يقرأ محللون في صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة عام 2016، امتداداً لما بدأ في ستينيات القرن الماضي، حين رشح الحزب الجمهوري نائبه في الكونجرس عن ولاية أريزونا باري غولدووتر، لانتخابات الرئاسة عام 1964، رغم معارضة نُخب الحزب.
كان غولدووتر على يمين الحزب، وعُرف بنقده للرئيس الجمهوري، بطل الحرب العالمية السابق دوايت أيزنهاور (1953-1961) الذي وصف سياساته بأنها “ليبرالية جداً بالنسبة لجمهوري”.
عارض غولدووتر أيضاً القوانين التي ضمنت حصول الأميركيين الأفارقة على حقوقهم الكاملة كمواطنين، وكان أشد الأماكن عداءً لهذه القوانين الولايات الجنوبية (الجنوب نفسه الذي رفض تحرير العبيد، وانفصل عن الشمال وحاربه في ستينيات القرن التاسع عشر).
حينها اكتسح الديمقراطي ليندون جونسون نائب جون ف. كينيدي، الذي أتى للرئاسة بعد اغتياله (أي كينيدي) قبل الانتخابات بعام؛ الانتخابات الرئاسية، خصوصاً أنه داعم لحقوق الأميركيين الأفارقة، بينما قاد الجمهوري المحافظ باري غولدووتر حزبه إلى أسوأ هزيمة في تاريخه.
لم يفز الجمهوريون حينها إلا بست ولايات من أصل خمسين (طبقاً للمجمع الانتخابي) أما في مجموع الأصوات، فلم يحصدوا إلا تسعة وثلاثين في المئة من الأصوات، أما الديمقراطيون فحصدوا الولايات الست وأربعين الباقية و أكثر من ستين في المئة من إجمالي الأصوات.
“حزام الإنجيل” والفجوة بين الحزبين
هذه الانتخابات تركت أثراً أوصل الحزب الجمهوري، ومعه الولايات المتحدة كلها، إلى حيث هي اليوم، فخلالها انتقل ولاء الولايات الجنوبية من الديمقراطيين إلى الحزب الجمهوري، مما جذب للحزب قاعدةً عريضة من المحافظين البيض المتدينين، خاصة فيما يُطلق عليه “حزام الإنجيل”؛ ولايات ومقاطعات تتركز في جنوب شرق البلاد ووسطها، يحضر فيها التدين المسيحي (البروتستانتي غالباً) بقوة.
هذه القاعدة المتدينة، بعد ثلاثة عقودٍ ونصف، رأت بطلاً في شخص جورج بوش الابن “المسيحي الذي ولد من جديد”، وهي أيضاً دعمت، وما زالت تدعم، دونالد ترامب الذي لا علاقة لنمط حياته بأي التزام مسيحي، كيفما عرفنا المسيحية، لكنه يبقى عدو الليبراليين والداعين إلى لإجهاض، و هو أيضاً (أي ترامب) من يعادي المهاجرين و ظهر العداء للمسلمين خصوصاً (منعه دخول المسلمين من دولٍ معينة ودعوته إلى Muslim Ban خلال رئاسته) ثم يبقى لهم ترامب الخيار الأفضل.
قاد غولدووتر (الذي كان علمانياً) الحزب الجمهوري إلى أسوأ خسارة للانتخابات الرئاسية في تاريخه، أما ترامب ففاز مرة، وبالرغم من كونه من نعرف (أو بسببه؟) ربما يفوز مرة ثانية، وكأن العقود الستة الفاصلة بين 1964 و 2024، خلقت بلداً جديداً حل محل القديم.
في الجهة السياسية الأخرى يبقى الحزب الديمقراطي معقل اليسار، بما في ذلك شديد الليبرالية- الاجتماعية، والميال إلى الاشتراكية- الديمقراطية، مع هوة تتسع باستمرار بين الحزبين، علماً أن هوة هائلة اخرى، في الدخول والثروة، ترسم المشهد السياسي هنا.
إقرأوا أيضاً:
موت الحلم الأميركي
حتى سبعينيات القرن الماضي بدا الحلم الأميركي حقيقة، فالصورة المعتادة كانت أن الأميركي ينهي حياته أكثر ثراءً مما بدأها، لكن الدخول الحقيقية (أي بعد حساب التضخم) لمعظم الأميركيين شهدت جموداً منذ سبعينيات القرن الماضي.
ذهبت عائدات فترات النمو والرخاء إلى الأكثر ثراءً، مع اتساع متواصل في الفوارق بين الطبقات عبر البلاد، ومع ذلك أزمة فقر متصاعدة في بلدٍ ما زال الأغنى في العالم.
طبقاً لإحصائيات حكومية أميركية لعام 2022، بلغ عدد الواقعين تحت خط الفقر 37.9 مليون مواطن (11.5% لإجمالي السكان ) لذلك منطقي أن نرى القاعدة الصلبة لعضو مجلس الشيوخ (الغرفة العليا بالكونجرس) الديمقراطي عن نيويورك بيرني ساندرز، المؤيد بقوة لدورٍ أكبر للدولة في إدارة في الاقتصاد لصالح الفئات المحرومة.
لكن بدلاً من اشتراكي- ديمقراطي كساندرز، رأى متضررون من مسار الاقتصاد في أماكن أخرى في البلاد، أن بطلهم هو ترامب، رجل الأعمال الثري، الذي يحارب دخول الأجانب ويروج لسياسيات قد تكون حمائية.
من تناقضات المشهد الأميركي أن جزءاً أساساً من قاعدة الحزب الجمهوري، هي من الفقراء البيض الذين يتضررون قبل غيرهم من سياساته النيو-ليبرالية (أو الليبرالية اقتصادياً لكن المحافظة اجتماعياً إن شئت).
تقسيم البلاد ربما؟
هناك ولايات “ديمقراطية” ، وأخرى “جمهورية” ، أي تصوت عادة لهذا الحزب أو ذاك، النفوذ الديمقراطي (الذي “تُلَون” مناطق تأثيره بالزرقاء) يتركز في شمال شرقي البلاد وفي ساحل المحيط الهادئ غربها.
الجمهوريون ( وهؤلاء يُقرن نفوذهم باللون الأحمر) حضورهم قوي في الوسط وفي مناطق من الجنوب والجنوب الشرقي، لكن، عدا الولايات “المتأرجحة”، الفصل لا يخلو من تداخل، ففي ولايات توصف بأنها جمهورية، ستجد مقاطعات أو مدناً تصوت للديمقراطيين، والعكس صحيح، لكن كيف التعايش مع هذه الفوالق (إذ تخطت كونها فوارق) الآخذة في الاتساع؟ إجابة أقلية آخذة في النمو أنه لن يكون هناك تعايش، هذا الاتحاد يسير نحو التفكك.
في فبراير/ شباط عام 2023، دعت مارجوري تايلور- جرين عضوة الكونجرس الجمهورية عن ولاية جورجيا إلى “طلاق بين الولايات الحمراء والزرقاء”، أي الجمهورية والديمقراطية (على التوالي) تايلور- جرين من أقصى يمين الحزب الجمهوري، قد تبدو دعوتها هذه ضرباً من الجنون، لكن هناك ما يؤشر إلى غير ذلك.
الخبر نفسه الذي نشرته قناة NBC، عن تصريح تايلور- جرين هذا، يخبرنا أن شعبية فكرة تقسيم الولايات المتحدة، آخذةٌ في التصاعد منذ انتخابات 2020 (التي خسرها ترامب ورفض الاعتراف بنتيجتها) إذ طبقاً لإحصاء أجراهما موقعا YouGov و Bright Line Watch في يونيو/ حزيران 2021، فإن 66% من الجمهوريين من جنوب الولايات المتحدة، يدعمون الانفصال عنها وتشكيل دولةٍ جديدة، أما الديمقراطيون في غرب البلاد، فما يقارب نصفهم (47%) يدعمون الانفصال أيضاً.
ومن المفيد هنا، أن نتذكر الحجم الشاسع للولايات المتحدة، إذ يستغرق الطيران من ساحل البلاد الشرقي على المحيط الأطلنطي، إلى الغربي على المحيط الهادئ ست ساعات، وتبلغ المساحة الكلية للبلاد، بما في ذلك ولاية آلاسكا في الدائرة القطبية، تسعة ملايين وثمانمئة وسبعة وعشرين ألف كيلو متر مربع تقريباً، أما عدد السكان فيزيد على الثلاثمئة وثلاثين مليوناً.
التباعد الجغرافي هذا، لا بد أن يعزز التباعد السياسي أحياناً، على الأقل (بالمقارنة، مع كندا شمال الولايات المتحدة، الأكبر مساحةً لكنها أقل عمراناً بما لا يقاس: اذ تكاد تبلغ عشرة ملايين كيلو متر مربع مساحةً، لكن عدد سكانها أكثر قليلاً من عُشر سكان الولايات المتحدة: خمسة وثلاثين مليوناً).
“لماذا لا يحق للولايات المتحدة أن تفترض أنها ستستمر للأبد”، كان هذا عنوان مقال على موقع شبكة “سي إن إن” كتبه رونالد برنستين، أحد كبار محرري مجلة “أتلانتيك” الرصينة المعروفة ، يناقش النزعة الانفصالية الآخذة في النمو.
المقال، الذي نُشر يوم الرابع من يوليو/ تموز عام 2023، يوم العيد الوطني الأميركي، يخبرنا أن أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي وأنصارهما، لم يعودوا ينظرون إلى الطرف الآخر على أنهم منافسون سياسيون، بل ك”عدو” يهدد رؤيتهم ل”أميركا” وما تمثله وتعنيه، مما يؤدي إلى تهديداتٍ متصاعدة بالعنف، كما رأينا في محاولة الاستيلاء على الكونجرس عند خسارة ترامب، الذي يقول عنه برنستين أنه أول زعيم لحركة شعبية في تاريخ الولايات المتحدة، لا يرى غضاضةً في تخريب الممارسة الديمقراطية ليحقق أهدافه.
ينقل برنستين عن آلان وولف، الأستاذ في العلوم السياسية في جامعة بوسطن، الذي ألف كتاباً في أواخر التسعينيات كان عنوانه “أمة واحدة مهما حدث”، حيث بناء على مئات المقابلات مع مواطنين عبر الولايات المتحدة، استنتج آنذاك، أن جمهور الأميركيين أقل انقساماً بكثير مما يظهره السياسيون، ورأى أن الاختلافات الموجودة حينها؛ على حدتها، لم تكن من القوة بحيث تهدد الاتحاد الأميركي، الآن الوضع اختلف، حسب وولف: “كنت متفائلاً ، كما عبرت في العنوان (أمة واحدة مهما حدث) لكن لا يمكنني قول ذلك الآن”.
من وجهة نظر وولف، الولايات المتحدة اليوم أسيرة دائرة مغلقة من العداء الإيديولوجي والحزبي المتصاعد، والهوة الواسعة في الآراء والمواقف بين الديمقراطيين، بتوجههم اليساري والليبرالي- الاجتماعي ومشروعهم للتغيير، والجمهوريون بمحافظتهم وقاعدتهم الدينية وليبراليتهم الاقتصادية ومشروعهم المحافظ، الهوة هذه يستثمر فيها الساسة، خاصة من اليمين الجمهوري، ثم يوسعونها.
الانقسام صعب الإصلاح
دونالد ترامب نموذج صارخ على هذا، حسب وولف، إذ “يوسع انقسام الأمة بشكل قد يصعب إصلاحه في المستقبل المنظور … ولا أعرف كيف يمكننا التعافي منه (أي مما فعل ويفعل ترامب حسب وولف).
يقول برنستين (صاحب المقال الذي نقل عن وولف)، أنه بينما لا يرى أي من الخبراء الذي سألهم أن انقسام الولايات المتحدة وشيك، فإن الغالبية اليوم لا تراه مستحيلاً، لكن فوز ترامب (إن حدث) وما قد يتخذه من إجراءات تعادي بشدة توجهات الديمقراطيين والمجموعات الموالية لهم، قد يعجل بتوسيع الخلافات، ثم يجعل تقسيم البلاد أقرب مما يظن البعض.
مرة أخرى، الإحصاءات الموجودة تؤشر إلى جدية الاحتمال، إحصاء أجراه موقع YouGov مع شبكة CBS الإخبارية عام 2022، أخبرنا أن ربع الأميركيين يميلون إلى تقسيم الولايات المتحدة.
صوت لا يحسب بالضرورة على الديمقراطيين واليسار الليبرالي، يذهب إلى حد الدعوة إلى صيغ معينة للتقسيم، في العام الماضي 2023، نشر كريستوفير ف. زورن أستاذ الفلسفة في جامعة ماساتشوسيتس في مدينة بوسطن، كتاباً عنوانه “مدينة الانقسام، الولايات المتحدة الأمريكية: دعوة ديمقراطية إلى تقسيم الولايات المتحدة” (Splitsville USA: A Democratic Argument for Breaking Up the United States) الكتاب نشرته دار راوتليدج الأكاديمية. مثل وولف الذي اقتبس برنستين كلامه، كتب زورن بقلق عن “مرض يستفحل في قلب الديمقراطية الأميركية: تحديداً استعداد متصاعد بين المواطنين، بل وبين النخبة السياسية، لتجاهل نتائج الانتخابات التي لا تروق لهم”.
يخبرنا زورن أن الديمقراطية في حدها الأدنى هي “الانتقال السلمي للسلطة بما يتطابق مع نتائج انتخابات حرة وعادلة”، وهذا يعتمد بدوره على الالتزام المسبق (precommitment) بنتائج الانتخابات، وهو ما يبدو أن نسبةً متزايدة من الأميركيين على استعداد للتخلي عنه.
هذا التنكر لقلب العملية الديمقراطية، الانتخابات، حسب زورن، يقود البلاد إما لكونها غير قابلة للحكم ديمقراطياً (ثم إلى الفوضى) وإما إلى حكم أوتوقراطي (يلغي الديمقراطية حتماً) وبدلاً من الانزلاق إلى أي من هذين المصيرين، يرى زورن أن الحل هو في تقسيم الولايات المتحدة إلى دولتين أو أكثر.
يقترح زورن انقساماً سلمياً يأتي عبر التفاوض، لا خروجاً أحادياً لجزء من البلاد كالذي أدى إلى الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر، ويقدم صاحبنا صيغاً عدة للتقسيم، واحدة منها إلى دولتين، بناء على تقسيمات الولاء الديمقراطي والجمهوري القائمة الآن، صيغة ثانية تقسم البلاد إلى أربع دول بناءً على المناطق الجغرافية، وصيغة ثالثة؛ يفضلها هو، تقسم البلاد إلى خمس دول، بناء على ما يسميه، الثقافات التاريخية المتباينة.
في كل هذه المآلات التي يقترحها، يشدد زورن على تفادي العنف والقمع، الذي سيرتبط بقدرة الأميركيين على التصويت بأقدامهم، أي بالخروج من دولة (جديدة) إلى أخرى، تتفق مع قيمهم ومبادئهم، ويرى أن هذه الدول الأصغر والأكثر انسجاماً، ستحافظ على الممارسة الديمقراطية في صيغ أفضل مما هو قائم الآن، وأن “الطلاق الودي” هذا ربما يحمي الأميركيين من صراعاتٍ يمكنهم تفاديها.
ما هو مستقبل الديمقراطيّة الليبرالية؟
وإن كان من شكٍ في جدية الاحتمال، فإن مركز أبحاث السياسية الخارجية البريطاني العريق “تشاتام هاوس”، نشر على موقعه مقالاً شهر فبراير/ شباط العام الجاري 2024، عنوانه: “هل الولايات المتحدة متجهة إلى طلاق قومي” ( Could the United States be headed for a national divorce? ) مؤلف المقال بروس ستوكس، تحدث بقلق عن مستقبل به احتمالات مظلمة: “ولايات متحدة تتحرك نحو البلقنة (نسبةً إلى إقليم البلقان جنوب أوروبا وانقساماته وحروبه العديدة تاريخياً) ستكون أكثر انعزالية، مشغولة بانقساماتها الداخلية حول الهجرة، العِرق، اللامساواة، والهويات الجنسية…هذا الغرق في الذات يظهر أثره بالفعل في (سياسات) حمائية وانعزالية بشكل متزايد، مما أثر سلباً على التحالفات الاقتصادية والأمنية التي أفادت الولايات المتحدة والعالم لعقودٍ مضت”.
وفي تشديدٍ على ما أوردنا من أرقامٍ أعلاه، فإنه، حسب ما ينقل ستوكس، 54% ممن يصنفون أنفسهم كجمهوريين، يعتقدن أن حرباً أهلية قد تحدث في الولايات المتحدة، ويوافقهم أربعون في المئة من الديمقراطيين.
حين أدين ترامب، تحدث أنصاره على وسائل التواصل الاجتماعي عن شنق القاضي، ووصفوا من رأوا فيهم أعداءه بالخيانة، هذه التهديدات وما تحمله من عداء لمؤسسة العدالة الأميركية وقوانينها، كما محاولة الاستيلاء على الكونجرس وإلغاء نتيجة الانتخابات في مطلع 2021، تنبئنا عن مستقبل قد تختفي فيه الولايات المتحدة، شخص ترامب وما يمثل؛ على خطورته، تعبير عن أزمة أعمق بكثير منه هو ومن سلوكه، أزمة تجبرنا على طرح أسئلة عن المستقبل عموماً، وعن مستقبل الديمقراطية الليبرالية خصوصاً.
إقرأوا أيضاً: