مع نهاية كل عام، يحتفل العالم ببداية عام جديد على أمل أن تتحقق فيه بعض الأمنيات، لكن الحال في سوريا ليست كذلك. للسوريين تحت وطأة الحكم الديكتاتوري والفقر والفساد، أحلام متراكمة مذ كانوا أطفالاً، وقد تصبح اليوم منسيّة.
أكتب بصفتي أحد الشباب السوري ومن جيل الثمانينات، وهو من الأجيال السورية المهدورة بسبب الحرب. فما أن بدأت ملامح تحقيق بعض من أحلام الشباب بالظهور حتى عاشوا أول صدمات حياتهم وأكبرها، مع نهاية مبكرة لحلم انتفاضة سلمية في سوريا، وبداية حرب قاسية أشعلها نظام الأسد ثم الدول الإقليمية وأذرعها في الداخل السوري حتى لحظة كتابة هذه السطور، والنتيجة سبع سنوات من العمر المهدور، فهل نحتفل بالسنة الثامنة؟
كثفت خلال الأيام السابقة من اتصالاتي مع العائلة ومن تبقى من الأصدقاء، ولنهاية العام مساحة واسعة من أسباب هذه الكثافة. ومع بداية كل اتصال نبدأ الحديث عن الصحة على اعتبار أنها أهم شيء، ثم نعرّج على مواضيع كثيرة.
يقول صديقي الهارب من خدمة جيش النظام في دمشق، إنه شارف على الجنون، فهو حبيس المنزل منذ سنوات، وحتى الأماكن التي يخرج إليها لا تبعد سوى أمتار من المنزل، وفي ظل عدم قدرته على العمل أو الدراسة أصبح كجثة هامدة في المنزل. يأكل وينام، ثم يخرج ليشتري بعض الحاجيات، يشاهد التلفزيون مع والدته ثم ينام مع انقطاع التيار الكهربائي.
قال لي فجأة كل عام وأنت بخير، لم أعلم ما هو الرد المناسب على هذه الأمنية وقد صدرت منه تحديداً، تبادلنا بعض الكلام المنمّق وأنهينا الاتصال، ونحن نعلم ضمناً أنه يتوق إلى حريته، فيعمل من دون خوف من ملاحقة النظام الراغب في سوقه قسراً إلى الجيش.
صديق آخر استطاع بفضل توفر المال لدى ذويه، دفع البدل النقدي للجيش بعد سنوات من مغادرته سوريا، أخبرني وهو في إحدى الدول الأوروبية حالياً عن زيارة قام بها منذ شهر إلى سوريا. لم يصدق أنه استطاع اجتياز الحدود إيّاباً ثم ذهاباً، فهي المرة الأولى التي يدخل فيها سوريا بعد دفع البدل النقدي، وعلى رغم حصوله على درجة عالية من العلم، ومعرفته بما قد يتعرض له في الداخل، أخذ على عاتقه قبول هذا التحدي كي يرى أهله بعد 5 سنوات من الاغتراب القسري. تبادلنا بعض الكلام العادي، وأغلقنا الهاتف، ونحن نعلم ضمناً توقه إلى افتتاح مركزه الطبي الخاص في سوريا، لكنه لن يستطيع بعد أن اعترضه أحد العسكريين المسلحين في دمشق، وشتمه وذلّه من أجل أن يبعد سيارته من الطريق، فغادر سوريا مع جرعة كبيرة وجديدة من الذل، فاعتبر مشروعه حلماً مؤجلاً جديداً مع إمكان إلغائه أيضاً.
أغلقنا الهاتف ونحن تحت وطأة حلم أبدي لم نستطع تحقيقه طوال حياتنا؛ أن نكون عائلة متماسكة وسعيدة في بلد مشتت وكئيب اسمه سوريا.
وردني اتصال آخر خلال الفترة الماضية، من أحد الزملاء السابقين في العمل، وبدا الاتصال أكثر تفاؤلاً من غيره، ما شجعني على خوض الكثير من النقاشات، يخبرني صديقي أنه استطاع أن يشتري شجرة ويزينها بكلفة إجمالية وصلت إلى 40 ألف ليرة سورية وهو ما يشكل 30 في المئة من راتب صديقي الحالي. الشجرة بـ23 ألف، و الزينة بـ17 ألف. قال لي إن هذا الحد الأدنى لشجرة مقبولة في المنزل تفرح أطفاله الذين يقضون معظم وقتهم في البيت. سألته على سبيل المزاح لماذا هذا التبذير بخاصة أن صديقي من أتباع التقويم الهجري حتى في مكان عمله، وهي مزحة لم تكن بالجيدة حقاً، إذ أجابني بصدق أن ذلك هو السبيل الوحيد حالياً لإدخال البهجة إلى قلوب أطفاله، وطلب مني مساعدته في الحصول على عمل جديد. تبادلنا بعض الكلام الذي فيه شجون كثيرة حول ما يحصل في سوريا، وأنهينا الاتصال الهاتف ونحن نعلم أنني لا أستطيع مساعدته، إذ إنني أيضاً أبحث عن عمل جديد.
أخذت قراري ومضيت به، بألا أتصل بأحد أو أجيب على اتصال أحد، فمعظم هذه الاتصالات لها نهايات حزينة، لكنني بدأت أفكر في نفسي وفي أحلامي، فعلى رغم أنني حققت بعضها، إلا أني لا أرى الصورة كاملة بعد، بخاصة أنني بعد أن تركت سوريا، أودعت فيها ما أنجزته سابقاً، وفي خضم تساؤلاتي وردتني رسالة عبر “واتس أب”، فيها من الغرابة الشيء الكثير، إذ كَتب المرسل، “كل عام وأنت بخير، وإن شاء الله تتحقق أمنياتك جميعها”. اتصلت بالمرسل إذ إن الرقم لم يكن محفوظاً في هاتفي، ولم أعلم من هو صاحب التمنيات والتهاني. فوجئت بأنه أحد الأصدقاء الذين انقطعت أخبارهم عني منذ زمن بعيد، وهو أيضاً لم يكن يتوقع أنني ما زلت أستخدم رقم الهاتف ذاته. بدأ المرسل يحدثني عن سفره إلى أوروبا، وعمله، ودراسته، وبدأ يقصّ لي توقعاته عني، بأنني أصبحت كذا وكذا، وعملت كذا وكذا، إذ إنني وبحسب ما يذكر صديقي، كنت من أوائل أبناء جيلي الذين استطاعوا شق طريقهم بسرعة، فكان من المتوقع بحسب الصديق العتيق اللطيف، أن أكون اليوم في وضع ممتاز على الأصعدة كلها. سرد لي صديقي العتيق كل أحاديثنا وأحلامنا الطفولية القديمة، وبدا أنه حقق الكثير منها باستثناء أنه لم يتزوج، وهو يعتبر ذلك مشكلة كبيرة، والمشكلة الأكبر أنه كان يعتبر ذلك من أحلامه المهمة، في حين أنني استطعت الزواج من التي أحببتها، بعد أن تشاركنا في فهم الحياة معاً وأخذنا على عاتقنا تحقيق ما نريده معاً.
قررت الصمت أمام شريط حياتي المفترض الذي أسمعه من وراء الهاتف، طموحات وأحلام كانت مهدت الطريق أمام مستقبل يمكن القول إنه مُشرق.
منحت صديقي الوقت، وساد صمت كبير، عندها بدأت أروي له بعض الصدمات رويداً رويداً، أولها أني لم أترك سوريا طيلة فترة الحرب، وآخرها أنني لم أفعل كل ما تحدث عنه هو في شريطه الافتراضي عن حياتي. تغيّرت نبرته وبدا كأنه يحاول إيجاد مخرج سريع، فقال لي إنه سعيد بالاتصال بي وأننا يجب أن نتكلم في المستقبل (إن استطعنا)، وختم بقوله كل عام وأنت بخير، وإن شاء الله سوف تتحقق أمنياتك جميعها، بخاصة أنك كنت من المتفوقين علينا في مقاعد الدراسة، فماذا عن أحلامك وبمعنى آخر بالعامية (على شو ناوي؟ ؛ أي ما هي النيّة)، عندها تنفست الصعداء وقلت واثقاً: لقد تعودت خلال السنوات السابقة على تأجيل أحلامي، أعتقد أنه يجب أن أبدأ بتحقيقها، فقراري الحالي أن أتوقف عن التأجيل، وأبدأ بعد أن نفّضت غبار المرحلة السابقة وتعبها عن كاهلي. أغلقنا الهاتف ونحن نعلم تماماً أننا أمام تأجيل جديد لبعض الأحلام.
اتصال والدي الأخير لخّص الكثير مما يعانيه السوريون جميعاً في الداخل والخارج، فبعد الاطمئنان على صحة كل منا وإن كانت نبرتا الصوت تكشفان زيف ادعاءاتنا بأننا بخير، سألته عن الحال المعيشية، وكانت الللاءات تصدح من وراء الهاتف، لا كهرباء، لا غاز، لا مازوت، لا، لا، لا…
لا أعلم حقاً ما الذي يجب أن أفعله، هل أرسل القليل من المال الآن أم أنتظر كي أجمع المزيد، لكنني أخاف ألا استطيع ذلك وأضطر إلى التفريط بالمبلغ المتوفر. المشكلة ليست في المال، يريد والدي أن أزوره في سوريا، وهو لا يعلم أنني لا أستطيع الدخول إليها حالياً، فعلى رغم أنني لست من المطلوبين لدى النظام (على حد علمي)، إلا أنني لا أريد العودة إلى سوريا باختصار، وعلى رغم أنني لم اكسب عداوة أحد إلا أنني لم أكسب صداقة أحد أيضاً جراء موقفي العلني مما يحدث في سوريا، وهو إذ ينحاز نحو الإنسانية والحرية فإنه كفيل بأن يمنع والدي من سماع صوت ابنه طوال حياته. أغلقنا الهاتف ونحن تحت وطأة حلم أبدي لم نستطع تحقيقه طوال حياتنا؛ أن نكون عائلة متماسكة وسعيدة في بلد مشتت وكئيب اسمه سوريا.
إقرأ أيضاً: