الأسبوع الثاني من شهر أيلول/ سبتمبر، نتجه في الصباح الباكر مع زملاء المهنة في جنوب العراق إلى هور الدلمج في قضاء عفك الواقع بين مدينة الديوانية غرباً ومدينة الكوت شرقاً. يقترح علينا الصديق والزميل تحسين الزركاني فكرة تناول “باقلة بالدهن” في مطعم شعبي في مدينة الديوانية. الباقلة بالدهن وجبة فطور عراقية دسمة، عبارة عن خبز مفتت مغموس بماء الفول المسلوق (الباقلة المسلوقة)، يضاف إليه الدهن والبيض المقلي، ويقدم الطبق مع الخضار، وجبةً صباحية. يأتي كثيرون من أهل المدينة مثلنا لتناول هذه الوجبة العراقية الشعبية، ومن ثم يتجه كل واحد إلى جهات المدينة المحدودة، فيما نحن نتجه إلى حوض الدلمج الذي يتغذى من مبازل المصب العام الواقع على دجلة والفرات. ويلقي هذا المسطح المائي الاصطناعي بظلاله على التنوع الأحيائي في جنوب العراق ويشتهر بوصول أعداد كبيرة من الطيور المهاجرة سنوياً من أوروبا وآسيا إليه، كذلك وجود كميات كبيرة من الأسماك فضلاً عن حيوانات مثل الثعالب والخنازير البرّية. نصل تخوم الدلمج بعد طلوع الشمس، تولد مساحات المياه الزرقاء المائلة إلى الأخضر الغامق، من بين القصب هواء مختلفاً عما شعرنا به في المدينة والطريق. يشير تحليق الطيور إلى حياة متنوعة في سماء البحيرة، بينما يشير خروج ثعلب من بين القصب إلى الحياة “الجوّانية” للبحيرة إن جاز الاستخدام.
يبدأ الشعور بارتفاع درجات الحرارة بعد الساعة الأولى من بزوغ الشمس، تقّل حركة الطيور والحيوانات ويعود صيادو الأسماك من عمق البحيرة بمشاحيفهم وأدوات الصيد، لا تترك الحرارة وقتاً للحوار معهم، نكتفي تالياً بكلمات مقتضبة لا تتجاوز قُصر المسافة الزمنية بين بزوغ الشمس وسخونة الظهيرة. تزداد السخونة كلما ابتعدنا من البحيرة التي تشكل مع المسطحات المائية الأخرى مصدراً لتوليد الأوكسيجين والبرودة في الجنوب، ناهيك بأنها موطن لتربية الجواميس وصيد الأسماك. بحدود الظهيرة تصل الحرارة إلى 41 درجة مئوية، وتقل أعداد الطيور فيما يعدّ الصيادون للعودة إلى قراهم.
إذا كانت المساحات الأرضية تشكل جسم العراق، فتشكل هذه المسطحات المائية، وفيها القصب، رئة العراق، ذلك أنها توفر الأوكسيجين وتُبرّد السخونة وتستقطب أنواعاً كثيرة من الأحياء: الطيور، الحيوانات البرّية، الزواحف والحشرات. ولكن يعاني شمال هذا الجزء من رئة العراق من إهمال وتدخلات بشرية سافرة مثل سحب المياه من المسطح إلى مساحات يابسة لغرض تربية الجواميس من قبل متنفذين في محافظة الكوت، ما يؤثر سلباً في الهور وطبيعته. ولا يقتصر مثل هذا التجاوز على هور الدلمج وحده، فهناك أشكال أخرى منه تشمل نهري دجلة والفرات وروافدهما في الجنوب العراقي. يشير عدد من المواطنين والناشطين الذي التقيتهم في البصرة والديوانية إلى مزارع شخصية وحقول غير قانونية لتربية الأسماك تعود ملكيتها إلى السياسيين وتعتمد بالكامل على مياه مسروقة عبر روافد مصطنعة أو تمديد الأنابيب في جوف الأرض.
ومياه بحيرة الدلمج الاصطناعية هي مياه البزل والفيضانات ولا ترتقي الى جودة مياه الأهوار العراقية الأخرى، إنما للقصب دور مهم في اختزال الملوثات في البحيرة وتحويلها حاضنة طبيعية- بيئية للطيور والحيوانات، فضلاً عن استخدامها لأغراض زراعية. وفي هذا السياق، يشير الباحث في البيئات الطبيعية حيدر إبراهيم في مديرية البيئة بمدينة البصرة في أقصى الجنوب إلى أن المسطحات المائية الجنوبية (الأهوار) ليست رئة العراق لتوفير الأوكسيجين وامتصاص الكاربون فحسب، بل هي كلى العراق، ذلك أن القصب الموجود في الأهوار والأحواض المائية، يعلب دور الكلى في امتصاص الملوثات في المسطحات المائية. وتشير الباحثة أزهار مكي الحاصلة على ماجستير في دراسة قصب البردي في المديرية ذاتها إلى أن نبات القصب قادر على اختزال الملوثات في المياه الملوثة، لا تصفيتها. وترجع السبب إلى قدرة البكتيريا الموجودة في القصب على تفكيك الفوسفات والنترات الموجودة في المياه. تجدر الإشارة إلى أن مياه الصرف الصحي تفرّغ في الأنهر والأحواض المائية في العراق، وذلك بسبب انعدام شبكات الصرف الصحي أو تهالكها إن وجدت.
يشير الأسدي إلى أن هناك “قلقاً على المدى البعيد على الأهوار، بسبب تغير المناخ وبخاصة التغير الحاصل في منابع نهري دجلة والفرات في جنوب شرقي الأناضول وجبال كردستان
كانت مناسيب المياه قبل 2003 عالية، وتكفي الإطلاقات المائية جميع الأهوار، لكنها تعرضت إلى التجفيف والتخريب وتشريد سكانها من قبل نظام صدام حسين بعد حرب الخليج عام 1991. وأراد نظام الحكم في العراق وقتذاك تجفيف المسطحات الجنوبية، للسيطرة على المعارضين ناهيك باستعداء السكان المحليين في الأهوار وثقافتهم المحلية، وذلك من خلال إنشاء سدود قامعة على الروافد وبوابات المياه الداخلة إلى الأراضي المنخفضة. يقول الباحث والناشط البيئي في منظمة طبيعة العراق جاسم الأسدي:” بعد سقوط النظام عام 2003، كان هناك متسع من الوقت والعمل لاستعادة الأهوار، وبمجرد كسر السدود القامعة استطعنا إحياء الأهوار ولم ينتظر السكان المحليون الدولة لترميم ما تم تخريبه في عراق عهد صدام، وقاموا بكسر تلك السدود القامعة التي بناها النظام في الأهوار في العمارة والناصرية والبصرة بشكل مباشر وعادوا إلى مناطقهم”. ما حدث بعد ذلك هو انخفاض الاطلاقات المائية من تركيا وسوريا، إذ لم تكف المياه حتى للاستخدامات الزراعية، ما أثر سلباً في الأهوار الواقعة في مؤخر النهرين، دجلة والفرات، وكان ذلك الجفاف مريعاً بحسب تعبير الأسدي عام2009.
احتاجت عملية البحث للحيلولة دون تفاقم الجفاف، الذي من شأنه دفع السكان المحليين إلى الهجرة نحو المدن، إلى إنشاء قناة رابطة بين المصب العام لمياه البزل وهور الحمّار الشمالي في محافظتي الناصرية والبصرة، إضافة إلى إنشاء سدة ترابية على نهر الفرات، من أجل رفع مناسيب المياه في هور الجبايش وهو المسطح الأساسي لتغذية الأهوار الوسطى وهور الحمار. واستعادت الأهوار عافيتها بحلول عام 2014، وانغمرت بالمياه الكافية، إنما عاد الجفاف واجتاحها بعد عام 2016، حتى وصل إلى ذروته عام 2018، ما انعكس بشكل مخيف على صحة الأهوار والسكان المحليين، الذين لا يملكون سوى الأحواض المائية لإدامة حياتهم واقتصادهم المحلي المتمثل بصيد الأسماك وتربية الجواميس والأبقار، ناهيك بالاعتماد على القصب كمصدر طبيعي آخر لصناعة المضايف وحلوى الخرّيط وهي حلوى شعبية ذات لون أصفر جذاب يعرفها سكان الأهوار المحليون، مصدرها الدقيق المأخوذ من قصب الأهوار. يتحدث الأسدي عن هجرة عدد كبير من العائلات الأهوارية إلى مناطق أخرى عام 2015 بسبب الجفاف قائلاً: “جفّ الجزء الجنوبي من هور الحويزة بالكامل، وأدى إلى هجرة سكان القرى المحيطة به بالكامل. اتجه البعض إلى مدن مثل النجف والكوت، بينما اتجه قسم من السكان إلى بحيرة الدلمج الاصطناعية، فيما اتجه آخرون إلى هور الجبايش حيث بقيت المياه وإن بكميات ضئيلة”.
استعادت الأهوار العراقية في شتاء عام 2019 عافيتها وانغمرت بالمياه إثر السيول الناتجة عن موجات الأمطار التي اجتاحت المنطقة، كما عادت الحياة إلى هور الحويزة الجنوبي لأول مرة منذ 2009، إثر السيول الآتية من الأراضي الإيرانية، حيث لم تتمكن إيران من التحكم بالمياه كما كانت تفعل في السابق، وجفّ الهور بسبب سياساتها. وازدادت الإطلاقات المائية من الجانب التركي، إثر الموجات المطرية ذاتها، إضافة إلى السيول الداخلية داخل البلد. أدت كل تلك الأسباب الى استعادة جريان المياه بشكل طبيعي في الأهوار الوسطى وأصبحت كالسابق سجادات خضراء لأول مرة سنوات بعدما ارتفعت مناسيب المياه في دجلة شمال الأهوار في العام ذاته، إذ وصل التدفق المائي إلى 160 متراً مكعباً في الثانية، فيما لم يتجاوز التدفق المترين في الثانية قبل ذلك.
يرى الأسدي أن استمرار الجفاف لأكثر من عام في العراق يعرّض الأهوار للهلاك أكثر من غيرها، “ويقضي على صناعة المضايف والطرز المعمارية الأهوارية التي تعتمد بالكامل على القصب، الذي لا ينبت سوى في المناطق الرطبة ويحتاج الى أراض غنية بالمياه. وانتشرت البيوت والمضايف القصبية بعد عام 2003 في مدينة مثل الجبايش بشكل واسع، ووصلت أعدادها إلى أكثر من 60 مضيفاً، فيما لم تتجاوز هذه المضايف 4 أو 5 حتى سقوط النظام، وذلك بسبب افتقاد المنطقة إلى القصب. وتعتبر بيوت القصب طرازاً من الفنون المعمارية القديمة ابتكرها السومريون”.
في ما خص تأثير التغير المناخي في الأهوار، يشير الأسدي إلى أن هناك “قلقاً على المدى البعيد على الأهوار، بسبب تغير المناخ وبخاصة التغير الحاصل في منابع نهري دجلة والفرات في جنوب شرقي الأناضول وجبال كردستان. على سبيل المثال، لا نلاحظ كميات الثلوج التي كانت تهطل في السابق على جبال كردستان مقارنة بموجات الأمطار والسيول التي اجتاحت المنطقة عام 2019، وشكلت منعطفاً في جغرافيا الأهوار وتاريخها”.
ولا يفصل الأسدي بين التغير المناخي المؤكد والمؤثر وبين سياسات البلدان المجاورة للعراق، والتي تتحكم بمنابع المياه، فمن شأن سد أليسو على نهر دجلة في الجانب التركي إحداث نقص كبير في تدفق المياه وبنسبة 40 في المئة. ولهذا الأمر آثار كارثية كبيرة على الأهوار العراقية، إذ تعد معالجتها صعبة للغاية. وهكذا الحال بالنسبة إلى سياسات إيران المائية على نهري الكارون والكرخة وأكثر من 100 رافد مائي، تشكل المصدر الرئيسي للأهوار المتاخمة لإيران. يشير الأسدي إلى وجود سياسة عدوانية في ما خص توزيع المياه والتحكم بها من قبل دول الجوار، ولا يمكن بحسب رأيه التفكير بإدارة رشيدة للمياه في العراق، من دون إبرام اتفاقية مائية بين العراق كبلد المصب وبين دول المنابع: تركيا، إيران وسوريا.
إضافة إلى ما سبق، هناك عوامل أخرى داخلية تحول دون إدارة عادلة للمياه في العراق مثل زراعة الأرزّ (الشلب) بكميات هائلة في سنوات الجفاف، بخاصة أن زراعة الأرزّ المنتشرة في محافظات الفرات الأوسط مثل النجف والديوانية والسماوة، تؤدي إلى تبذير كميات الهائلة من المياه العذبة. ويشير الأسدي في هذا السياق، إلى أن زراعة الأرز تلحق أضراراً هائلة بالأهوار العراقية وقد تسبب خسارتها إن استمرت. اقتضاباً، إذا خسر العراق أهواره لكل تلك الأسباب المذكورة، ستتبعه خسارة جزء كبير من اقتصاداته المحلية (الاجتماعية) وتنوعه الأحيائي ومسطحات مُبرّدة ليس للعراق وحده بل للمنطقة بأكملها.