لنتخيل معاً هذا المشهد: الجموع تتوافد إلى ساحة القدّيس بطرس في الفاتيكان، أعلام أميركية تختلط برايات الفاتيكان البيضاء والصفراء، ومئات الصحافيين يهمسون بدهشة: هل يُعقل؟ دونالد ترامب هو البابا؟
من شرفة الكاتدرائية، يُطلّ ترامب برداء أبيض طويل، تعلو رأسه قلنسوة بابوية مرصّعة، وتعلو شفتيه تلك الابتسامة المتعجرفة المألوفة. يرفع يده اليمنى، لا ليبارك، بل ليقول بنبرته الفجّة المباشرة، المعجونة بجهل مؤذٍ: “لو كنت أنا البابا لما صلبوا المسيح”.
في هذه اللحظة، لا نعرف من ارتجف أكثر: الملائكة في السماء، أم الكرادلة المصدومون في الصرح البابوي؟
هذا السيناريو، مع أنه مستبعد لأسباب أبرزها أن ترامب ليس كاثوليكياً، إلا أنه يبدو مطروحاً في دماغ الرجل الذي يحمل الكرة الأرضية بكفيّه، ويتلاعب بها كما يحلو له، بمشهد يذكّر بفيلم شارلي شابلن الساخر من الديكتاتور النازي أدولف هتلر.

بمساعدة الذكاء الصناعي، حصل ترامب على ما يريد: أن يصبح بابا. لبس ثياب البابا وجلس على كرسيّه وطوّب نفسه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. حدث ذلك بعد يومين فقط من كشفه عن رغبته في أن يكون الحبر الأعظم في تصريحات إعلامية. بدا الأمر كأنه مزحة. لكن ألا تبدو تصريحات ترامب كلّها مع تصرفاته كأنها مزاح متواصل؟
لكنّ الصورة التي وضعها ترامب لنفسه بهندام البابا، تُغري بتخيّل ما قد يفعله الرجل البرتقالي لو أصبح بابا فعلاً. سيكون الإعلان عن انتخابه لأوّل مرّة في تاريخ الفاتيكان عبر دخان برتقالي يخرج من المدخنة، لا أبيض ولا أسود، وبعد خروجه على الجماهير، سيرقص رقصته إيّاها، بثيابه التي ستبدو عليه لوهلة تهريجية، لكنّنا سنعتاد عليها كما اعتدنا على السيرك، الذي أدخل العالم فيه منذ وصوله للمرّة الثانية إلى البيت الأبيض.
قد يحوّل البابا ترامب الفاتيكان إلى سلسلة استثمارية، فرانشايز(أوليست في مكان ما كذلك حقاً؟) قد نرى “كاتدرائية سانت دونالد” على غرار فندقه الشهير، وقد نشهد تعديلات على الكتاب المقدّس، فيُدخل نفسه فيه، كتلميذ من تلاميذ المسيح. قد يعفو عن يهوذا، ويكرّمه ويعيّنه مستشاراً للأمن القومي، قد يفرض رسوماً على الاعترافات، ويحوّل الماء المقدّس إلى ماركة زجاجات حصرية تُباع في الأسواق.
لكنّ هذه التخيّلات كلّها، يستحيل أن تحدث في المنطق، ليس فقط بسبب المعوّقات اللوجستية، بل أيضاً لأن ترامب بالفعل لا يريد أن يصير البابا. ما يريده حقاً هو أن يفرض سطوته على الباباوية، أن يشعر البابا المقبل أنه آتٍ إلى عالم طوّب ترامب نفسه فيه بابا قبل انتخاب بابا فعلي في الفاتيكان. يريد أن يعكس الآية في تاريخية تأثير الفاتيكان على السياسة، خصوصاً في حقبة يوحنا بولس الثاني، الذي حمل صليباً بيد، ومطرقة باليد الأخرى، وساهم في تحطيم جدار برلين وإسقاط الاتّحاد السوفياتي. بإعلان نفسه بابا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يكرّر ترامب نيّته تعزيز الدين كعنصر أساسي في الحكم وفي المجتمع، بما يعنيه ذلك بحسب فهم ترامب له، تحكّماً أكبر من ترامب بالدين. يريد للدين أن يعود إلى الحياة العامّة الأميركية، بشكل صريح، ويريد إلغاء مبدأ فصل الدين عن الدولة، ويريد ضمنياً أن يخلق هالة دينية مقدّسة حول شخصه، ليزيد من سلطته ويُضيف إليها عنصراً آخر يمكّنه من إسناد الكثير من النتائج إلى الله.
لا يقتصر الأمر على اللعب بالصور على السوشيل ميديا. يريد ترامب لكثيرين أن يضحكوا على صورته كبابا. لكنه يريد أيضاً لكثيرين غيرهم أن يخافوا من دمج سلطتين من أعلى السلطات في الكرة الأرضية مع بعضهما بعضاً. قبل يومين، وخلال فعّالية في حديقة الورود في البيت الأبيض بمناسبة “اليوم الوطني للصلاة”، أعلن ترامب توقيعه أمراً تنفيذياً بإنشاء “لجنة رئاسية للحرّية الدينية”. في كلمته، عبّر صراحة عن نيّته “إعادة الدين إلى بلادنا” كما قال، وأن الأمر “مهم جداً”. وقد سبق لترامب أن أنشأ “مكتب الإيمان في البيت الأبيض”، وعيّن القسّيسة باولا وايت كمستشارة روحية.
أبعد من ذلك، انعكست سياسة ترامب الهادفة إلى إعادة المسيحية إلى تفاصيل المجتمع الأميركي، وإدخالها في أدبيات العمل السياسي، حتى على ملفّ الرسوم الجمركية الذي يُعتبر الأبرز في المئة يوم الأولى من ولايته الثانية. فقد قرر ترامب إعفاء الكتب الدينية، بما في ذلك الأناجيل، من الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الصينية. هذا القرار جاء كاستثناء ضمن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث تمّ استثناء الكتب الدينية من الرسوم الجمركية، التي أُعلنت في بداية شهر نيسان/ أبريل الماضي، وفي ذلك مفارقة مضحكة أكثر من صورة ترامب بثياب البابوية: حتى الأناجيل وباقي “السلع” الدينية تستوردها أميركا، وعليها كلّها دمغة: “صُنع في الصين”!