ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

ديمقراطيّة في اللاذقيّة: “كاستينغ ثوريّ” تحت المكيّف!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

العرس الجماهيري، الذي وُعدنا بأنه سيكون مختلفًا تمامًا عن العرس الأسدي، فكان بحاجة إلى جولة مكوكية تمرّ على خرائط الألم السوري. وهل يمكن أن يُعقد اجتماع مع “السوريين الأحرار” من دون شعرٍ وخطابة وبعض المديح الوطني؟ لكن هذه المرة، لا “طبق كرامة”، بل طبقٌ جديد يُقدَّم على مائدة السذاجة الجماعية… بشهية مفتوحة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في عزّ قيظٍ لا يرحم، اجتاح اللاذقية كغارة غير معلنة، ومع رطوبة خانقة، اجتمع سكان “عروس الساحل” من كل حدب وصوب، لحضور اللقاء التاريخي مع اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب السوري. مشهدٌ من روايات اللامعقول، كأنهم على وشك استعادة حلمٍ قديم طال غيابه، ذاك الحلم الذي صادره النظام “البائد” – الكلمة التي يتداولها السوريون.

المدينة التي تحتضن هذا “العرس”، لا تزال تنزف، وتخفي بعض شوارعها علامات الحداد في حين مازالت آثار ندوب همجية الأسد واضحة في الريف الشمالي، فاللاذقية، في قلب “تحريرها”، لا تزال جرحًا مفتوحًا، حيث الحياة تُصارع ببطء للعودة إلى طبيعتها، لكن النقاش عن الديمقراطية المفترضة يشبه حديثًا في قصرٍ من قباب بلورية، بعيدًا عن واقع السكان.

ما يهمنا هو الحدث الجلل، الذي كان يمكن أن يحلّ كسهرة تلفزيونية مشوّقة على شاشة السوريين جميعًا، وتُعرض مباشرة بعد حلقة “حلف الأقليات” التي تشغل بال الأقليات، والذي لم يقدم لهم أي معونات منذ تأسيسه، المُتخيل.

أما عن العرس الجماهيري، الذي وُعدنا بأنه سيكون مختلفًا تمامًا عن العرس الأسدي، فكان بحاجة إلى جولة مكوكية تمرّ على خرائط الألم السوري. وهل يمكن أن يُعقد اجتماع مع “السوريين الأحرار” من دون شعرٍ وخطابة وبعض المديح الوطني؟ لكن هذه المرة، لا “طبق كرامة”، بل طبقٌ جديد يُقدَّم على مائدة السذاجة الجماعية… بشهية مفتوحة.

وُجهت دعوات الى السوريين (الأحرار) بشكل رسمي من الشؤون السياسية لحضور “جلسة نقاش” حول آلية عمل اللجنة، وتكررت التساؤلات ممن لم يُدعَ: من دعا هؤلاء؟ من يقرر تمثيل من؟ هل اختيروا كعينة عشوائية؟ أم كعينات مدروسة؟ لم يكن هناك أثر واضح لنقابات، جمعيات، أو حتى صوت المغيبين. وبدا الاجتماع وكأنه لقاء عائلي ضيّق لا يعترف بكامل أفراد العائلة.

دخلتُ المؤتمر الذي عقد في جامعة اللاذقية، في مدرج قاعة السينما الطلابية ضمن مبنى اتحاد طلبة سوريا سابقاً، حيث جلس نحو 400 شخص. شرحت اللجنة التي يتوسطها محافظ اللاذقية، أنها ستختار “هيئات ناخبة”، والتي بدورها ستختار أعضاء المجلس، ولجان الطعن، وانتخابات تُشبه انتخابات أميركا العظيمة. لا نعلم: أهي عملية انتخابية أم تعيين مقنّع؟ لا أحد يعلم، ولا أحد يسأل. الشفافية مطلقة، لكن من طرفٍ واحد فقط.

لا نستطيع أن ننسى وجود احترام لحضورنا عند البوابات، وتعامل لطيف، وتسجيل تفقّد لأسماء الحضور، وباركود يدخلنا إلى صفحة استبيان عن العملية الانتخابية، عناصر يحملون السلاح على الأسطح وعند البوابات وتفتيش بأجهزة كشف عن الأسلحة. وقنينة المياه  قُدّمت لنا عند البوابة، يا لروعة التحول! لقد قدّموا لنا الماء بكل ود واحترام، وأجلسونا في مقاعد مريحة داخل صالة مكيّفة، وسمحوا لنا بالحديث والانتقاد.

 كاميرات الإعلام المحلي، التابعة للمحافظة والشؤون السياسية، كانت حاضرة لتوثيق “العرس الانتخابي”. بعد الجلسة، سُجّلت مقابلات لاحقاً مع بعض الحضور الذين عبّروا عن فخرهم بالمشاركة، وعبارات مفعمة بالتفاؤل والثقة، وكأنهم فعلاً شهدوا تجربة ديمقراطية حقيقية… أو أقنعوا أنفسهم بذلك

لم يكن الحضور عشوائيًا تمامًا، فالوجوه دُقّقت بعناية، وكأننا أمام “كاستينغ ثوري” لاختيار ممثلي الأمة، حتى أن عناصر بلباس مدني كانوا يراقبون الداخلين بعينٍ هادئة، لا تتدخل لكنها ترى كل شيء. وجوه مألوفة، حضور صامت لكنه أثقل من أي خطاب. الأمن، هنا أيضًا، يشارك في بناء الديمقراطية.

مهرجون وديمقراطيون مبتدئون

طبعًا، لا يكتمل العرس من دون طبّال. دخل محبوب الجماهير، موسى العمر، الإعلامي البارز وتيكتوكر القصر، بظهوره المفاجئ، وجلس عشر دقائق كما يليق بنجم، ثم غادر إلى البحر، البحر الذي حُرم منه طويلًا، ونشر صوره من الشاطئ، في مشهد رمزي لأعلى درجات “تحرير الساحل”، الشاطئ ذاته الذي نشرفيديوهات توحي بأن عملية “استثماره” بدأت من دون أن يعلم أحد.

وهل تكتمل أي لجنة من دون “الجوكر”، الممثل الدائم في كل لجنة وثغرة وكتيبة: حسن الدغيم. ترك دوره السياسي المعتاد مؤقتًا، ليدير جلسة المداخلات، وها نحن نحمل الميكروفونات ونشارك في “ثاني تجربة ديمقراطية بعد تجربة الحوار الوطني من بعد سقوط الأسد”. تجربة شاعرية ورومانسية، كأنك تمسك المايك وتشعر أن البلاد تنظر إليك وتقول: “احكِ، نحن نسمعك…”!.

افتتح رئيس اللجنة حديثه بشيء من الحنين المتعمد إلى سوريا “قبل الأسد”، وتحدّث عن المجالس السابقة في عهد الأسد، التي كانت تُعيّنها الأفرع الأمنية، كما لو أنه يُنعشنا بتاريخٍ نعرفه جميعًا، ومعلومات يعرفها كل السوريين، لكن لا بدّ من تذكيرنا – نحن الجاحدين – بقيمة “التحرير” الذي ننساه أحيانًا، بسبب بعض “الأخطاء الفردية” بين الحين والآخر.

وصايا “الشرع”

لم تخلُ الجلسة من المقارنات المتكررة بين الوضع اليوم، والوضع في عهد الطاغية، ذاك “الذي كان يعيّن كل أعضاء المجلس”، بينما نحن اليوم، ببركة “الشرع”، نعيّن بعضهم فقط. نعم، “الشرع” نفسه، لا تخطئوا الظن: ليس حافظ، ولا بشار، بل شرعٌ جديد خرج علينا من غبار الثورة المنسية، يحمل الاسم نفسه لكنه ليس هو. “الشرع” الجديد تنازل لنا عن ثلثي الكعكة، ربما لنشعر أننا شاركنا في خبزها.

بهذه الكلمات اللطيفة، التي خرجت من فم رئيس اللجنة بكل سلاسة ورقّة، مع نسمات المكيّف التي خففت عنا قيظ الصيف، تابع حديثه عن اضطرارهم للعمل وفق إحصاء عام 2010، وأن كثرًا من السوريين اليوم بلا أوراق ثبوتية، عدا عن أن النظام خرّب كل قاعدة بيانات ممكنة للاستفادة منها لاحقًا، ناهيك بتوقف السجل المدني لفترة طويلة، جيل جديد من الولادات بقي من دون تسجيل، و”جيل” من الموتى بانتظار الاعتراف الرسمي بموته. لكن لا مشكلة، اليوم يوم الديمقراطيّة! واليوم الذي نطالب فيه بتغيير اسم مجلس الشعب الى مجلس البرلمان أو النواب تماشياً مع سينغافورا، فحسب أعضاء اللجنة يذكرنا اسم مجلس الشعب بحقبة الأسد!

 وأتبع كلامه بحديث عن ضرورة أن يكون عضو مجلس الشعب نزيهًا، قويًا، شجاعًا، ومخلصًا لأهداف الثورة السورية، وأكّد أنهم يعملون وفق توصيات “الرئيس الشرع” ووصاياه، بإشراك جميع السوريين، والابتعاد عن الطائفية والمناطقية والمحاصصة. الكلمات التي حملتنا زمنًا طويلًا، مثل “حرية”، “كرامة”، و”تمثيل”، ظهرت على المنصة، لكنها كانت متعبة، مغسولة، معقمة من معناها، كأن أحدًا استعان بقاموس الثورة ليزيّنه بغلاف السلطة. الكرامة صارت طبقًا يُقدَّم بلا ملح، والحرية مادةً خطابية، والتمثيل صنعة من لا يملك تمثيل أحد.

لم ينسَ رئيس اللجنة أن يؤكد أن اللاذقية مظلومة، وأنه لم يتوقع رؤيتها بهذا الشكل. وفي خضم حديثه عن الوصايا السبع للأب الروحي الجديد للسوريين، ذكّرنا بأن أعضاء مجلس الشعب سيحاسبون الوزراء ويُسائلون القرارات الحكومية. لكنه لم يذكر ما إذا كان يحق لهذا العضو أن يُسائل شرطي مرور أو رجل أمن عند إخلاله بالقانون. وطبعًا، من الآن وحتى يتشكّل مجلس الشعب في الموعد المحدد لنهاية آب/ أغسطس، لا ندري إن كانت ستبقى هناك قوانين أصلًا ليناقشها.

ولم يغفل عن ذكر أن عضو مجلس الشعب المستقبلي سيتوجب عليه الدوام 4 أيام ضمن دمشق ويومين في منطقته لسماع مطالب المنطقة المرشح عنها، وعليه ترك وظيفته والالتفات الى دوره كعضو مجلس سيساهم في بناء الدولة السورية المنشودة. هل يكفيه يومان؟

وعند انتقال الميكروفون الى عضو آخر – عجزتُ عن تذكر اسمه بسبب تقنيات الصوت المدهشة – فالمهم هو مغزى الحديث لا قائله، تحدّث عن كيف تفاجأ السوريون في بلاد المهجر بالتجارب الانتخابية، وكيف كانوا محرومين منها. لكن، مع ذلك، لا يبدو أنه سيسمح لهم بتجربتها. لم يقل ذلك حرفيًا، لكن حديثه العظيم يُستشفّ منه هذا المعنى.

عن طبقات “بني ثورة”

في الخارج، الكهرباء مقطوعة، المياه شحيحة، والناس تعيش على فتات المساعدات. أما داخل القاعة، فالنقاشات تدور حول مستقبل التمثيل الانتخابي، كأننا نعيش في سويسرا، ونبحث فقط عن تحسين نسبة المشاركة. تناقض يصور فصول العبث السوري.

في الداخل المُكيف، سمعنا حديث من أحد أعضاء اللجنة عن “الشرعية الثورية” التي يجب أن تُبنى عليها الدولة، وألا تكون انتقامية، بل سلطة رحيمة، تبني ولا تهدم، تسامح ولا تُحاسب على الماضي إلا وفق  العدالة الانتقالية الحقيقة. كلمات جميلة، ولا شك في أنها مستعارة من خطابات مفكرين قرأناهم في منافيهم، لكنه نسي، أو تناسى، أن الشرع نفسه (شرعهم) قال: “انتهينا من عقلية الثورة، وسننتقل الآن الى عقلية بناء الدولة”. وكأن الثورة كانت مشوارًا صيفيًا، انتهى، والآن نبدأ ورشة دهان. ولا أعلم إن كان المتحدث قد انتبه إلى أنه يناقض أقوال الشرع، فبتنا في حيرة: هل نسير على نهج “بناء الدولة”، أم وفق “الشرعية الثورية”؟ ولم يوضح إن كانت “ثورجية السوري” كافية لترشيحه لمجلس الشعب!

بدأت اللجنة بأخذ المداخلات، لكن الوقت ضيّق، والإجابات جاهزة، والإدارة حريصة على ألا “يتفلّت” أي حوار نحو ما هو فعلي. كأن اللجنة فتحت باب النقاش فقط لتقول: “انظروا، نحن ديمقراطيون”. بعضهم تحدّث عن ضرورة الشفافية في عمل أعضاء المجلس، وعدم وجود حصانة تحميهم من المساءلة. وبعضهم طالب بأن يكون الأعضاء على خُلق ودين. وطبعًا، جاءت مداخلات رجال الدين تمجّد العيش المشترك وتشكر اللجنة على عملها. وكان هناك من طالب بأفضليّة ترشيح “الثورجية” تحديدًا، وإقصاء الفئة الصامتة والموالين، مؤكّدًا أن مؤيدي الأسد لن يكون لهم نصيبٌ في مجلس الشعب الجديد، لا قولًا، ولا فعلًا، ولا إجرامًا، ولا حتى نفسًا. لا نعلم كيف سيتعرفون على الأنفاس، لكن لنكمل.

المفارقة أن من أرسل الدعوات نسي أن قسمًا من المدعوين كان، في مرحلةٍ ما، من المؤيدين للأسد، وعلى صلة بأيمن جابر وغيره. ربما سقطوا سهوًا، لا نعلم. وهو ما اعترضت عليه لاحقًا إحدى الشابات، مستنكرة رفض الموالين السابقين، بينما “فادي صقر” يقود السلم الأهلي، وسجّانها السابق يتفتّل حرًّا في شوارع حمص، في حين اضطرت هي للجوء إلى صديق “ذي واسطة” ليهربها من الموت خلال مجازر الساحل.

أفلا تنعمون بهذه الديمقراطيّة!

برز جمهور من نوع آخر، لا يسأل، لا يداخل، لا يصفق، فقط يراقب. نسميهم “الفئة الرمادية”، أو كما يُقال بالعامي: “جمهور الكمّامات السياسية”. وجودهم طيفيّ، لكنه مؤلم، كأنهم حضروا فقط ليراقبوا إلى أي حد يمكن للكذب أن يتجمل، وقسم كبير من هؤلاء غادر القاعة مبكراً لا ندري إن كان اعتراضاً على ما حصل.

لاحقًا، تحدث نوار نجمة، الناطق الإعلامي باسم اللجنة، وتوسّع وأفاض في الشرح عن مسار التحرير وعظمة السوريين. لكن سنواته في “فرانس” أنسته بعض مفردات العربية، ولولا تواضعه، لطلب مترجمًا يترجم له ما يقوله من الفرنسية إلى العربية. ثم أردف قائلاً: “هل رأيتم؟ أنتم تنتقدون علمنا ونتقبل ذلك برحابة صدر!”، وكأنه يُذكرنا بأن مجرد انتقادهم صار مكرمة.

 جاء ذلك بعد انتقاد إحدى الشابات وصفه ما حصل في آذار/ مارس بـ”السقطة”، وادعاءه أن الشعب تجاوزها. نعم، تجاوزناها بالفعل، بالحب والعطف والدموع المنهمرة من عيون وزيرتنا التي تتميز بدمعتها السخية على ضحايا النظام الأسدي، وغزة، ومنكوبي الكوارث، والساحل، وكل مكان في العالم. المهم أن تبكي.

أما النساء، فحضورهن كان رمزيًا، كسيدتين وُضعتا للزينة، لا طعم، لا لون، لا رائحة. مداخلتان خفيفتان – واحدة لكل منهما – ثم سكون أنيق. الدور الأنثوي محجوز، لطيف، خفيف، بلا ضجيج، كما تزيّن الزهور نافذة غرفة الاجتماعات: حضورٌ للزينة، لا للموقف. لكن “البلخي” أكدت أن الكوتا النسائية فُرضت فقط من أجل اللجنة والهيئات الناخبة، وهم يريدون أن تستغل النساء الموقف وتناضلن للحصول على مقاعدهن. هم أعطوها الفرصة، والباقي عليها.

وفي النهاية، ألقى حسن الدغيم – الذي أخطأ أعضاء اللجنة في مناداته مراتٍ عدة بـ”الشيخ” بدلًا من “الأستاذ”، قبل أن يستدركوا لاحقًا – أبياتاً شعرية لختام هذه الجلسة وتوديع الحضور. لحظةٌ أرادوا لها أن تكون رفيعة، فخمة، تُوحي بأن شيئًا ما انتهى، أو ربما بدأ… لا أحد يعلم، كما لا أحد يسأل. وكأننا بحاجة إلى هذا الخيط الشعري لنودّع حضورًا لم يكن له أكثر من مجرد مشاهدة مسرحية ديمقراطية صورية.

02.07.2025
زمن القراءة: 8 minutes

العرس الجماهيري، الذي وُعدنا بأنه سيكون مختلفًا تمامًا عن العرس الأسدي، فكان بحاجة إلى جولة مكوكية تمرّ على خرائط الألم السوري. وهل يمكن أن يُعقد اجتماع مع “السوريين الأحرار” من دون شعرٍ وخطابة وبعض المديح الوطني؟ لكن هذه المرة، لا “طبق كرامة”، بل طبقٌ جديد يُقدَّم على مائدة السذاجة الجماعية… بشهية مفتوحة.

في عزّ قيظٍ لا يرحم، اجتاح اللاذقية كغارة غير معلنة، ومع رطوبة خانقة، اجتمع سكان “عروس الساحل” من كل حدب وصوب، لحضور اللقاء التاريخي مع اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب السوري. مشهدٌ من روايات اللامعقول، كأنهم على وشك استعادة حلمٍ قديم طال غيابه، ذاك الحلم الذي صادره النظام “البائد” – الكلمة التي يتداولها السوريون.

المدينة التي تحتضن هذا “العرس”، لا تزال تنزف، وتخفي بعض شوارعها علامات الحداد في حين مازالت آثار ندوب همجية الأسد واضحة في الريف الشمالي، فاللاذقية، في قلب “تحريرها”، لا تزال جرحًا مفتوحًا، حيث الحياة تُصارع ببطء للعودة إلى طبيعتها، لكن النقاش عن الديمقراطية المفترضة يشبه حديثًا في قصرٍ من قباب بلورية، بعيدًا عن واقع السكان.

ما يهمنا هو الحدث الجلل، الذي كان يمكن أن يحلّ كسهرة تلفزيونية مشوّقة على شاشة السوريين جميعًا، وتُعرض مباشرة بعد حلقة “حلف الأقليات” التي تشغل بال الأقليات، والذي لم يقدم لهم أي معونات منذ تأسيسه، المُتخيل.

أما عن العرس الجماهيري، الذي وُعدنا بأنه سيكون مختلفًا تمامًا عن العرس الأسدي، فكان بحاجة إلى جولة مكوكية تمرّ على خرائط الألم السوري. وهل يمكن أن يُعقد اجتماع مع “السوريين الأحرار” من دون شعرٍ وخطابة وبعض المديح الوطني؟ لكن هذه المرة، لا “طبق كرامة”، بل طبقٌ جديد يُقدَّم على مائدة السذاجة الجماعية… بشهية مفتوحة.

وُجهت دعوات الى السوريين (الأحرار) بشكل رسمي من الشؤون السياسية لحضور “جلسة نقاش” حول آلية عمل اللجنة، وتكررت التساؤلات ممن لم يُدعَ: من دعا هؤلاء؟ من يقرر تمثيل من؟ هل اختيروا كعينة عشوائية؟ أم كعينات مدروسة؟ لم يكن هناك أثر واضح لنقابات، جمعيات، أو حتى صوت المغيبين. وبدا الاجتماع وكأنه لقاء عائلي ضيّق لا يعترف بكامل أفراد العائلة.

دخلتُ المؤتمر الذي عقد في جامعة اللاذقية، في مدرج قاعة السينما الطلابية ضمن مبنى اتحاد طلبة سوريا سابقاً، حيث جلس نحو 400 شخص. شرحت اللجنة التي يتوسطها محافظ اللاذقية، أنها ستختار “هيئات ناخبة”، والتي بدورها ستختار أعضاء المجلس، ولجان الطعن، وانتخابات تُشبه انتخابات أميركا العظيمة. لا نعلم: أهي عملية انتخابية أم تعيين مقنّع؟ لا أحد يعلم، ولا أحد يسأل. الشفافية مطلقة، لكن من طرفٍ واحد فقط.

لا نستطيع أن ننسى وجود احترام لحضورنا عند البوابات، وتعامل لطيف، وتسجيل تفقّد لأسماء الحضور، وباركود يدخلنا إلى صفحة استبيان عن العملية الانتخابية، عناصر يحملون السلاح على الأسطح وعند البوابات وتفتيش بأجهزة كشف عن الأسلحة. وقنينة المياه  قُدّمت لنا عند البوابة، يا لروعة التحول! لقد قدّموا لنا الماء بكل ود واحترام، وأجلسونا في مقاعد مريحة داخل صالة مكيّفة، وسمحوا لنا بالحديث والانتقاد.

 كاميرات الإعلام المحلي، التابعة للمحافظة والشؤون السياسية، كانت حاضرة لتوثيق “العرس الانتخابي”. بعد الجلسة، سُجّلت مقابلات لاحقاً مع بعض الحضور الذين عبّروا عن فخرهم بالمشاركة، وعبارات مفعمة بالتفاؤل والثقة، وكأنهم فعلاً شهدوا تجربة ديمقراطية حقيقية… أو أقنعوا أنفسهم بذلك

لم يكن الحضور عشوائيًا تمامًا، فالوجوه دُقّقت بعناية، وكأننا أمام “كاستينغ ثوري” لاختيار ممثلي الأمة، حتى أن عناصر بلباس مدني كانوا يراقبون الداخلين بعينٍ هادئة، لا تتدخل لكنها ترى كل شيء. وجوه مألوفة، حضور صامت لكنه أثقل من أي خطاب. الأمن، هنا أيضًا، يشارك في بناء الديمقراطية.

مهرجون وديمقراطيون مبتدئون

طبعًا، لا يكتمل العرس من دون طبّال. دخل محبوب الجماهير، موسى العمر، الإعلامي البارز وتيكتوكر القصر، بظهوره المفاجئ، وجلس عشر دقائق كما يليق بنجم، ثم غادر إلى البحر، البحر الذي حُرم منه طويلًا، ونشر صوره من الشاطئ، في مشهد رمزي لأعلى درجات “تحرير الساحل”، الشاطئ ذاته الذي نشرفيديوهات توحي بأن عملية “استثماره” بدأت من دون أن يعلم أحد.

وهل تكتمل أي لجنة من دون “الجوكر”، الممثل الدائم في كل لجنة وثغرة وكتيبة: حسن الدغيم. ترك دوره السياسي المعتاد مؤقتًا، ليدير جلسة المداخلات، وها نحن نحمل الميكروفونات ونشارك في “ثاني تجربة ديمقراطية بعد تجربة الحوار الوطني من بعد سقوط الأسد”. تجربة شاعرية ورومانسية، كأنك تمسك المايك وتشعر أن البلاد تنظر إليك وتقول: “احكِ، نحن نسمعك…”!.

افتتح رئيس اللجنة حديثه بشيء من الحنين المتعمد إلى سوريا “قبل الأسد”، وتحدّث عن المجالس السابقة في عهد الأسد، التي كانت تُعيّنها الأفرع الأمنية، كما لو أنه يُنعشنا بتاريخٍ نعرفه جميعًا، ومعلومات يعرفها كل السوريين، لكن لا بدّ من تذكيرنا – نحن الجاحدين – بقيمة “التحرير” الذي ننساه أحيانًا، بسبب بعض “الأخطاء الفردية” بين الحين والآخر.

وصايا “الشرع”

لم تخلُ الجلسة من المقارنات المتكررة بين الوضع اليوم، والوضع في عهد الطاغية، ذاك “الذي كان يعيّن كل أعضاء المجلس”، بينما نحن اليوم، ببركة “الشرع”، نعيّن بعضهم فقط. نعم، “الشرع” نفسه، لا تخطئوا الظن: ليس حافظ، ولا بشار، بل شرعٌ جديد خرج علينا من غبار الثورة المنسية، يحمل الاسم نفسه لكنه ليس هو. “الشرع” الجديد تنازل لنا عن ثلثي الكعكة، ربما لنشعر أننا شاركنا في خبزها.

بهذه الكلمات اللطيفة، التي خرجت من فم رئيس اللجنة بكل سلاسة ورقّة، مع نسمات المكيّف التي خففت عنا قيظ الصيف، تابع حديثه عن اضطرارهم للعمل وفق إحصاء عام 2010، وأن كثرًا من السوريين اليوم بلا أوراق ثبوتية، عدا عن أن النظام خرّب كل قاعدة بيانات ممكنة للاستفادة منها لاحقًا، ناهيك بتوقف السجل المدني لفترة طويلة، جيل جديد من الولادات بقي من دون تسجيل، و”جيل” من الموتى بانتظار الاعتراف الرسمي بموته. لكن لا مشكلة، اليوم يوم الديمقراطيّة! واليوم الذي نطالب فيه بتغيير اسم مجلس الشعب الى مجلس البرلمان أو النواب تماشياً مع سينغافورا، فحسب أعضاء اللجنة يذكرنا اسم مجلس الشعب بحقبة الأسد!

 وأتبع كلامه بحديث عن ضرورة أن يكون عضو مجلس الشعب نزيهًا، قويًا، شجاعًا، ومخلصًا لأهداف الثورة السورية، وأكّد أنهم يعملون وفق توصيات “الرئيس الشرع” ووصاياه، بإشراك جميع السوريين، والابتعاد عن الطائفية والمناطقية والمحاصصة. الكلمات التي حملتنا زمنًا طويلًا، مثل “حرية”، “كرامة”، و”تمثيل”، ظهرت على المنصة، لكنها كانت متعبة، مغسولة، معقمة من معناها، كأن أحدًا استعان بقاموس الثورة ليزيّنه بغلاف السلطة. الكرامة صارت طبقًا يُقدَّم بلا ملح، والحرية مادةً خطابية، والتمثيل صنعة من لا يملك تمثيل أحد.

لم ينسَ رئيس اللجنة أن يؤكد أن اللاذقية مظلومة، وأنه لم يتوقع رؤيتها بهذا الشكل. وفي خضم حديثه عن الوصايا السبع للأب الروحي الجديد للسوريين، ذكّرنا بأن أعضاء مجلس الشعب سيحاسبون الوزراء ويُسائلون القرارات الحكومية. لكنه لم يذكر ما إذا كان يحق لهذا العضو أن يُسائل شرطي مرور أو رجل أمن عند إخلاله بالقانون. وطبعًا، من الآن وحتى يتشكّل مجلس الشعب في الموعد المحدد لنهاية آب/ أغسطس، لا ندري إن كانت ستبقى هناك قوانين أصلًا ليناقشها.

ولم يغفل عن ذكر أن عضو مجلس الشعب المستقبلي سيتوجب عليه الدوام 4 أيام ضمن دمشق ويومين في منطقته لسماع مطالب المنطقة المرشح عنها، وعليه ترك وظيفته والالتفات الى دوره كعضو مجلس سيساهم في بناء الدولة السورية المنشودة. هل يكفيه يومان؟

وعند انتقال الميكروفون الى عضو آخر – عجزتُ عن تذكر اسمه بسبب تقنيات الصوت المدهشة – فالمهم هو مغزى الحديث لا قائله، تحدّث عن كيف تفاجأ السوريون في بلاد المهجر بالتجارب الانتخابية، وكيف كانوا محرومين منها. لكن، مع ذلك، لا يبدو أنه سيسمح لهم بتجربتها. لم يقل ذلك حرفيًا، لكن حديثه العظيم يُستشفّ منه هذا المعنى.

عن طبقات “بني ثورة”

في الخارج، الكهرباء مقطوعة، المياه شحيحة، والناس تعيش على فتات المساعدات. أما داخل القاعة، فالنقاشات تدور حول مستقبل التمثيل الانتخابي، كأننا نعيش في سويسرا، ونبحث فقط عن تحسين نسبة المشاركة. تناقض يصور فصول العبث السوري.

في الداخل المُكيف، سمعنا حديث من أحد أعضاء اللجنة عن “الشرعية الثورية” التي يجب أن تُبنى عليها الدولة، وألا تكون انتقامية، بل سلطة رحيمة، تبني ولا تهدم، تسامح ولا تُحاسب على الماضي إلا وفق  العدالة الانتقالية الحقيقة. كلمات جميلة، ولا شك في أنها مستعارة من خطابات مفكرين قرأناهم في منافيهم، لكنه نسي، أو تناسى، أن الشرع نفسه (شرعهم) قال: “انتهينا من عقلية الثورة، وسننتقل الآن الى عقلية بناء الدولة”. وكأن الثورة كانت مشوارًا صيفيًا، انتهى، والآن نبدأ ورشة دهان. ولا أعلم إن كان المتحدث قد انتبه إلى أنه يناقض أقوال الشرع، فبتنا في حيرة: هل نسير على نهج “بناء الدولة”، أم وفق “الشرعية الثورية”؟ ولم يوضح إن كانت “ثورجية السوري” كافية لترشيحه لمجلس الشعب!

بدأت اللجنة بأخذ المداخلات، لكن الوقت ضيّق، والإجابات جاهزة، والإدارة حريصة على ألا “يتفلّت” أي حوار نحو ما هو فعلي. كأن اللجنة فتحت باب النقاش فقط لتقول: “انظروا، نحن ديمقراطيون”. بعضهم تحدّث عن ضرورة الشفافية في عمل أعضاء المجلس، وعدم وجود حصانة تحميهم من المساءلة. وبعضهم طالب بأن يكون الأعضاء على خُلق ودين. وطبعًا، جاءت مداخلات رجال الدين تمجّد العيش المشترك وتشكر اللجنة على عملها. وكان هناك من طالب بأفضليّة ترشيح “الثورجية” تحديدًا، وإقصاء الفئة الصامتة والموالين، مؤكّدًا أن مؤيدي الأسد لن يكون لهم نصيبٌ في مجلس الشعب الجديد، لا قولًا، ولا فعلًا، ولا إجرامًا، ولا حتى نفسًا. لا نعلم كيف سيتعرفون على الأنفاس، لكن لنكمل.

المفارقة أن من أرسل الدعوات نسي أن قسمًا من المدعوين كان، في مرحلةٍ ما، من المؤيدين للأسد، وعلى صلة بأيمن جابر وغيره. ربما سقطوا سهوًا، لا نعلم. وهو ما اعترضت عليه لاحقًا إحدى الشابات، مستنكرة رفض الموالين السابقين، بينما “فادي صقر” يقود السلم الأهلي، وسجّانها السابق يتفتّل حرًّا في شوارع حمص، في حين اضطرت هي للجوء إلى صديق “ذي واسطة” ليهربها من الموت خلال مجازر الساحل.

أفلا تنعمون بهذه الديمقراطيّة!

برز جمهور من نوع آخر، لا يسأل، لا يداخل، لا يصفق، فقط يراقب. نسميهم “الفئة الرمادية”، أو كما يُقال بالعامي: “جمهور الكمّامات السياسية”. وجودهم طيفيّ، لكنه مؤلم، كأنهم حضروا فقط ليراقبوا إلى أي حد يمكن للكذب أن يتجمل، وقسم كبير من هؤلاء غادر القاعة مبكراً لا ندري إن كان اعتراضاً على ما حصل.

لاحقًا، تحدث نوار نجمة، الناطق الإعلامي باسم اللجنة، وتوسّع وأفاض في الشرح عن مسار التحرير وعظمة السوريين. لكن سنواته في “فرانس” أنسته بعض مفردات العربية، ولولا تواضعه، لطلب مترجمًا يترجم له ما يقوله من الفرنسية إلى العربية. ثم أردف قائلاً: “هل رأيتم؟ أنتم تنتقدون علمنا ونتقبل ذلك برحابة صدر!”، وكأنه يُذكرنا بأن مجرد انتقادهم صار مكرمة.

 جاء ذلك بعد انتقاد إحدى الشابات وصفه ما حصل في آذار/ مارس بـ”السقطة”، وادعاءه أن الشعب تجاوزها. نعم، تجاوزناها بالفعل، بالحب والعطف والدموع المنهمرة من عيون وزيرتنا التي تتميز بدمعتها السخية على ضحايا النظام الأسدي، وغزة، ومنكوبي الكوارث، والساحل، وكل مكان في العالم. المهم أن تبكي.

أما النساء، فحضورهن كان رمزيًا، كسيدتين وُضعتا للزينة، لا طعم، لا لون، لا رائحة. مداخلتان خفيفتان – واحدة لكل منهما – ثم سكون أنيق. الدور الأنثوي محجوز، لطيف، خفيف، بلا ضجيج، كما تزيّن الزهور نافذة غرفة الاجتماعات: حضورٌ للزينة، لا للموقف. لكن “البلخي” أكدت أن الكوتا النسائية فُرضت فقط من أجل اللجنة والهيئات الناخبة، وهم يريدون أن تستغل النساء الموقف وتناضلن للحصول على مقاعدهن. هم أعطوها الفرصة، والباقي عليها.

وفي النهاية، ألقى حسن الدغيم – الذي أخطأ أعضاء اللجنة في مناداته مراتٍ عدة بـ”الشيخ” بدلًا من “الأستاذ”، قبل أن يستدركوا لاحقًا – أبياتاً شعرية لختام هذه الجلسة وتوديع الحضور. لحظةٌ أرادوا لها أن تكون رفيعة، فخمة، تُوحي بأن شيئًا ما انتهى، أو ربما بدأ… لا أحد يعلم، كما لا أحد يسأل. وكأننا بحاجة إلى هذا الخيط الشعري لنودّع حضورًا لم يكن له أكثر من مجرد مشاهدة مسرحية ديمقراطية صورية.