فكاتب “الغارديان” باتريك وينتور مثلاً رأى أن عقل ترامب السياسي أقرب إلى ذاك القرن حصراً، وتحديداً إلى نزعة التوسع الترابي التي سادته، وتالياً النظر إلى البلدان بوصفها أملاكاً وعقارات يُضحى بالجنود في سبيل الاستحواذ عليها. والرئيس الأميركي، بحسب الكاتب، إنما دلل على التوجه هذا في اقتراحه المتعلق بقطاع غزة، ولكنْ أيضاً في تصوره للعلاقات مع كندا والمكسيك وباناما وغرينلاند، فضلاً عن فرض الرسوم الجمركية المرتفعة وما يثيره من أجواء تنافسية وعدائية. وفي النظرة هذه إلى العلاقات الدولية يُستغنى عن أمور في عدادها أن الدول أطراف معنوية أيضاً، تستثمر في علاقاتها وصداقاتها ودفاعها عن حلفائها، وفي سمعتها والنماذج التي تقدمها للآخرين، وفي ما بات يُعرف بقوتها الناعمة.
وبدوره يذهب المؤرخ الأميركي ريتشارد وايت خطوة أبعد في ربطه السلوك الترامبي بحقبة محددة في التاريخ الأميركي: إنها “العصر المَطلي بالذهب” (The Gilded Age) الذي يمتد من سبعينات القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين. أما التعبير نفسه، وقد سكه الكاتب الأميركي مارك توين الذي عاصر تلك الحقبة، فيعني تمويه الواقع الفاسد وتغطيته بالذهب، و”ليس كل ما يلمع ذهباً” كما قال العرب قديماً. فمظهر الغنى بإخفائه البؤس الحقيقي والفساد لا يلبث أن يتكشف عن خدعة لا تدوم طويلاً. والطلاء بالذهب هو ما حصل، وفق وايت، حين ترافقت الثروات الكبرى التي نشأت عن الصناعة حينذاك مع تعاظم عدم المساواة بين السكان. هنا نجد ما يفسر تعويل ترامب على حصر التصنيع في الولايات المتحدة بدل التفريع (outsourcing) نحو الخارج، وفرض الرسوم المرتفعة لحماية الصناعة، وهذا فضلاً عن احتضان الرئيس الأميركي كبار الأثرياء وإحاطتهم به. والحال أن الثروة الضخمة في الولايات المتحدة تعتمد دوماً على المعونات الحكومية والرسوم الضريبية. فإيلون ماسك مثلاً يجني أموالاً طائلة من العقود والإعانات الحكومية، وكانت الرسوم والإعانات، في أواخر القرن التاسع عشر، أساسية في إنتاج ثروات كبرى في مجالات سكك الحديد وصناعة القصدير. هكذا بات من سمات “العصر المطلي بالذهب”، كما من سمات الترامبية نفسها، تلك العلاقة الوثيقة بين كبار الأغنياء وكبريات الشركات وبين السياسات الحكومية المعتمدة.
وثمة مفهوم مفتاحي آخر لتلك الماضوية المنسوبة إلى ترامب. إنه “القدر المعلن” أو “المصير الجلي” (Manifest Destiny)، الذي ورد في خطاب تنصيبه حين قال: “سنواصل السعي لتحقيق قدرنا المعلن نحو النجوم، بإرسال رواد فضاء أميركيين يغرسون العلم الأميركي على المريخ”. والتعبير هذا يعود أيضاً إلى القرن التاسع عشر، حين نشأ لدى بعض الأميركيين إيمان بفرادتهم وبحقهم المقدس في التوسع نحو باقي الأراضي في أميركا الشمالية حيث كان يقيم السكان المحليون. وهكذا فبحسب مايكل أوهانلون، الزميل في معهد بروكنغز، فإن كلام ترامب عن الاستحواذ على غرينلاند، وجعل كندا “الولاية الحادية والخمسين”، و”استعادة” قناة باناما، ثم وضع اليد على غزة، يزيل الغبار عن مفهوم أميركي بدأ يتراجع ويُطوى منذ عهد ثيودور (تيدي) روزفلت (1901-1909). ففي هذا المفهوم ينضوي جيمس ك. بولك الذي انتُخب إلى الرئاسة في 1845 وفق برنامج يدعو إلى التوسع الترابي استحواذاً على كاليفورنيا، وكانت جزءاً من المكسيك، وعلى أراض أخرى في الجنوب الغربي، أو إلحاقاً لتكساس التي كانت جمهورية مستقلة، وكذلك خفضاً للضرائب على الواردات.
وتعبير “القدر المعلن” نفسه كان قد سكه الصحافي جون أوسوليفان في مقالة تمتدح سياسات بولك التوسعية. ولئن اعتُبر المفهوم من تعابير الفرادة الأميركية التي يجوز لها وحدها أن تتوسع، لا بل يُعد توسعها هذا قدراً حتمياً، فهو غالباً ما كان يصاغ بتعابير دينية مسيحانية مستعارة من قاموس أوائل المستوطنين الأوروبيين.
لكن ترامب ذكر في خطاب تنصيبه الرئيس الأميركي “العظيم” وليام ماكينلي، وقال إنه سيعيد إطلاق اسمه على جبل ظل يحمل ذاك الاسم حتى 1975. وماكينلي الذي حكم بين 1897 و1901 حين اغتيل، كان جمهورياً، ارتبط باسمه توسع حزبه في المدن الصناعية الكبرى، كما خاض الحرب الأميركية – الإسبانية (1898) وأشرف على حقبة من التوسع شهدت إلحاق بورتو ريكو وغوام والفيليبين وهاواي، كما عُرف أيضاً بتعصبه للحمائية الضريبية.
فالماضي، بهذا المعنى، مفهوم أكثر منه زمناً. وبعد انقضاء ربع قرن على القرن الحادي والعشرين، ها هو الطلب يشتد على السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر بوصفها مفهوماً وزمناً في آن معاً. بئس هذين المفهوم والزمن.
إقرأوا أيضاً: