fbpx

ذاكرة مغتربة غزيّة:  “هناك كائن متوحّش يركض في المخيّلة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، نعيش نحن الغزّيين في الخارج حالة من الذعر، ننتظر أي خبر يتعلق بمصير من نُحب وكل ما نملك هناك، نشاهد الأخبار بترقب وخوف شديد، وكأننا نمشي على جمر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 “صورنا العائلية، كيس من الأشلاء، كومة من الرماد، خمسة أكفان ملفوفة بجانب بعضها بعضاً متفاوتة الحجم، الصور العائلية في غزة مختلفة، لكنهم معاً كانوا معاً ورحلوا معاً”،  هكذا كتبت هبة أبو الندى عن عائلات غزة التي تُباد بشكل يومي، قبل أن تُقتل بقصف الجيش الإسرائيلي.

الخوف هو مصيرنا الأبدي، الخوف من المجهول الذي لا نعرف أين سنكون إثره، إذ لا نعرف في أي لحظة سيتركنا الخبر على شاشات التلفاز، أمام سؤال: كيف تُصنع فكرة العائلة من جديد من دون قنابل  تُلقى على رؤوسنا؟ كيف ستستمر العائلة إن تحوّلنا  إلى صور لا تشبه تلك التي كنا نلتقطها في الأعياد واللحظات الحلوة؟  

 كل شيء في الخارج يجرح، والأيدي باردة والأحضان طعمها مختلف والألفة شعور مفقود الى الأبد، ومفردة الأمان غير موجودة، والثبات تحوّل إلى منعطفات ومتغيرات تحدث وتمرّ من جانبنا، كل شيء يركض أمامنا، بل يمر من خلالنا، يصدمنا تاركاً فتحات وشقوقاً ونُدوباً.

 كلمة الطمأنينة تنسحب من معجم المغترب في أول لحظة يخرج فيها من تربته، هناك كائن متوحش يركض في مخيلتنا طيلة الوقت، مخيلتنا التي تبحث عن العائلة من جديد والخوف من فقدانها.

نشاهد كل يوم مجزرة جديدة، ونتمنى ألا تكون أسماء عائلتنا أو أقربائنا صارت أرقاماً، يتربصّ بنا شعور خفي ونطرح سؤالنا للحياة: ماذا لو خطف الموت أحدهم وترك لنا حزناً في الهواء؟

أمي وأبي … أريد لحظة وحدة من كلّ الأزمنة

 عندما كانت تستعد  أمي وعائلتي للنزوح من البيت من منطقة رفح إلى منطقة خانيونس، اتصلت بي، بكت لأول مرة برجفة عصفور خائف، صوت مكسور لا يمكن ترميمه أبداً، لأول مرة أرى أمي بهذه الصورة.

 أمي شخصية عادية، أقرب إلى أن تكون مسالمة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها في المواقف الصعبة، وقلبها قلب عصفور جميل، ولكنها ربّت أولاداً شجعاناً، بملامح حازمة و حاجبين عريضين، يظهران الامتعاض وعكسه على الفور، لم تفعل شيئاً خارقاً مخالفاً لطبيعتها، غير أنها أعطتنا آذاناً منصتة، وحناناً دافقاً، وقلوباً صيغت بحجم يديها، فانطلقنا في الدنيا وكأننا أسود، لا نخاف من شيء، إلا فقدانها.

كنت أريد حضناً آخر حينها، فأنا غادرت ولم أحظَ إلا بحضن واحد منها، ولكن هكذا نحن، في كل زمن وأي عمر، مقتنعون بأن حضن الأم هو أحلى مكان قد نبيت فيه، لكننا  قهراً نمضي  في الحياة هاربين منه، من احتضان أخير نبكي فيه.

لطالما اعتبرت أمي عظيمةً، هي واحدة من أولئك النسوة اللاتي يرفعن بيوتهن على أكتفاهن طيلة الوقت، وحدها علمتني أن الحياة الحقيقية والقيمة والمعنى لأوجاعنا ليست في تلقّيها بل في مواجهتها.

علمتني أمي أيضاً أن الآلام العظيمة تصنع نفوساً عظيمة، حين يدرك الواحد منا الأوجاع التي تعتريه، كل هذا الدفء انسحب مني في لحظة خروجي من قطاع غزة، وكل ما أشعر به الآن، أن المسافة التي أضربها بيني وبين الزمن، تتّسع وتصير موحشة وشائكة.

 كل ما أعرفه أن قلبي لم يعد ليمونة قابلة للعصر، صار حجراً يملأه الدمع، لا ينفع سوى للرشق أو إقامة الجدران، لكنني أعرف أننا حزينون لأن الحياة ليست اختيارنا، ولأنها أيضاً ليست مصيراً نهائياً، ولكن ماذا لو نجمّد الوقت الآن كي نلتقي، ونضع حداً لهذا كله، ونصنع قارباً صغيراً من البهجة والذكرى والخيال؟ هذا السؤال هو ما يدفعني لأكف عن ضرب رأسي الغارق في احتمالات الفقد.

نصائح أبي كثيرة، واحدة منها مقولة أخذتها منه حين كنت أدرس في الابتدائية، وطالبنا معلمنا بكتابة موضوع تعبير عنها، فسألت والدي عن مقولة لأسترسل في شرحها، فكّر قليلاً ثم أخبرني: “سرك أسيرك فإن بُحت به صرت أسيره”.

 كتبت فقرة طويلة حينها عن كوني شخصاً واعياً يحتفظ بهكذا حكمة في حياته ويطبقها، على الرغم من أني نشرت أسراري على كائنات متفرقة عبرت حياتي، كل شخص أعطيه سراً ليشعر بقيمته لدي.

أنا  كطفل صغير يخشى أن يفقد آخر (حلوى / سر) فيقسم سره/ حلواه بين الآخرين، طفل يود الاحتفاظ بسره لكنه مهدد، فإن لم ينشره ربما لا يعود الآخرون مهتمين به، لأنهم لا يحبون الحياة الهادئة، يودون سماع خدش ما نخر حياتك ليحبوك، الآخرون لن يحبوك على هدوئك.

 النصيحة الأولى لم تكن مقصودة، كان الهدف منها اجتياز امتحان التعبير بسلام من دون بلبلة، الثانية، التي لا يزال يكررها دوماً، أنه علي ألا أقرأ تحت الظلام أو ضوء منخفض لأن عينيّ ستنهكان، لكنني دوماً أشعر بأنني عند نقطة ما، لن أستمر في الحياة، ولن تصل عيناي إلى مرحلة أن أصبح من دون نظر، أتخيلني بعد عشر سنوات فيأتي ضباب أمامي، لست بحاجة إلى عينين، عند نقطة ما سأقرر أنا نهايتي، حيث لا أسرار ولا تعبير.

والدي رجل مواقف، ربانا على مجموعة مواقف، يقترب من الستين، لكنه ذو مظهر رجل لا يتجاوز الخمسين، هذه حال جميع أفراد عائلتنا، ومنهم أنا، أعمارنا لا تظهر على وجوهنا، بل في شيء آخر لا يعرفه أحد.

ذاكرة حيّة لا أريدها أن تموت

عندما غادرت غزة، سميت مجموعة عائلتي في “واتسآب” بـ “العائلة إلى الأبد”، ليقيني بأن الأبد هنا هو عدم نهاية القصة. هذه المساحة نشارك فيها كل مشاعرنا ويشارك أبي تحليلاته السياسية فيها، ويطمئن علينا باستمرار.

 تعبّر رنا عن خوفها في كل مرة عندما تسمع صاروخاً انفجر بالقرب من بيتها، وتسألنا مسرعة عن اسم المكان الذي قُصف، تُلقي دائماً نكاتها،وسخريتها على هذا العالم الذي أصبح مديناً لنا جميعاً نحن الفلسطينيين، ونضحك ونوافقها الرأي باستمرار.

  تحكي داليا عن مشاعرها وعن قلقها المستمر على مستقبلها وحلمها بالرجوع إلى مقاعد الدراسة على الأقل، لتحوطنا أمي بكلماتها التي تشفي كل الندب الموجودة فينا، وينتهي كل مرة حديثها بـ”كل الي بدي ياه يلتم شملنا، ونعيش بأمان وتخلص هالحرب”.

إيمان هي الأكثر قوة، تُطمئننا دوماً بأن هذا الوجع كله سيمر، أما مها فتشاركنا كل لحظة، تلتقط فيها صوراً لأطفالها ولأخوتي وترسلها إلينا، حتى نتبادل التعليقات المضحكة ونستعيد ذكرياتنا معاً، عندما كنا في البيت نفسه.

كل هذه التفاصيل موجودة في كل بيت غزّي، بنينا مع عائلتي كل هذا بحب ودفء وطمأنينة، تشاجرنا كثيراً، ولكن لم نسمح لهذا الشجار أن يكسر الحب بيننا، أو أن يجعلنا غرباء عن بعضنا بعضاً.

 نعرف تماماً ما هي أدوارنا تجاه بعض، وكيف نمنح الحب لأنفسنا وبيننا، والأحاديث الدافئة التي سنظل نستذكرها خلسة، والنتائج التي نحصدها بعد سهر طويل، والدموع التي ذرفناها لأجل دعوات مزقت أرواحنا، وكوب الشاي الدافئ على الفطور، والابتسامات التي نتبادلها.

أنا  الآن بجسد منفصل عنهم، أعود إلى كل هذه الذكريات، وطيلة هذه الحرب وأنا لا أريد أن أتواجه مع فكرة الموت،  لأني أريد أن أُجرّب كيف تبقى فكرة العائلة آمنة في قلبي، من دون رائحة الموت، من دون أن تتبّدل الصور، من دون حزن يلوح آخر النهار.

 أريد أن أحيا بذاكرة جديدة تُعيد إلي صورتي الأولى عن الحياة والنجاة، أن أستيقظ من دون جدار أمامي، أن أقف أمام البحر من دون أن يرتطم الموج بشيء في داخلي، قبل أن يصلَ إلى الصخور، أريد أن أتذكرهم من دون أن أبكي، أن أتذكرهم جميعاً، ذكرى مسافر، لا ذكرى من ودّع من يحبّ إلى الأبد، أريد أن أعود إلى المنزل، لأنني مهما بحثت عن معنى للحياة وقيمة لها، فلن أجدها إلا مع عائلتي.

09.08.2024
زمن القراءة: 5 minutes

منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، نعيش نحن الغزّيين في الخارج حالة من الذعر، ننتظر أي خبر يتعلق بمصير من نُحب وكل ما نملك هناك، نشاهد الأخبار بترقب وخوف شديد، وكأننا نمشي على جمر.

 “صورنا العائلية، كيس من الأشلاء، كومة من الرماد، خمسة أكفان ملفوفة بجانب بعضها بعضاً متفاوتة الحجم، الصور العائلية في غزة مختلفة، لكنهم معاً كانوا معاً ورحلوا معاً”،  هكذا كتبت هبة أبو الندى عن عائلات غزة التي تُباد بشكل يومي، قبل أن تُقتل بقصف الجيش الإسرائيلي.

الخوف هو مصيرنا الأبدي، الخوف من المجهول الذي لا نعرف أين سنكون إثره، إذ لا نعرف في أي لحظة سيتركنا الخبر على شاشات التلفاز، أمام سؤال: كيف تُصنع فكرة العائلة من جديد من دون قنابل  تُلقى على رؤوسنا؟ كيف ستستمر العائلة إن تحوّلنا  إلى صور لا تشبه تلك التي كنا نلتقطها في الأعياد واللحظات الحلوة؟  

 كل شيء في الخارج يجرح، والأيدي باردة والأحضان طعمها مختلف والألفة شعور مفقود الى الأبد، ومفردة الأمان غير موجودة، والثبات تحوّل إلى منعطفات ومتغيرات تحدث وتمرّ من جانبنا، كل شيء يركض أمامنا، بل يمر من خلالنا، يصدمنا تاركاً فتحات وشقوقاً ونُدوباً.

 كلمة الطمأنينة تنسحب من معجم المغترب في أول لحظة يخرج فيها من تربته، هناك كائن متوحش يركض في مخيلتنا طيلة الوقت، مخيلتنا التي تبحث عن العائلة من جديد والخوف من فقدانها.

نشاهد كل يوم مجزرة جديدة، ونتمنى ألا تكون أسماء عائلتنا أو أقربائنا صارت أرقاماً، يتربصّ بنا شعور خفي ونطرح سؤالنا للحياة: ماذا لو خطف الموت أحدهم وترك لنا حزناً في الهواء؟

أمي وأبي … أريد لحظة وحدة من كلّ الأزمنة

 عندما كانت تستعد  أمي وعائلتي للنزوح من البيت من منطقة رفح إلى منطقة خانيونس، اتصلت بي، بكت لأول مرة برجفة عصفور خائف، صوت مكسور لا يمكن ترميمه أبداً، لأول مرة أرى أمي بهذه الصورة.

 أمي شخصية عادية، أقرب إلى أن تكون مسالمة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها في المواقف الصعبة، وقلبها قلب عصفور جميل، ولكنها ربّت أولاداً شجعاناً، بملامح حازمة و حاجبين عريضين، يظهران الامتعاض وعكسه على الفور، لم تفعل شيئاً خارقاً مخالفاً لطبيعتها، غير أنها أعطتنا آذاناً منصتة، وحناناً دافقاً، وقلوباً صيغت بحجم يديها، فانطلقنا في الدنيا وكأننا أسود، لا نخاف من شيء، إلا فقدانها.

كنت أريد حضناً آخر حينها، فأنا غادرت ولم أحظَ إلا بحضن واحد منها، ولكن هكذا نحن، في كل زمن وأي عمر، مقتنعون بأن حضن الأم هو أحلى مكان قد نبيت فيه، لكننا  قهراً نمضي  في الحياة هاربين منه، من احتضان أخير نبكي فيه.

لطالما اعتبرت أمي عظيمةً، هي واحدة من أولئك النسوة اللاتي يرفعن بيوتهن على أكتفاهن طيلة الوقت، وحدها علمتني أن الحياة الحقيقية والقيمة والمعنى لأوجاعنا ليست في تلقّيها بل في مواجهتها.

علمتني أمي أيضاً أن الآلام العظيمة تصنع نفوساً عظيمة، حين يدرك الواحد منا الأوجاع التي تعتريه، كل هذا الدفء انسحب مني في لحظة خروجي من قطاع غزة، وكل ما أشعر به الآن، أن المسافة التي أضربها بيني وبين الزمن، تتّسع وتصير موحشة وشائكة.

 كل ما أعرفه أن قلبي لم يعد ليمونة قابلة للعصر، صار حجراً يملأه الدمع، لا ينفع سوى للرشق أو إقامة الجدران، لكنني أعرف أننا حزينون لأن الحياة ليست اختيارنا، ولأنها أيضاً ليست مصيراً نهائياً، ولكن ماذا لو نجمّد الوقت الآن كي نلتقي، ونضع حداً لهذا كله، ونصنع قارباً صغيراً من البهجة والذكرى والخيال؟ هذا السؤال هو ما يدفعني لأكف عن ضرب رأسي الغارق في احتمالات الفقد.

نصائح أبي كثيرة، واحدة منها مقولة أخذتها منه حين كنت أدرس في الابتدائية، وطالبنا معلمنا بكتابة موضوع تعبير عنها، فسألت والدي عن مقولة لأسترسل في شرحها، فكّر قليلاً ثم أخبرني: “سرك أسيرك فإن بُحت به صرت أسيره”.

 كتبت فقرة طويلة حينها عن كوني شخصاً واعياً يحتفظ بهكذا حكمة في حياته ويطبقها، على الرغم من أني نشرت أسراري على كائنات متفرقة عبرت حياتي، كل شخص أعطيه سراً ليشعر بقيمته لدي.

أنا  كطفل صغير يخشى أن يفقد آخر (حلوى / سر) فيقسم سره/ حلواه بين الآخرين، طفل يود الاحتفاظ بسره لكنه مهدد، فإن لم ينشره ربما لا يعود الآخرون مهتمين به، لأنهم لا يحبون الحياة الهادئة، يودون سماع خدش ما نخر حياتك ليحبوك، الآخرون لن يحبوك على هدوئك.

 النصيحة الأولى لم تكن مقصودة، كان الهدف منها اجتياز امتحان التعبير بسلام من دون بلبلة، الثانية، التي لا يزال يكررها دوماً، أنه علي ألا أقرأ تحت الظلام أو ضوء منخفض لأن عينيّ ستنهكان، لكنني دوماً أشعر بأنني عند نقطة ما، لن أستمر في الحياة، ولن تصل عيناي إلى مرحلة أن أصبح من دون نظر، أتخيلني بعد عشر سنوات فيأتي ضباب أمامي، لست بحاجة إلى عينين، عند نقطة ما سأقرر أنا نهايتي، حيث لا أسرار ولا تعبير.

والدي رجل مواقف، ربانا على مجموعة مواقف، يقترب من الستين، لكنه ذو مظهر رجل لا يتجاوز الخمسين، هذه حال جميع أفراد عائلتنا، ومنهم أنا، أعمارنا لا تظهر على وجوهنا، بل في شيء آخر لا يعرفه أحد.

ذاكرة حيّة لا أريدها أن تموت

عندما غادرت غزة، سميت مجموعة عائلتي في “واتسآب” بـ “العائلة إلى الأبد”، ليقيني بأن الأبد هنا هو عدم نهاية القصة. هذه المساحة نشارك فيها كل مشاعرنا ويشارك أبي تحليلاته السياسية فيها، ويطمئن علينا باستمرار.

 تعبّر رنا عن خوفها في كل مرة عندما تسمع صاروخاً انفجر بالقرب من بيتها، وتسألنا مسرعة عن اسم المكان الذي قُصف، تُلقي دائماً نكاتها،وسخريتها على هذا العالم الذي أصبح مديناً لنا جميعاً نحن الفلسطينيين، ونضحك ونوافقها الرأي باستمرار.

  تحكي داليا عن مشاعرها وعن قلقها المستمر على مستقبلها وحلمها بالرجوع إلى مقاعد الدراسة على الأقل، لتحوطنا أمي بكلماتها التي تشفي كل الندب الموجودة فينا، وينتهي كل مرة حديثها بـ”كل الي بدي ياه يلتم شملنا، ونعيش بأمان وتخلص هالحرب”.

إيمان هي الأكثر قوة، تُطمئننا دوماً بأن هذا الوجع كله سيمر، أما مها فتشاركنا كل لحظة، تلتقط فيها صوراً لأطفالها ولأخوتي وترسلها إلينا، حتى نتبادل التعليقات المضحكة ونستعيد ذكرياتنا معاً، عندما كنا في البيت نفسه.

كل هذه التفاصيل موجودة في كل بيت غزّي، بنينا مع عائلتي كل هذا بحب ودفء وطمأنينة، تشاجرنا كثيراً، ولكن لم نسمح لهذا الشجار أن يكسر الحب بيننا، أو أن يجعلنا غرباء عن بعضنا بعضاً.

 نعرف تماماً ما هي أدوارنا تجاه بعض، وكيف نمنح الحب لأنفسنا وبيننا، والأحاديث الدافئة التي سنظل نستذكرها خلسة، والنتائج التي نحصدها بعد سهر طويل، والدموع التي ذرفناها لأجل دعوات مزقت أرواحنا، وكوب الشاي الدافئ على الفطور، والابتسامات التي نتبادلها.

أنا  الآن بجسد منفصل عنهم، أعود إلى كل هذه الذكريات، وطيلة هذه الحرب وأنا لا أريد أن أتواجه مع فكرة الموت،  لأني أريد أن أُجرّب كيف تبقى فكرة العائلة آمنة في قلبي، من دون رائحة الموت، من دون أن تتبّدل الصور، من دون حزن يلوح آخر النهار.

 أريد أن أحيا بذاكرة جديدة تُعيد إلي صورتي الأولى عن الحياة والنجاة، أن أستيقظ من دون جدار أمامي، أن أقف أمام البحر من دون أن يرتطم الموج بشيء في داخلي، قبل أن يصلَ إلى الصخور، أريد أن أتذكرهم من دون أن أبكي، أن أتذكرهم جميعاً، ذكرى مسافر، لا ذكرى من ودّع من يحبّ إلى الأبد، أريد أن أعود إلى المنزل، لأنني مهما بحثت عن معنى للحياة وقيمة لها، فلن أجدها إلا مع عائلتي.