صباح الأحد الفائت، استيقظ ملياردير مسنّ في منتجعه العملاق الخاص في فلوريدا. مارس الطقوس التي يمارسها أي شخص عادي حين يستيقظ من النوم. وقبل أن يخرج إلى المحاولة الثانية لاغتياله في ملعب الغولف الذي يحمل اسمه، تذكر أمراً بالغ الأهمية، فأمسك هاتفه ودخل إلي صفحته الخاصة على منصته الخاصة للسوشال ميديا، والتي للمصادفة تتطابق الأحرف الثلاثة الأولى منها مع الأحرف الثلاثة الأولى من اسم شهرته، ماركته المسجلة، وكتب: I HATE TAYLOR SWIFT!
كتب “أنا أكره تايلور سويفت” بحروف كبيرة تُستخدم في الكتابة حين يريد الكاتب إعطاء القارئ إحساساً بأن الكلام صراخ. لم يضف شيئاً على هذا. لم يشرح أسبابه الموجبة لهذا الكره في أول نهار مشمس، قبل أن يستصبح. لماذا يا دونالد؟ ما الخطب؟ هل صفعتك تايلور؟ هل سلبت منك طابتك أو دراجة الدواليب الثلاثة المفضّلة لديك؟ ماذا؟ هل سرقت منك قرن الآيس كريم؟ كفكف دموعك يا ابن الثامنة والسبعين، يا رئيساً سابقاً ومرشحاً حالياً ونزقاً أبدياً. قل شيئاً يا دون. لا شيء! أكرهها، قال الطفل الظريف بقميصه الأبيض وشورته وشعره الأشقر وخدّيه الممتلئين اللذين لا يمكن للعمّات مقاومة عصرهما وترك أحمر الشفاه عليهما كآثار هجوم ساحق من القُبل.
لكن فعلاً، ما الذي دفع هذا الطفل النرجسي المسن إلى إشهار كرهه لشابة في الرابعة والثلاثين، “أميركية بالكامل” كما يسميها الإعلام الأميركي، وتقف اليوم منفردة في أعلى سلّم الكوكب، على مستوى النجومية والشعبية؟
سنعود بالزمن نحو سبعة أيام. بعد المناظرة المشهودة الثلاثاء في العاشر من أيلول/ سبتمبر، عقد أعداء ترامب حلقات رقص على أنواعه احتفاءً “بتفوُّق” كامالا هاريس عليه، أو بالأحرى دفعه إلى التفوّه بترّهات أهمها: “إنهم يأكلون الكلاب… إنهم يأكلون القطط”.
وعلى رغم أنه منذ زمن بعيد فقد عنصر المفاجأة لاعتياد الناس على أنه قد يقول أي شيء، وكل شيء، فقد فاجأهم بمنح خصومه مجاناً، مادة للتندّر لن تنقضي صلاحيتها قبل أن يشبعوها انتقاداً جدياً وسخرية مرّة في آن.
تايلور سويفت لم ترحم عزيز قوم ذُلّ تلك الليلة. استغلت لحظة ذروة المتابعة على الشاشات وفي السوشال ميديا لترمي صورتها على حسابها في إنستغرام، وهي تحضن السيد “بنجامين باتن”، هرّها الفائق الوسامة، شأنه شأن كل القطط، بعينيه الزرقاوين كعيني صاحبته.
بالصورة وحدها، كسبت تايلور وبنجامين نصف الجولة. لا أحد ينافس القطط على السوشال ميديا. هي سيدة الحيوانات جميعاً. لا ينافسها كلب أو بطريق أو دولفين ضاحك. يكفي أن تنظر مطلق قطة إلى العدسة لتذوب القلوب وتعلو التأوهات. وفي الحرب الدائرة بين معسكري هاريس وترامب، تلعب القطط دوراً لا يستهان به، بخاصة بعد نبش كلام قديم لجاي دي فانس، نائب ترامب على بطاقة الترشيح، يذّم فيه “سيدات القطط اللواتي بلا أولاد”.
إقرأوا أيضاً:
الترامبيون لم يتراجعوا في معركة القطط بل صنّعوا عشرات الصور عبر الذكاء الاصطناعي يحضن فيها ترامب هررة مرعوبة ويهرب بها من رجال سود البشرة غاضبين عراة الصدور. لا دوي لصدمة من حجم العنصرية هنا، “إن كانوا لقبوا ربّ البيت بعلزبول، فكم بالحريّ أهل بيته” كما يقول الإنجيل المقدس؟!
في مقابل صوره الاصطناعية هذه، لا يمكن إيجاد صورة حقيقية لترامب، الذي يعاني رهاب الجراثيم بالقرب من قطة أو كلب. صور الذكاء الاصطناعي لن تنافس العناق العاطفي لتايلور وبنجامين، كما أن رسالتها الموقعة باسم سيدة القطط، أسفل الصورة، كان من الصعب على ترامب أن ينساها في ما يبدو.
سويفت التي لم تكن يوماً محايدة سياسياً، شرحت أسبابها الخاصة لقرارها الاقتراع لهاريس ونائبها تيم والز، ومنها حس القيادة لدى هاريس والدفاع عن مجتمع LGBTQ+ وحقوق المرأة الإنجابية، وطلبت من جمهورها أن يحذو حذوها بالبحث والقراءة وأخذ قراره بنفسه، وشجّعته على الاقتراع، واضعة رابطاً لموقع التسجيل الرسمي للتصويت.
كلام هادئ ومتزن من فنانة يعاب عليها أن سيرتها الناصعة أجمل من أن تكون حقيقية، من دون أن يقبض عليها خصومها متلبّسة بموقف عنصري، بتشاوف على معجبين، بكلام صدر عنها يبرر أن يقال لها “كوني جميلة واصمتي”. سيرتها تُختصر ببساطة بمسيرة نجاح هائل، ونعمة قبول وحب جماهيريين يصلان الى حد هوس يذكّر بالراحلة الأيقونية الأميرة ديانا.
الإعلام الأميركي تلقى إعلان سويفت بصفته خبراً عاجلاً، وانتشر في السوشال ميديا بسرعة انتشار صور الكلاب والقطط. ومع أن ترامب كان يتوقع دعمها لهاريس عاجلاً أم آجلاً، كانت ردة فعله الأولى أنه لا يحب تايلور سويفت ويفضل عليها صديقتها الفنانة التي تدعمه.
من الثلاثاء وحتى الأحد، لم يكن لدى الإعلام حديث آخر غير مقاطعة شبه منفية في ولاية أوهايو اسمها سبرينغفيلد، فيها آلاف المهاجرين الهايتيين الشرعيين، الذين اتهمهم ترامب ونائبه بسرقة الحيوانات الأليفة وطهيها.
ومع أن استطلاعات الرأي ومقالات رأي عدة اعتبرت أن موقف سويفت ليس له تأثير كبير على الانتخابات، إلا أنه بقي متداولاً في الإعلام بنوعيه التقليدي والبديل، لجاذبية اسم سويفت، وبتأثير من جيش المهووسين بها والمعروفين باسم “سويفتز”، هؤلاء الذين يرون فيها إلهة عصرهم الحديث. فإذا ارتدت سواراً فقد شبيهه من الأسواق في ساعات. يقترضون من البنوك لحجز بطاقات لحفلاتها قبل أشهر من موعدها، ويذهبون إليها ذهاب المؤمنين إلى المعابد، ويسخون في صرف أموالهم في المدن التي تكون موجودة فيها لتنشيط الاقتصاد المحلي لهذه المدن. وفي جولتها الأميركية الأخيرة، كسبت تايلور وحدها مليار دولار، بينما ساهمت بتحريك الاقتصاد بعدما دفع معجبوها ما مجموعه خمسة مليارات دولار في الاستهلاك المحلي في المناطق التي أقامت حفلاتها فيها.
سيدة القطط الهادئة هذه ظاهرة غير مسبوقة في الثقافة الشعبية، ومع أنها ليست ناشطة سياسية، إلا أنها ابنة عصر السوشال ميديا، وبشكل أو بآخر، ممثلة الأجيال الشابة وعصريتها في الأفكار المتعلقة بالمرأة وحرية الميول الجنسية والجندرية والاحتفاء بتنوع الأعراق وألوانها وما إلى هنالك من كل ما لا يمثله دونالد ترامب، أو يكرهه بالأحرى.
تايلور سويفت هي النقيض التام لدونالد ترامب. هل هذا مبرر كافٍ لأن يصرخ بملء حروفه الكبيرة “أكرهها”؟ لا أحد يدري ولا أحد سيعلم لماذا كتب ما كتب. وحين سيُسأل عن سبب كرهه سيزيد بإجابته، وكعادته، الغموض غموضاً. لكنه تكتيك غالباً ما يعتمده، في تحويل أي نقاش مع خصم إلى مسألة شخصية بينهما يستخدم فيها سلاحه المفضّل، التنمر. ومن عادته إطلاق نعوت على الآخرين تتعلق باسمهم “الغريب” بالنسبة إليه، أو شكلهم الخارجي، أو عمرهم، لكنه لم يجد بعد في تايلور سويفت ما يستطيع أن يعيبها به، حتى في أرقام المتابعين على السوشال ميديا أو في حرب الميمز بين الجمهورين عليهما. لم يجد شعوراً أكثر ضحالة من “الكره”، يتوجه به إلى شابة في مقتبل حياتها، رجل في الثمانين من عمره، يحترف إثارة الفوضى لإبقاء نجمه ساطعاً. وعلى الأرجح أنه بتصريحه، أراد إثارة المزيد من الفوضى، لكنه جعل مئات ملايين قطط تايلور سويفت تلتفت إليه دفعة واحدة، وتحدّق فيه بعيونها الملوّنة، قد نشبت أظفارها، واستعدت للهجوم. جنت على نفسها براقش.
إقرأوا أيضاً: