fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

رائحة قميص بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أدور في شوارع بيروت المدمّرة، وحدي تماماً، أشعر بخوف شديد، أشعر بأنني في مدينة أجهلها، يصعب علي تقصي معالمها. شبان وشابات يحملون المكانس، يتحدّثون عن الركام والزجاج وعن الجثث، يسيرون فرقاً غير منظّمة. إنهم يكنّسون مدينتي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بيروت وأنا لم نكن يوماً صديقتين، كنت أكيلها بلعناتي وشتائمي، أتهمها بأنها سبب تعاستي، بأنها مأساتي. منذ 11 سنة، هي سنوات حياتي فيها، وعداوتنا المستمرّة. كنت دوماً أهدّدها بالرحيل، ودوماً أرحل وأعود. لم يخطر في بالي أن المدن ترحل أيضاً وأن بيروت ذات يوم سترحل، وسأعود إلى شوارعها بحثاً عنها. أُدخل وجهي بين النوافذ المحطّمة وأسأل: “بيروت أنت هنا؟ بيروت ماذا حصل؟”.

الآن وقد رحلت بيروت أو غادرها جزء منها أفكّر في أنني أخطأت كثيراً في حقها وفي حق نفسي. كان عليّ ربما أن أسجّل رائحتها، أن أسجّل أصواتها، أن أصوّرها كثيراً، أن أتنفّسها من كل حواسي، أن ألتقط فيها صوراً أجمل وأوضح، أن أرقص في شوارعها، أن أشتري جناحان وأطير فيهما من حانة إلى حانة، من مكتبة إلى قصّة، من رصيف إلى مقهى…

أمضيت سنوات هنا، ولم أكن أصافحها. حتى أنني حين كنت أتجوّل مع أصدقاء أجانب في بيروت، كنت أؤكد لهم أنني لا أحبّها. كانوا يحبونها أكثر مني بكثير. لكنني الآن أعرف أنني كنت أكذب. لقد أحببت هذه المدينة حتى النكران. أحببتها حتى الرفض. ليس سهلاً أن تحبّ مدينةً لا تمنحك يوم عطلةٍ واحداً من الأزمات والمصاعب والمآسي. ليس سهلاً أن تعترف  بأنك تحبّ جلّادك، مدينة غارقة بالنفايات والعتمة والمياه المقطوعة على رغم غزارة الأمطار… أخشى أن الأمر احتاج إلى نكبة حتى أسير في تلك الشوارع نادمة، وأردد مع ماجدة الرومي “قومي يا بيروت قومي”.

القتلة السفلة الذين فجّروا بيوت الناس وأرواحهم، سحقوا ذاكرة المدينة أيضاً، حتى بدا الأمر كأنها لم تعد هنا. لا شيء كالمشي على ركام بيروت فوق زجاجها وكأنّ مدينةً زجاجيّةً سقطت لتوّها.

هنا المقهى الذي أحبّه في الجميزة، سقط وطار مع طاولاته ومقاعده وباره واختفى الناس منه. أفكّر في الأسرار التي زرعتها فيه والتي قُلتها بصوت خفيض، وأحياناً بضحكة فاضحة. يعرف هذا المكان وقع ضحكتي الفاضحة، يعرف حين أغيّر عطري وحين أكون في سفرة عمل أو تدريب وأتأخر في المرور.

يعرف حين لا أكون على ما يرام. في الشارع هناك، صودف أنني بكيت مرّتين وربما أكثر. أفكّر بقصة الحب التي بدأتها مرّة حول تلك الطاولة والكؤوس التي شربناها، الأصدقاء الذين التقيتهم في ذاك المقهى، الأحاديث، النقاشات السياسية، المناوشات الثقافية، الشجر الذي انكسر قلبه على جنبات الطرق وجنبات القصص، وكل تلك الأشياء التي تطايرت في سماء بيروت وأصبحت نجمة.

هنا كنا نسهر، هنا كنا نشرب، هنا كنا نهرب من مواجع الحياة، هنا كنا ندفن حباً، وهناك كنّا نهرع إلى آخر. في مكان ما حدثت قُبَلٌ كثيرة وعُلّقت عناقات على شكل مشنقة بانتظار موعد آخر. هناك أصدقاء يضحكون، وهنالك مراهقون يمضون سهرتهم الأولى في شارع ما مخايل ويظنّون أنهم يمتلكون الحياة كلّها الآن.

أدور في شوارع بيروت المدمّرة، وحدي تماماً، أشعر بخوف شديد، أشعر بأنني في مدينة أجهلها، يصعب علي تقصي معالمها. شبان وشابات يحملون المكانس، يتحدّثون عن الركام والزجاج وعن الجثث، يسيرون فرقاً غير منظّمة. إنهم يكنّسون مدينتي.

مدينتي؟ لم يكن الأمر هكذا أبداً. لم يحصل أن انتميت إلى بيروت قبل الآن. كنتُ دوماً أخبر عن مساوئها، ربما كنت أظنّ أن جمالها لا يزول وأن ذكرياتي فيها لا يستطيع أحد قتلها. كنت أتعامل مع بيروت على نحو ما تتعامل امرأة مغرورة مع رجلٍ يحبّها كثيراً، فتحمّله ذنوب العالم كلّها ولا تتوقّع منه أن يدير ظهره ذات مرّة. لكن بيروت مذبوحة الآن وأجزاء منها قد تركتنا، ربما إلى الأبد.

هناك حمامة مقتولة رأيتها على جانب الطريق في الجميزة، أفكّر في هذه الحمامة. كيف ماتت؟ كيف لم يسعفها جناحاها على الهرب؟ كيف سقطت وماتت؟ أم أنها تضامنت مع بيروت وضحاياها؟ ربما صَعُب عليها التحليق فوق بيروت وقد سحقها الحزن، تركت رفاقها وهوى… انتحرت في مدينتها؟

هنا كنا نسهر، هنا كنا نشرب، هنا كنا نهرب من مواجع الحياة، هنا كنا ندفن حباً، وهناك كنّا نهرع إلى آخر. في مكان ما حدثت قُبَلٌ كثيرة وعُلّقت عناقات على شكل مشنقة بانتظار موعد آخر. هناك أصدقاء يضحكون، وهنالك مراهقون يمضون سهرتهم الأولى في شارع ما مخايل ويظنّون أنهم يمتلكون الحياة كلّها الآن.

البلاكين التراثية التي سقطت، الخشب القديم الذي يزيّلها والذي تحمّل حروباً وقهراً وأحزاناً، والقناطر الملوّنة التي كانت تشي بالحياة حتى في أكثر لحظات المدينة موتاً… كيف نُعيد الأشياء إلى مكانها؟ كيف نستعيد أنفسنا التي توارت خلف الغبار ودويّ الانفجار؟ 

أفكّر بأنّ علينا الهرب، حمل أمتعتنا والركض بعيداً، بعيداً جداً، لكنّ جزءاً مني ما زال متمسّكاً ببيروت التي كنت أعترض على العيش فيها. تلك البيروت بكل غرابتها هي أكثر ما يشدّنا إلى الحياة الآن، نحن أبناء هذه النكبة.

كنا بيروت وأنا متناحرتين دوماً، كامرأتين تتنافسان على حبّ رجلٍ واحد. لم أعرف في حياتي هوية ذاك الرجل، ولكنني لم أتصالح مع بيروت أيضاً. إلا أنّ وجهها المنكوب أشعرني بأنني وهي امرأة واحدة في نكبة واحدة، في جرح واحد.

أفكّر بما يمكن أن أفعله من أجل تلك المدينة. هل تحتاج إلى وجهي لتستعيره وجهي أو أحد فساتيني؟ هل تريد عناقاً؟ كيف نعانق مدينة؟ أو ربما أقدّم لها كندرةً ونهرب معاً إلى عالم آخر، لا قنابل فيه… لا حزن فيه… لا قتَلة ولا سفلة فيه. هناك قد أنشر قميص بيروت حتى يطهر تماماً من دمه، وحينها تفوح رائحته وتعيدنا إلى الحياة.

08.08.2020
زمن القراءة: 4 minutes

أدور في شوارع بيروت المدمّرة، وحدي تماماً، أشعر بخوف شديد، أشعر بأنني في مدينة أجهلها، يصعب علي تقصي معالمها. شبان وشابات يحملون المكانس، يتحدّثون عن الركام والزجاج وعن الجثث، يسيرون فرقاً غير منظّمة. إنهم يكنّسون مدينتي.

بيروت وأنا لم نكن يوماً صديقتين، كنت أكيلها بلعناتي وشتائمي، أتهمها بأنها سبب تعاستي، بأنها مأساتي. منذ 11 سنة، هي سنوات حياتي فيها، وعداوتنا المستمرّة. كنت دوماً أهدّدها بالرحيل، ودوماً أرحل وأعود. لم يخطر في بالي أن المدن ترحل أيضاً وأن بيروت ذات يوم سترحل، وسأعود إلى شوارعها بحثاً عنها. أُدخل وجهي بين النوافذ المحطّمة وأسأل: “بيروت أنت هنا؟ بيروت ماذا حصل؟”.

الآن وقد رحلت بيروت أو غادرها جزء منها أفكّر في أنني أخطأت كثيراً في حقها وفي حق نفسي. كان عليّ ربما أن أسجّل رائحتها، أن أسجّل أصواتها، أن أصوّرها كثيراً، أن أتنفّسها من كل حواسي، أن ألتقط فيها صوراً أجمل وأوضح، أن أرقص في شوارعها، أن أشتري جناحان وأطير فيهما من حانة إلى حانة، من مكتبة إلى قصّة، من رصيف إلى مقهى…

أمضيت سنوات هنا، ولم أكن أصافحها. حتى أنني حين كنت أتجوّل مع أصدقاء أجانب في بيروت، كنت أؤكد لهم أنني لا أحبّها. كانوا يحبونها أكثر مني بكثير. لكنني الآن أعرف أنني كنت أكذب. لقد أحببت هذه المدينة حتى النكران. أحببتها حتى الرفض. ليس سهلاً أن تحبّ مدينةً لا تمنحك يوم عطلةٍ واحداً من الأزمات والمصاعب والمآسي. ليس سهلاً أن تعترف  بأنك تحبّ جلّادك، مدينة غارقة بالنفايات والعتمة والمياه المقطوعة على رغم غزارة الأمطار… أخشى أن الأمر احتاج إلى نكبة حتى أسير في تلك الشوارع نادمة، وأردد مع ماجدة الرومي “قومي يا بيروت قومي”.

القتلة السفلة الذين فجّروا بيوت الناس وأرواحهم، سحقوا ذاكرة المدينة أيضاً، حتى بدا الأمر كأنها لم تعد هنا. لا شيء كالمشي على ركام بيروت فوق زجاجها وكأنّ مدينةً زجاجيّةً سقطت لتوّها.

هنا المقهى الذي أحبّه في الجميزة، سقط وطار مع طاولاته ومقاعده وباره واختفى الناس منه. أفكّر في الأسرار التي زرعتها فيه والتي قُلتها بصوت خفيض، وأحياناً بضحكة فاضحة. يعرف هذا المكان وقع ضحكتي الفاضحة، يعرف حين أغيّر عطري وحين أكون في سفرة عمل أو تدريب وأتأخر في المرور.

يعرف حين لا أكون على ما يرام. في الشارع هناك، صودف أنني بكيت مرّتين وربما أكثر. أفكّر بقصة الحب التي بدأتها مرّة حول تلك الطاولة والكؤوس التي شربناها، الأصدقاء الذين التقيتهم في ذاك المقهى، الأحاديث، النقاشات السياسية، المناوشات الثقافية، الشجر الذي انكسر قلبه على جنبات الطرق وجنبات القصص، وكل تلك الأشياء التي تطايرت في سماء بيروت وأصبحت نجمة.

هنا كنا نسهر، هنا كنا نشرب، هنا كنا نهرب من مواجع الحياة، هنا كنا ندفن حباً، وهناك كنّا نهرع إلى آخر. في مكان ما حدثت قُبَلٌ كثيرة وعُلّقت عناقات على شكل مشنقة بانتظار موعد آخر. هناك أصدقاء يضحكون، وهنالك مراهقون يمضون سهرتهم الأولى في شارع ما مخايل ويظنّون أنهم يمتلكون الحياة كلّها الآن.

أدور في شوارع بيروت المدمّرة، وحدي تماماً، أشعر بخوف شديد، أشعر بأنني في مدينة أجهلها، يصعب علي تقصي معالمها. شبان وشابات يحملون المكانس، يتحدّثون عن الركام والزجاج وعن الجثث، يسيرون فرقاً غير منظّمة. إنهم يكنّسون مدينتي.

مدينتي؟ لم يكن الأمر هكذا أبداً. لم يحصل أن انتميت إلى بيروت قبل الآن. كنتُ دوماً أخبر عن مساوئها، ربما كنت أظنّ أن جمالها لا يزول وأن ذكرياتي فيها لا يستطيع أحد قتلها. كنت أتعامل مع بيروت على نحو ما تتعامل امرأة مغرورة مع رجلٍ يحبّها كثيراً، فتحمّله ذنوب العالم كلّها ولا تتوقّع منه أن يدير ظهره ذات مرّة. لكن بيروت مذبوحة الآن وأجزاء منها قد تركتنا، ربما إلى الأبد.

هناك حمامة مقتولة رأيتها على جانب الطريق في الجميزة، أفكّر في هذه الحمامة. كيف ماتت؟ كيف لم يسعفها جناحاها على الهرب؟ كيف سقطت وماتت؟ أم أنها تضامنت مع بيروت وضحاياها؟ ربما صَعُب عليها التحليق فوق بيروت وقد سحقها الحزن، تركت رفاقها وهوى… انتحرت في مدينتها؟

هنا كنا نسهر، هنا كنا نشرب، هنا كنا نهرب من مواجع الحياة، هنا كنا ندفن حباً، وهناك كنّا نهرع إلى آخر. في مكان ما حدثت قُبَلٌ كثيرة وعُلّقت عناقات على شكل مشنقة بانتظار موعد آخر. هناك أصدقاء يضحكون، وهنالك مراهقون يمضون سهرتهم الأولى في شارع ما مخايل ويظنّون أنهم يمتلكون الحياة كلّها الآن.

البلاكين التراثية التي سقطت، الخشب القديم الذي يزيّلها والذي تحمّل حروباً وقهراً وأحزاناً، والقناطر الملوّنة التي كانت تشي بالحياة حتى في أكثر لحظات المدينة موتاً… كيف نُعيد الأشياء إلى مكانها؟ كيف نستعيد أنفسنا التي توارت خلف الغبار ودويّ الانفجار؟ 

أفكّر بأنّ علينا الهرب، حمل أمتعتنا والركض بعيداً، بعيداً جداً، لكنّ جزءاً مني ما زال متمسّكاً ببيروت التي كنت أعترض على العيش فيها. تلك البيروت بكل غرابتها هي أكثر ما يشدّنا إلى الحياة الآن، نحن أبناء هذه النكبة.

كنا بيروت وأنا متناحرتين دوماً، كامرأتين تتنافسان على حبّ رجلٍ واحد. لم أعرف في حياتي هوية ذاك الرجل، ولكنني لم أتصالح مع بيروت أيضاً. إلا أنّ وجهها المنكوب أشعرني بأنني وهي امرأة واحدة في نكبة واحدة، في جرح واحد.

أفكّر بما يمكن أن أفعله من أجل تلك المدينة. هل تحتاج إلى وجهي لتستعيره وجهي أو أحد فساتيني؟ هل تريد عناقاً؟ كيف نعانق مدينة؟ أو ربما أقدّم لها كندرةً ونهرب معاً إلى عالم آخر، لا قنابل فيه… لا حزن فيه… لا قتَلة ولا سفلة فيه. هناك قد أنشر قميص بيروت حتى يطهر تماماً من دمه، وحينها تفوح رائحته وتعيدنا إلى الحياة.

08.08.2020
زمن القراءة: 4 minutes
|
آخر القصص
مشاريع الاستثمار المتلكّئة في العراق: تفاقم أزمة السكن بدلاً من حلّها!
شبكة "نيريج" للصحافة الاستقصائية في العراق | 26.04.2025
محاولة لإعادة تعريف البكاء 
دلير يوسف- كاتب ومخرج من سوريا | 26.04.2025
من يتعمّد إقصاء النساء من المشهد العام في سوريا؟
مناهل السهوي - كاتبة وصحفية سورية | 25.04.2025
بابا الفقراء وأبناء الله
وائل السواح- كاتب سوري | 25.04.2025

اشترك بنشرتنا البريدية