم 1، الدنمارك، وأشدها سوءاً في هذا المضمار الصومال عند 180، أما إيران فكان ترتيبها 149، نفس ترتيب لبنان وزيمبابوي. (نيجيريا كانت أفضل قليلاً عند 145، أما الجارة جمهورية أذربيجان حيث يحكم “وريث” للرئاسة فكانت في ترتيب   أسوء: 154 ، الترتيب نفسه  الذي يحتله  جار آخر: العراق، حيث النفوذ الإيراني حاضرٌ بقوة). 

في العام 2019 شهدت البلاد موجة عنيفة من الاحتجاجات بعد رفع أسعار الوقود، ظاهرة لا بد أن تتكرر  إن لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية، خاصةً إذا أخذنا في الاعتبار انسداد الأفق السياسي الذي تعيشه الجمهورية الإسلامية. لكن الخيارات  التي أدت لاصطدام سياسي متواصل مع الولايات المتحدة، عدو أقوى من إيران بما لا يقاس، والتي أيضاً قررت تأميم أصول خاصة بعد الثورة، والتي بنت دولة يصعب، إن لم يستحل، حسابها هي وذراعها الضارب، الحرس الثوري، هذه الخيارات جميعاً باقية بلا تغيير حتى إشعارٍ آخر، وهي خيارات لن يملك الرئيس الجديد أي سلطة حقيقة لتغييرها، فالأمر كله بيد الولي الفقيه. و عموماً لا خطر هنا على دولة هذا الأخير، فالرئيس القادم، أياً كان اسمه، كما سابقه، سيكون موالياً لنهج الخامنئي المتشدد و سيأتي بانتخاباتٍ “مُهندَسة” تلغي أي اختيارٍ حقيقي، أياً كانت نسبة المشاركة في هذا الانتخابات.

لكن لا خير و لا استقرار  يُرجى من توجهات تبدوا مؤدلجة إلى حد فقدان المرونة، بل وإلغاء السياسة فعلياً، توجهاتٍ لا تقيم كثير وزنٍ لمعاناة من تحكم وتسعى لبناء امبراطورية ومناطق نفوذ بينما متوسط دخل مواطنيها في فئة الدخل المتوسط المنخفض  (طبقاً للبنك الدولي متوسط نصيب الإيراني من إجمالي الناتج المحلي سنوياً 4670 دولار أمريكي، مقارنةً ب 46125 في بريطانيا، 54931 في إسرائيل، و 76326 في الولايات المتحدة). تجاهل الواقع الاقتصادي هذا لحسابات العقيدة والسياسية ستدفع ثمنه دولة ولاية الفقيه إن عاجلاً أم آجلاً، وحتى ذلك الحين ستستمر معاناة الكثير  من الإيرانيين. 

08.06.2024
زمن القراءة: 7 minutes
|
آخر القصص
المُعتقَل في الدراما التلفزيونية السورية… حساسية الجرح المفتوح
علاء الدين العالم - كاتب ومسرحي فلسطيني سوري | 12.04.2025
النسيان كسياسة: عن الحرب التي لم تنتهِ في لبنان
جيفري كرم - أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأميركية | 12.04.2025
من سهول دونباس في أوكرانيا إلى بادية الشام… وثائق حصرية ومصادر مفتوحة تكشف تكثيف روسيا حرب المسيّرات في سماء سوريا 
محمد بسيكي (سراج) عبد القادر ضويحي، كريستسان مامو، أليكسينا كالونكي (osint for ukraine) | 11.04.2025

اشترك بنشرتنا البريدية