ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

راتب شعبو: المجزرة في سوريا “تُرضي الجمهور”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يحاور ملاذ الزعبي في هذا اللقاء الكاتب والسياسي السوري راتب شعبو، في حديث عن سوريا بعد سقوط الأسد وما تشهده من احتقان طائفي، وعن أسلوب السلطة الجديدة في ترسيخ سطوتها…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قضى الكاتب والسياسي السوري راتب شعبو ستّة عشر عاماً في سجون نظام الأسد الأب، بتهمة الانتماء إلى حزب “العمل الشيوعي” المعارض، عدد من سنوات الاعتقال كان في سجن تدمر الرهيب. 

لم تحلْ تلك التجربة القاسية دون استمرار نشاطه العامّ من مواقع مختلفة، فهو طبيب ويساري ومعارض وكاتب ومترجم، وعندما اندلعت الثورة السورية ضدّ نظام الأسد الابن في عام ٢٠١١، انحاز إليها قبل أن يخرج إلى منفاه الأوروبي مع اشتداد القبضة الأمنية.

في حواره مع ملاذ الزعبي، يرسم شعبو صورة عن سوريا اليوم، مع اقتراب الذكرى الأولى لسقوط نظام بشّار الأسد.

1- أكثر من عشرة أشهر مرّت على هروب بشّار الأسد وسقوط نظامه، لكنّ سوريا اليوم  تبدو بعيدة عن الاستقرار السياسي أو الاجتماعي، كيف تقرأ المشهد؟ 

عقدة الوضع السوري اليوم تكمن في أن ما يسند غصن السلطة الحالية، هو نفسه ما يقطع غصن الوطنية السورية ويزعزع البلاد. بكلام آخر، لم تفشل السلطة الحالية فقط في أن تكون سلطة عمومية، بل هي تستجرّ قوّتها في الداخل من هذا الفشل بالذات، وهذه هي العقدة السورية. أقصد أن السلطة الحالية اختارت أن تستند إلى رضى سنّي غالب يقوم على الشعور باستعادة الدولة، وذلك بعد تكوّن وبروز مظلومية سنّية، والمظلوميات تربة منشئة للتطرّف المضادّ للوطنية، وهذا يصحّ أكثر حين تكون في وسط الأكثرية، كما هو حالنا في سوريا.

 في الواقع توفّر للسلطة الجديدة رضى وطني واسع في أيّامها الأولى، ولكنّها اختارت المسار الفئوي بدلاً من المسار الوطني، ولا يبدو أنها في وارد إعادة النظر في مسارها المدمّر هذا، يُغريها السند الخارجي الذي أثبت مراراً، منذ آذار/ مارس 2011، أنه لا يكترث لمصلحة السوريين.

أخطر ما في سوريا اليوم هو بروز شعور طائفي في الوسط السنّي، لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد، ليس مصدره وجود رئيس علوي لمدّة تزيد عن نصف قرن، فقد كان السوريون يعرفون في 1970 أن حافظ الأسد علوي، ومع ذلك رحّبوا به. مصدر الشعور الطائفي لدى السنّة، هو السلوك الطائفي الذي بدأ الأسد الأب بتكريسه واستثماره، من خلال حقن أجهزة القوّة في الدولة بعصبية طائفية علوية، وتعامله غير المسؤول وغير الوطني حيال كلّ ما هدّد سلطته.

السلطة الحالية تحثّ الخطى على المسار نفسه الذي سبقها إليه الأسد، والذي جعله ينجو من الانقلابات العسكرية، وجعله قادراً على استخدام الأمن والجيش لارتكاب مجازر دفاعاً عن نظامه، ولكن جعله في الوقت نفسه، سبباً رئيسياً لدمار سوريا الحالي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. 

على هذا، ومع بروز سلطة من الطينة نفسها، يصعب تغذية الأمل بسوريا متماسكة ومزدهرة في ظلّ السلطة الحالية.

إذا أردت أن تفهم أفق و”نيّات” نظام ما، وإلى أين يتّجه بالبلد، انظر أوّلاً كيف تُبنى أجهزة القوّة فيه، وحول أي عقيدة وبأي ولاء، كلّ ما سوى ذلك يبقى واجهات خزفية يستطيع “فيل” السلطة أن يحطّمها في أي لحظة، وأن يجعلها أثراً بعد عين. 

ما يجري في سوريا هو بناء سلطة “أسدية” جديدة، تحاول أن ترسّخ جذورها بالعنف والترهيب، من شأن هذا أن يُغلق طريق التماسك والاستقرار. لا يستقرّ نظام يؤسّس لنفسه على المجازر، وعلى استعداء فئات واسعة من السوريين عداء هويّاتياً غير سياسي، هذا العداء ليس من السهل شفاؤه. 

2- في ما يخصّ الطائفة العلوية تحديداً، وبعد مرور أشهر على مجازر آذار/ مارس الماضي، تتكرّر الاعتداءات التي تؤدّي إلى سقوط ضحايا مدنيين، بالإضافة إلى حالات خطف النساء، وأشكال متعدّدة من الانتهاكات، وكأننا أمام حالة من الاستباحة. هل من أفق لتغيير هذا الوضع؟ 

أظنّ أن تركيبة السلطة الحالية لا تريد تغيير واقع استباحة العلويين. وقد يعتبر البعض منها أن هذه الاستباحة إنجاز ينبغي الحفاظ عليه وإنكاره في الوقت نفسه. لغاية اللحظة لا تعترف السلطة، ولا جمهورها المستلب، بوقوع مجازر، وإلى اليوم لا يجرؤ العلويون أن يرووا الفظاعات التي شهدوها، ولا أن يصوّروا القبور الجماعية، ولا أن يشاركوا في أي نشاط يحمي ذكرى ضحاياهم. 

شهدنا منذ أوّل مجزرة في عهد نظام الأسد، حتى آخر مجزرة في العهد الجديد، أن “وطنية” الشعب السوري غير ناضجة بما يكفي، لكفّ يد السلطات عن مثل هذه الفظاعات المتكرّرة. 

أكثر من ذلك، برزت المجزرة، ليس بوصفها وسيلة سحق وترهيب، بل أيضاً بوصفها وسيلة لكسب جمهور ضعيف البصيرة، محقون بالخوف أو بالكراهية. تبيّن، للعار، أن المجزرة في سوريا “تُرضي الجمهور”، سواء ارتُكبت على يد قوّات السلطة نفسها، أو على يد قوّات أخرى بتسهيل ودفع من السلطة.

الجسد الأساسي للسلطة الجديدة يحمل تعبئة عدائية مزدوجة، سياسية ودينية، تجاه العلويين، وهذا العداء له وظيفة لدى أبناء الفصائل الذين تتطلّب نفوسهم العداء لخارج ما. الفصائل تقوم على مبدأ العداء والاستئثار والقوّة. ويعلو شعور أبناء الفصائل بذاتهم أكثر، من خلال الشعور بالغلبة والتفوّق على “آخرين”. لا محلّ في التصوّر الفصائلي لمساواة أو لعدالة عامّة، عدالتهم هي ما يتصوّرنه عدلاً، ولذلك فإن الذهنية الفصائلية، وهي مسيطرة في سوريا حالياً، هي الضدّ المباشر لبناء دولة، في حين أن مهمّة بناء الدولة السورية المدمّرة موكلة إلى فصائل، يشكّل هذا أحد التناقضات المغلقة في الواقع السوري الراهن. 

الأمل بتغيير هذا الوضع يحتاج إلى تغيير في البيئة غير الفصائلية الداعمة لسلطة الفصائل، وهذا سيحصل مع الوقت، كما نأمل، وهو يتطلّب نشاطاً في هذا الاتّجاه من جانب النخب، المهتمّة بالشأن العامّ، ولا سيّما السنّية منها، والحقّ أن منسوب “الوطنية” لدى هذه النخب، ظهر متدنياً أكثر مما كنت أتصوّر. 

من جانب العلويين، يقتضي الأمر التمسّك بالوطنية السورية من خلال النبذ التامّ لفكرتين، الأولى هي معالجة الاستباحة الراهنة بالعنف المضادّ، وهذا متحقّق اليوم، وأتصوّر أن منبع هذه الاستكانة العلوية هو شحّ الواقع أكثر مما هو غنى الوعي، وإن كان يُحسب للوعي أيضاً أنه يأخذ في الاعتبار شحّ الواقع، والثانية هي المسعى الانعزالي بكلّ أشكاله وهذا غير متحقّق، هناك محاولات نزقة في هذا الاتّجاه تتغذّى على المشاعر التي تولّدها الاستباحة الراهنة في نفوس العلويين.

المؤسف أن عموم السوريين لم يتوصّلوا إلى قناعة بأن التضامن الوطني مصلحة عامّة. المجتمعات السورية المختلفة لا تشعر بقيمة التضامن الوطني إلا في لحظات ضعفها. وبالرغم من أن كلّ المجتمعات عانت من ظلم، ولكلّ منها رواية لمظلومية، لم ينتهِ بهم ذلك إلى إدراك قيمة التضامن الوطني بوصفه “حبل الله”، الذي يقيهم الضعف وبطش السلطات.

3- من جانب آخر، وبعد الصيف الدامي الذي عاشه دروز البلاد، تبدو القطيعة النفسية للسويداء تجاه المركز والوطنية السورية والمجتمعات السنّية أكبر حتى من نظيرتها لدى العلويين، ما هي الخطوات العملية والممكنة لرأب الصدع؟ 

ما حدث في السويداء كان شيئاً رهيباً أكمل اللوحة التي بدأ رسمها بفظاعة عبر ما حدث في الساحل، وأوضَحَ التصوّر السياسي العدواني والضيّق الذي يتحكّم بأهل السلطة، والذي يتلخّص بممارسة العنف والسحق والإبادة، إذا أمكن الأمر، دون احترام لأي اعتبار وطني أو إنساني. هذا التصوّر السائد لدى أهل السلطة لا يبني دولة، أو يبني دولة فصائلية بلا عمومية وبلا حقّ عامّ، إنه تصوّر ينتمي إلى عصر ما قبل نشوء الدول بالمعنى الحديث.

الآن، وقد جرى ما جرى في الساحل والسويداء، يصحّ التساؤل، هل يأتي اليوم الذي يمكن لهؤلاء أن يغفروا للسلطة الحالية جرائمها بحقّهم، إلا كما غفر السوريون لحافظ الأسد بعد مجزرة تدمر وحماه وغيرها؟ ماذا تفعل السلطة الحالية حيال العلويين والدروز كي يثقوا بها، سوى أنها تضرب حولهم طوقاً طائفياً عازلاً بعد أن تساهلت مع أعمال إبادية بحقّهم؟ علاقة السلطة بالمجازر المذكورة لا تكشفها التقارير فقط، بل يكشفها سلوك السلطة وتصريحاتها بعد وقوع المجازر، من استمرار الاستباحة دون رادع، إلى عدم الاعتراف بالمجازر، إلى عدم إبداء أي تعاطف ولو بالترحّم على الضحايا أو بكلمة طيبة للأهالي، إلى التحريض المستمرّ على الفئات المنكوبة. كلّ هذا يشير إلى أن المجزرة هي ابنة مدلّلة للسلطة، وأن هذه السلطة هي بيئة مولّدة للمجازر.

على أي حال، تحتاج معالجة هذه المصيبة إلى اعتراف السلطة الحالية بما جرى، والاعتذار المباشر والصريح من أعلى هرم السلطة، مع محاسبة جدّية للمسؤولين عن هذه الجرائم. ولكن هذا ليس في أفق السلطة الحالية، ما لم تُجبر عليه بضغط داخلي لا يبدو أنه سيتوفّر قريباً، وهو مرهون بزوال وهم داعمي السلطة الآن، كما زال وهم العلويين حيال الأسد.

رأيي أن الصدع الذي حدث سوف يصعب رأبه، إلا بتغيير جذري في السلطة القائمة، وبمحاسبة جدّية لكبار المسؤولين العسكريين والأمنيين، مع قناعتي بأن هذا متعذّر في ظلّ سلطة أمنية العصب ترفع مسؤوليها الأمنيين فوق مبدأ المحاسبة.

كلما تمكّنت جهة ما من السلطة تبطر وتنسى أن العدل أساس الملك، يساعدها في ذلك أن “شعبنا” لم يتعلّم في السياسة سوى التأييد أو العداء، هذه لعنة تصاحبنا. قدرنا أن “تستقرّ” السلطات عندنا على تفكيك المجتمع لا على توحيده، وأن يكون تاريخنا تاريخ تفكّك مستمرّ.

4- يصرّ ناشطون وإعلاميون وكتّاب مقرّبون من السلطة، أو ممن ليسوا على قطيعة معها، على تحميل شيخ العقل الدرزي حكمت الهجري قسطاً كبيراً من المسؤوليّة عمّا حصل من صِدام بين السلطة والسويداء. أي مسؤوليّة تقع عليه فعلاً بتقديرك؟

من حيث المبدأ، تولّي رجل الدين مسؤوليّات سياسية أمر غير حميد. ومن حيث المبدأ أيضاً، السلطة العامّة تتحمّل المسؤوليّة الأولى عن كلّ ما يجري. أما واقعياً، وبعد كلّ الكلام، ما جرى في السويداء أن الدروز تعرّضوا للقتل في بيوتهم وفي مناطقهم، هذا يعني أنهم تعرّضوا لاعتداء، أي أنهم هوجموا ولم يهاجموا، هذا لا ينفي أن المقاتلين الدروز ارتكبوا انتهاكات وفظائع ينبغي عدم إغفالها. وفي الواقع أيضاً أن الشارع السنّي شهد تعبئة مضادّة للدروز على أرضيّة خلاف سياسي مع السلطة القائمة، وقد جرى التعبير عن هذه التعبئة بأشكال غير مسبوقة في استعلائيتها وفظاظتها وفي بعدها عن الحسّ السليم.

على المرء أن يتساءل لماذا حاز حكمت الهجري شعبية “سياسية” واسعة في الوسط الدرزي؟ تفسيري هو لأن السلطة وأنصارها هاجموا الدروز كهويّة، فيما برز الهجري كممثل لهذه الهويّة في المواجهة. ومن المفيد السؤال: لماذا كان الهجري من قبل ذا طروحات وطنية وبات اليوم انفصالياً؟ لا شكّ عندي في أن خياره السياسي اليوم خاطئ في المضيّ إلى حدود انفصالية. ومما يمكن أخذه على الهجري أيضاً، بقدر متابعتي واطّلاعي، أن هناك ضعفاً في الميل التصالحي عنده، وربما كان هذا ما يعزّز نزوعه للطلاق مع سوريا، التي تبدو له أنها باتت لأجل طويل في يد هذه السلطة. 

في ما يخصّ طلب العون صراحة من إسرائيل، قناعتي أنه أُجبر على ذلك، وهذا واقع مؤسف للغاية، كما أن رفع بعض أهالي السويداء للعلم الإسرائيلي ينطوي على ضيق أفق، ويسبّب الكثير من الألم للسوريين، ولكن لا يحقّ لأحد لوم شخص يهرب من الموت، مهما كان سبيل هروبه. اللوم لا يقع على من يخاف الموت، بل على مصدر التهديد بالموت بالأحرى. ما كان لأهل السويداء، المعروفين بوطنيتهم، أن يتقبّلوا هذا الأمر لولا شعورهم أنهم أمام خطر وجودي.

يبقى بتصوّري أن الخلل الأساسي في الخيار السياسي للهجري، هو فصله موضوع السويداء عن الموضوع السوري العامّ. كأن في هذا تخلياً وتسليماً بأنه لا يكترث لأن تكون سوريا، ما عدا السويداء، تحت حكم من يرفض هو أن يكون تحت حكمهم. كانت الحال عكس ذلك في ظلّ نظام الأسد، حينها كانت السويداء تحمل الراية السورية العامّة ضدّ سلطة الطغمة الإجرامية الحاكمة. هذه نقلة غريبة وهي ليست في صالح السويداء، ولا في صالح الشأن العامّ السوري. 

5- في مقابل استحواذ جماعة سنّية على السلطة، ومن ثم ارتكابها انتهاكات، وشيوع مزاج سنّي متّكئ على المظلومية من جهة، ويرى أن له الأولوية بالبلد ومن حقّه الاستئثار به من جهة أخرى، يبدو أن ما يقابل ذلك هو خطاب مضادّ للسنّة ويستحضر نوعاً ضمنياً من “حلف الأقلّيات”، كيف ترى اليوم طغيان الحديث عن الجماعات والطوائف في سوريا لدى تناول الشأن السياسي، في مقابل تراجع الحديث عن الاقتصاد والشرائح الاجتماعية والأوضاع المعيشية؟

الجماعات السياسية التي كانت ترى المجتمع طبقات وشرائح اجتماعية واقتصاداً ومعيشة وما إلى ذلك، فشلت في حيازة قوّة سياسية، لأسباب كثيرة ليس منها أنها كانت مخطئة. 

ما جرى منذ أكثر من 60 سنة، وهذه فترة تغطّي الحياة الواعية لكلّ السوريين الحاليين، هو أن قوّة عسكرية استولت على الحكم وجمعت هذه اللغة السياسية التي تتكلّم بالطبقات الاجتماعية، مع سلوك تسلّطي ينظر إلى المجتمع كطوائف، ويغذّي ويستثمر في التمييزات الطائفية، ذلك أن للمشاعر الطائفية سحراً خاصّاً يُغري السلطات الباحثة عن الاستمرار، ولو على حساب الكون كلّه.

 والواقع، لسوء حظّ القوى غير الهويّاتية، أن عصب الهويّة أقوى من العصب الطبقي أو المدني بكثير. الهويّة هي السلاح الذي يُجيد الأقوياء استخدامه لتجنيد الضعفاء، وزجّهم في صراعات الأقوياء. الفقر العامّ في سوريا لا يجمع الفقير العلوي إلى الفقير السنّي مثلاً، أي الفارق الهويّاتي المشحون يتفوّق على الجامع المعاشي. لاحظ اليوم كيف يلتقي الأقوياء (أهل السلطة الجديدة مع شبيحة وحرامية السلطة القديمة) فيما يتضاغن فقراء الجانبين وضعفاؤهم تحت تأثير تحريض يديره الأقوياء ويمارسه الأغبياء.

لا أظنّ أن سوريا مرّت بمرحلة تمييز وسيطرة وعي طائفي كما هي اليوم، والسبب الأساسي في ذلك هو السلطات أوّلاً ودائماً. هي صاحبة المصلحة وهي صاحبة التأثير الأكبر، وهي تختار الطريق الهويّاتي السهل ولكن المدمّر، لتعزيز وجودها. ثقافة المجتمع المكرّسة عبر قرون من الاستبداد، تقدّم للسلطات ما يفيدها على هذا الصعيد. والمشكلة أن الصراعات الطائفية تحرّض في الناس عصباً خفيّاً يشبه في فاعليته، الأرض الوحلية التي تبتلع ضحيّتها وتشدّها للغوص أكثر. 

6- والحال هذه، هل يجب فعلاً أن نُعيد التفكير بالكيان السوري بحدّ ذاته؟ 

ليست المشكلة في الحدود الجغرافية، بل في العلاقات المتبادلة بين السلطات والشعب. إذا تقسّمت سوريا إلى عشر دول، ستنشأ المشاكل نفسها في كلّ دولة منها. وسيجد الناس خطوط انقسام يتصارعون وفقها على كلّ شيء. 

المقلق اليوم أن معارضي السلطة في دمشق، يتّخذون لأنفسهم مجالات جغرافية، وكأن ما يقع خارج هذه المجالات لا يهمّهم. أي أن التقسيم السوري يبدأ من المعارضة التي تُحيل معارضتها، والحال هذه، إلى عداء. هكذا هي الحال في السويداء، وفي ما سُمّي “المجلس السياسي لغرب ووسط سوريا”، وأيضاً في شمال شرق سوريا. 

أوّل ما بدا هذا المرض جلياً، كان في غياب التضامن السوري العامّ مع العلويين حين تعرّضوا لمجازر طائفية صريحة. كان في الأمر نوع من الكذب على الذات، أو من دفن الرأس في الرمال عن حقيقة أن السلطة الجديدة في دمشق، وفق منطقها السياسي والفكري الأحادي أو الفصائلي، واصلة لا محالة إلى ضرب الجميع بالعصا نفسها. فقط حين تعرّض أهلنا في السويداء إلى ما تعرّض له أهلنا في الساحل، استفاقوا على هذه الحقيقة. أحد “المؤثّرين” من أبناء السويداء كتب، بعد مجازر السويداء، اعتذاراً للعلويين، في حين أنه كان يحرّض ضدّهم أثناء المجازر. للأسف، يبدو أن تفاعل غالبية السوريين مع ما يجري في هذه الفترة التأسيسية، محكوم إلى أنانية وقصر نظر، تفاعل يتردّد بين الانسحار الأعمى بالسلطة الجديدة، أو العداء الانسحابي أمامها.

ما عرضته السلطة الجديدة في دمشق من وحشيّة، ومن نزوع إقصائي متطرّف ومعلن، كشف، على عكس ما كان يتوقّع المرء، تراجع تقدير الناس الذين جمعتهم هذه المساحة التي اسمها سوريا، وإدراكهم لقيمة الوطنية في ضمان أمنهم وكرامتهم. 

هكذا انحدرنا من تضامن سوري عامّ مع بداية الثورة السورية، فتردّدت “يا درعا نحنا معاكي للموت” في كلّ مكان من سوريا، إلى غياب تامّ للتضامن، وإلى استهانة وصلت إلى حدود التشفّي بقتل أبرياء عزّل على يد عناصر السلطة الجديدة وأنصارها. 

لا يغيّر من ذلك ما فعله بقايا النظام السابق، كان هذا هو تبرير أنصار نظام الأسد لمجازره، ولا يغيّر من ذلك أن أنصار السلطة الجديدة لديهم خشية كبيرة من عودة النظام السابق، فقد كانت مثل هذه الخشية، وأكثر منها، موجودة لدى العلويين من وقوعهم تحت حكم إسلامي يحميهم منه نظام الأسد، فهل يبرّر هذا لهم دعمهم، أو سكوتهم عن جرائم الأسد؟

إعادة التفكير واجبة ليست في الكيان السوري، فالحدود ليست هي المشكلة، بل في نظرة الجماعات السورية إلى بعضهم بعضاً، وفي نظرتهم مجتمعين إلى السلطة السياسية. أهم ما يجب التركيز عليه في المراجعة، هو أنه لا ينفع حكم لا يقوم على العدل، وأن فكرة السيطرة بين الجماعات طريق إلى خراب عاجل أو آجل، وأن سيطرة شهوة السلطة مع غياب العدل والمساواة، هو ما يجعل بلدنا لعبة في يد الخارج.

7- ما هي خيارات القوى المنادية بالديمقراطية اليوم؟ وهل من قوى اجتماعية قد تدعمها؟ 

الديمقراطية برأيي ليست شيئاً تحبّه الأحزاب وتعمل من أجله، الحزب يتكلّم بالديمقراطية حين يكون خارج الحكم فقط، أي أن دعم الحزب للديمقراطية هو مصلحة حزبية، وما إن يصل إلى السلطة بطريقة ما (ديمقراطية أو غير ديمقراطية) حتى يبدأ التأسيس لأبديّته في الحكم. صفة “الديمقراطي” التي تلصق باسم حزب هي صفة فارغة فلا يحترم أي حزب الديمقراطية إلا مرغماً. الرهان هو على تعدّد الأحزاب، لأن صراع الأحزاب هو ما يولّد ويحمي الديمقراطية. أثق بالدرجة الأولى بالوعي العامّ الديمقراطي سواء تجلّى في احتجاجات وحركات تضامن عابرة، أو في تشكيلات مدنية لا تهدف إلى الوصول إلى السلطة، ولكنّها تدافع عن الحقوق العامّة للناس في وجه السلطات مهما كان لونها. وقد سبق لنا في مجلّة “رواق ميسلون” أن أصدرنا ملفّاً خاصّاً بعنوان “النضال المدني”، يتناول هذا النشاط الذي هو جوهر “المجتمع المدني” الذي نحتاجه بشدّة في مجتمعاتنا.

على هذا، من مهامّ القوى الديمقراطية نشر الوعي الديمقراطي، وتخليص الوعي العامّ من أفكار السيطرة والعنف الواسعة الانتشار. ومن مهامّها أن تدعو للتضامن الواسع ضدّ تعدّيات السلطة وانتهاكاتها حقوق من يُفترض أنهم مواطنون. ومن واجب القوى السياسية أن تحافظ على استقلاليّتها عن السلطة، أي ألّا تتحوّل إلى تابع للسلطة كما فعلت أحزاب جبهة نظام الأسد، بذلك يحدّ صراع الأحزاب المستقلّة من تسلّطية السلطة ومن تغوّلها.

أما مثقّفو الشأن العامّ الوطنيون، أو من تصحّ تسميتهم الفئة أو النخبة الوطنية، فمسؤوليّتهم أساسية في هذه المرحلة، وتتمثّل في صيانة روح التضامن الوطني بوصفها مصلحة مشتركة. يتخلّى هؤلاء عن هذه المسؤوليّة، حين ينظرون إلى ما يجري بعيون السلطة وليس بعيون الناس. كثيرون من هؤلاء يسمّون المجازر أحداثاً أو انتهاكات، بتأثير هواهم السلطوي، وقد تجد منهم من يدين “الانتهاكات” دون أن إدانة الفاعلين، ودون أن يرغبوا في رؤية البيئة المنتجة “للأحداث” المتوالية.

8- سؤال أخير متعلّق بسلوك السلطة نحو الخارج هذه المرّة، أي خيارات تملكها دمشق في مواجهة التعدّيات الإسرائيلية المتكرّرة ومحاولة حكومة بنيامين نتانياهو فرض واقع جديد في الجنوب السوري عموماً، سواء من ناحية النفوذ أو السيطرة الفعلية على مساحات جديدة من الأراضي السورية؟

ليس العيب في أن سوريا لا تستطيع مواجهة إسرائيل عسكرياً، وإن كان يمكن قول الكثير في ذلك. ومن المفهوم أيضاً سعي السلطة الجديدة للتهدئة بفعل الضعف الحالي. العيب في أن تتبع سياسات تضعف جبهتك الداخلية، وفي أن تعمل على تعزيز سلطتك بدلاً من تعزيز بلدك. العيب في أن تنشغل بتشكيل جيش للسلطة وليس جيشاً للبلد. العيب أن تثابر على تطمين إسرائيل، فيما تنشر الرعب لدى أبناء بلدك، وتجعلهم يستجيرون بإسرائيل. نظام الأسد جعل السوريين قليلي الارتكاس ضدّ الضربات الإسرائيلية، وربما مرحّبين بها لاعتقادهم أنها تُضعف النظام، ونظام ما بعد الأسد مشى، للأسف، على الطريق نفسه، لأنه تكشّف أنه نظام فئوي تسلّطي كسابقه.

من نافل القول إن الخيار الأوّل في مواجهة الخارج، هو تعزيز العلاقة مع الداخل. أعتقد أنه ليس من الاهتمام بالشأن الوطني محو ذكرى حرب السادس من تشرين الأوّل/ أكتوبر، التي شهدت أوّل وآخر تضامن عربي فعّال، وتضمّنت بطولات سورية ومصرية مشهودة، وهي الذكرى الوحيدة التي تخصّ المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، كما ليس في صالح المواجهة ضدّ إسرائيل التي تعتمد التجنيد الإلزامي، إلغاء التجنيد الإلزامي في سوريا لصالح إنشاء جيش بتركيبة وعقيدة وولاء، تجعل منه “حرساً بريتورياً” وليس جيشاً وطنياً. 

ألا يتساءل السوريون الذين طالما تغنّوا بحكمة الرؤساء الذين حباهم الله بهم ودهائهم واستثنائيّتهم، كيف أنهم، رغم عبقريّة القيادة، يتراجعون على كلّ الصعد أمام بلد رئيس وزرائه رجل عادي، يتظاهر الناس ضدّ خياراته السياسية، وتُرفع عليه القضايا وتنتظره المحاكم وقد ينتهي بالسجن؟ 

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
16.10.2025
زمن القراءة: 14 minutes

يحاور ملاذ الزعبي في هذا اللقاء الكاتب والسياسي السوري راتب شعبو، في حديث عن سوريا بعد سقوط الأسد وما تشهده من احتقان طائفي، وعن أسلوب السلطة الجديدة في ترسيخ سطوتها…

قضى الكاتب والسياسي السوري راتب شعبو ستّة عشر عاماً في سجون نظام الأسد الأب، بتهمة الانتماء إلى حزب “العمل الشيوعي” المعارض، عدد من سنوات الاعتقال كان في سجن تدمر الرهيب. 

لم تحلْ تلك التجربة القاسية دون استمرار نشاطه العامّ من مواقع مختلفة، فهو طبيب ويساري ومعارض وكاتب ومترجم، وعندما اندلعت الثورة السورية ضدّ نظام الأسد الابن في عام ٢٠١١، انحاز إليها قبل أن يخرج إلى منفاه الأوروبي مع اشتداد القبضة الأمنية.

في حواره مع ملاذ الزعبي، يرسم شعبو صورة عن سوريا اليوم، مع اقتراب الذكرى الأولى لسقوط نظام بشّار الأسد.

1- أكثر من عشرة أشهر مرّت على هروب بشّار الأسد وسقوط نظامه، لكنّ سوريا اليوم  تبدو بعيدة عن الاستقرار السياسي أو الاجتماعي، كيف تقرأ المشهد؟ 

عقدة الوضع السوري اليوم تكمن في أن ما يسند غصن السلطة الحالية، هو نفسه ما يقطع غصن الوطنية السورية ويزعزع البلاد. بكلام آخر، لم تفشل السلطة الحالية فقط في أن تكون سلطة عمومية، بل هي تستجرّ قوّتها في الداخل من هذا الفشل بالذات، وهذه هي العقدة السورية. أقصد أن السلطة الحالية اختارت أن تستند إلى رضى سنّي غالب يقوم على الشعور باستعادة الدولة، وذلك بعد تكوّن وبروز مظلومية سنّية، والمظلوميات تربة منشئة للتطرّف المضادّ للوطنية، وهذا يصحّ أكثر حين تكون في وسط الأكثرية، كما هو حالنا في سوريا.

 في الواقع توفّر للسلطة الجديدة رضى وطني واسع في أيّامها الأولى، ولكنّها اختارت المسار الفئوي بدلاً من المسار الوطني، ولا يبدو أنها في وارد إعادة النظر في مسارها المدمّر هذا، يُغريها السند الخارجي الذي أثبت مراراً، منذ آذار/ مارس 2011، أنه لا يكترث لمصلحة السوريين.

أخطر ما في سوريا اليوم هو بروز شعور طائفي في الوسط السنّي، لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد، ليس مصدره وجود رئيس علوي لمدّة تزيد عن نصف قرن، فقد كان السوريون يعرفون في 1970 أن حافظ الأسد علوي، ومع ذلك رحّبوا به. مصدر الشعور الطائفي لدى السنّة، هو السلوك الطائفي الذي بدأ الأسد الأب بتكريسه واستثماره، من خلال حقن أجهزة القوّة في الدولة بعصبية طائفية علوية، وتعامله غير المسؤول وغير الوطني حيال كلّ ما هدّد سلطته.

السلطة الحالية تحثّ الخطى على المسار نفسه الذي سبقها إليه الأسد، والذي جعله ينجو من الانقلابات العسكرية، وجعله قادراً على استخدام الأمن والجيش لارتكاب مجازر دفاعاً عن نظامه، ولكن جعله في الوقت نفسه، سبباً رئيسياً لدمار سوريا الحالي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. 

على هذا، ومع بروز سلطة من الطينة نفسها، يصعب تغذية الأمل بسوريا متماسكة ومزدهرة في ظلّ السلطة الحالية.

إذا أردت أن تفهم أفق و”نيّات” نظام ما، وإلى أين يتّجه بالبلد، انظر أوّلاً كيف تُبنى أجهزة القوّة فيه، وحول أي عقيدة وبأي ولاء، كلّ ما سوى ذلك يبقى واجهات خزفية يستطيع “فيل” السلطة أن يحطّمها في أي لحظة، وأن يجعلها أثراً بعد عين. 

ما يجري في سوريا هو بناء سلطة “أسدية” جديدة، تحاول أن ترسّخ جذورها بالعنف والترهيب، من شأن هذا أن يُغلق طريق التماسك والاستقرار. لا يستقرّ نظام يؤسّس لنفسه على المجازر، وعلى استعداء فئات واسعة من السوريين عداء هويّاتياً غير سياسي، هذا العداء ليس من السهل شفاؤه. 

2- في ما يخصّ الطائفة العلوية تحديداً، وبعد مرور أشهر على مجازر آذار/ مارس الماضي، تتكرّر الاعتداءات التي تؤدّي إلى سقوط ضحايا مدنيين، بالإضافة إلى حالات خطف النساء، وأشكال متعدّدة من الانتهاكات، وكأننا أمام حالة من الاستباحة. هل من أفق لتغيير هذا الوضع؟ 

أظنّ أن تركيبة السلطة الحالية لا تريد تغيير واقع استباحة العلويين. وقد يعتبر البعض منها أن هذه الاستباحة إنجاز ينبغي الحفاظ عليه وإنكاره في الوقت نفسه. لغاية اللحظة لا تعترف السلطة، ولا جمهورها المستلب، بوقوع مجازر، وإلى اليوم لا يجرؤ العلويون أن يرووا الفظاعات التي شهدوها، ولا أن يصوّروا القبور الجماعية، ولا أن يشاركوا في أي نشاط يحمي ذكرى ضحاياهم. 

شهدنا منذ أوّل مجزرة في عهد نظام الأسد، حتى آخر مجزرة في العهد الجديد، أن “وطنية” الشعب السوري غير ناضجة بما يكفي، لكفّ يد السلطات عن مثل هذه الفظاعات المتكرّرة. 

أكثر من ذلك، برزت المجزرة، ليس بوصفها وسيلة سحق وترهيب، بل أيضاً بوصفها وسيلة لكسب جمهور ضعيف البصيرة، محقون بالخوف أو بالكراهية. تبيّن، للعار، أن المجزرة في سوريا “تُرضي الجمهور”، سواء ارتُكبت على يد قوّات السلطة نفسها، أو على يد قوّات أخرى بتسهيل ودفع من السلطة.

الجسد الأساسي للسلطة الجديدة يحمل تعبئة عدائية مزدوجة، سياسية ودينية، تجاه العلويين، وهذا العداء له وظيفة لدى أبناء الفصائل الذين تتطلّب نفوسهم العداء لخارج ما. الفصائل تقوم على مبدأ العداء والاستئثار والقوّة. ويعلو شعور أبناء الفصائل بذاتهم أكثر، من خلال الشعور بالغلبة والتفوّق على “آخرين”. لا محلّ في التصوّر الفصائلي لمساواة أو لعدالة عامّة، عدالتهم هي ما يتصوّرنه عدلاً، ولذلك فإن الذهنية الفصائلية، وهي مسيطرة في سوريا حالياً، هي الضدّ المباشر لبناء دولة، في حين أن مهمّة بناء الدولة السورية المدمّرة موكلة إلى فصائل، يشكّل هذا أحد التناقضات المغلقة في الواقع السوري الراهن. 

الأمل بتغيير هذا الوضع يحتاج إلى تغيير في البيئة غير الفصائلية الداعمة لسلطة الفصائل، وهذا سيحصل مع الوقت، كما نأمل، وهو يتطلّب نشاطاً في هذا الاتّجاه من جانب النخب، المهتمّة بالشأن العامّ، ولا سيّما السنّية منها، والحقّ أن منسوب “الوطنية” لدى هذه النخب، ظهر متدنياً أكثر مما كنت أتصوّر. 

من جانب العلويين، يقتضي الأمر التمسّك بالوطنية السورية من خلال النبذ التامّ لفكرتين، الأولى هي معالجة الاستباحة الراهنة بالعنف المضادّ، وهذا متحقّق اليوم، وأتصوّر أن منبع هذه الاستكانة العلوية هو شحّ الواقع أكثر مما هو غنى الوعي، وإن كان يُحسب للوعي أيضاً أنه يأخذ في الاعتبار شحّ الواقع، والثانية هي المسعى الانعزالي بكلّ أشكاله وهذا غير متحقّق، هناك محاولات نزقة في هذا الاتّجاه تتغذّى على المشاعر التي تولّدها الاستباحة الراهنة في نفوس العلويين.

المؤسف أن عموم السوريين لم يتوصّلوا إلى قناعة بأن التضامن الوطني مصلحة عامّة. المجتمعات السورية المختلفة لا تشعر بقيمة التضامن الوطني إلا في لحظات ضعفها. وبالرغم من أن كلّ المجتمعات عانت من ظلم، ولكلّ منها رواية لمظلومية، لم ينتهِ بهم ذلك إلى إدراك قيمة التضامن الوطني بوصفه “حبل الله”، الذي يقيهم الضعف وبطش السلطات.

3- من جانب آخر، وبعد الصيف الدامي الذي عاشه دروز البلاد، تبدو القطيعة النفسية للسويداء تجاه المركز والوطنية السورية والمجتمعات السنّية أكبر حتى من نظيرتها لدى العلويين، ما هي الخطوات العملية والممكنة لرأب الصدع؟ 

ما حدث في السويداء كان شيئاً رهيباً أكمل اللوحة التي بدأ رسمها بفظاعة عبر ما حدث في الساحل، وأوضَحَ التصوّر السياسي العدواني والضيّق الذي يتحكّم بأهل السلطة، والذي يتلخّص بممارسة العنف والسحق والإبادة، إذا أمكن الأمر، دون احترام لأي اعتبار وطني أو إنساني. هذا التصوّر السائد لدى أهل السلطة لا يبني دولة، أو يبني دولة فصائلية بلا عمومية وبلا حقّ عامّ، إنه تصوّر ينتمي إلى عصر ما قبل نشوء الدول بالمعنى الحديث.

الآن، وقد جرى ما جرى في الساحل والسويداء، يصحّ التساؤل، هل يأتي اليوم الذي يمكن لهؤلاء أن يغفروا للسلطة الحالية جرائمها بحقّهم، إلا كما غفر السوريون لحافظ الأسد بعد مجزرة تدمر وحماه وغيرها؟ ماذا تفعل السلطة الحالية حيال العلويين والدروز كي يثقوا بها، سوى أنها تضرب حولهم طوقاً طائفياً عازلاً بعد أن تساهلت مع أعمال إبادية بحقّهم؟ علاقة السلطة بالمجازر المذكورة لا تكشفها التقارير فقط، بل يكشفها سلوك السلطة وتصريحاتها بعد وقوع المجازر، من استمرار الاستباحة دون رادع، إلى عدم الاعتراف بالمجازر، إلى عدم إبداء أي تعاطف ولو بالترحّم على الضحايا أو بكلمة طيبة للأهالي، إلى التحريض المستمرّ على الفئات المنكوبة. كلّ هذا يشير إلى أن المجزرة هي ابنة مدلّلة للسلطة، وأن هذه السلطة هي بيئة مولّدة للمجازر.

على أي حال، تحتاج معالجة هذه المصيبة إلى اعتراف السلطة الحالية بما جرى، والاعتذار المباشر والصريح من أعلى هرم السلطة، مع محاسبة جدّية للمسؤولين عن هذه الجرائم. ولكن هذا ليس في أفق السلطة الحالية، ما لم تُجبر عليه بضغط داخلي لا يبدو أنه سيتوفّر قريباً، وهو مرهون بزوال وهم داعمي السلطة الآن، كما زال وهم العلويين حيال الأسد.

رأيي أن الصدع الذي حدث سوف يصعب رأبه، إلا بتغيير جذري في السلطة القائمة، وبمحاسبة جدّية لكبار المسؤولين العسكريين والأمنيين، مع قناعتي بأن هذا متعذّر في ظلّ سلطة أمنية العصب ترفع مسؤوليها الأمنيين فوق مبدأ المحاسبة.

كلما تمكّنت جهة ما من السلطة تبطر وتنسى أن العدل أساس الملك، يساعدها في ذلك أن “شعبنا” لم يتعلّم في السياسة سوى التأييد أو العداء، هذه لعنة تصاحبنا. قدرنا أن “تستقرّ” السلطات عندنا على تفكيك المجتمع لا على توحيده، وأن يكون تاريخنا تاريخ تفكّك مستمرّ.

4- يصرّ ناشطون وإعلاميون وكتّاب مقرّبون من السلطة، أو ممن ليسوا على قطيعة معها، على تحميل شيخ العقل الدرزي حكمت الهجري قسطاً كبيراً من المسؤوليّة عمّا حصل من صِدام بين السلطة والسويداء. أي مسؤوليّة تقع عليه فعلاً بتقديرك؟

من حيث المبدأ، تولّي رجل الدين مسؤوليّات سياسية أمر غير حميد. ومن حيث المبدأ أيضاً، السلطة العامّة تتحمّل المسؤوليّة الأولى عن كلّ ما يجري. أما واقعياً، وبعد كلّ الكلام، ما جرى في السويداء أن الدروز تعرّضوا للقتل في بيوتهم وفي مناطقهم، هذا يعني أنهم تعرّضوا لاعتداء، أي أنهم هوجموا ولم يهاجموا، هذا لا ينفي أن المقاتلين الدروز ارتكبوا انتهاكات وفظائع ينبغي عدم إغفالها. وفي الواقع أيضاً أن الشارع السنّي شهد تعبئة مضادّة للدروز على أرضيّة خلاف سياسي مع السلطة القائمة، وقد جرى التعبير عن هذه التعبئة بأشكال غير مسبوقة في استعلائيتها وفظاظتها وفي بعدها عن الحسّ السليم.

على المرء أن يتساءل لماذا حاز حكمت الهجري شعبية “سياسية” واسعة في الوسط الدرزي؟ تفسيري هو لأن السلطة وأنصارها هاجموا الدروز كهويّة، فيما برز الهجري كممثل لهذه الهويّة في المواجهة. ومن المفيد السؤال: لماذا كان الهجري من قبل ذا طروحات وطنية وبات اليوم انفصالياً؟ لا شكّ عندي في أن خياره السياسي اليوم خاطئ في المضيّ إلى حدود انفصالية. ومما يمكن أخذه على الهجري أيضاً، بقدر متابعتي واطّلاعي، أن هناك ضعفاً في الميل التصالحي عنده، وربما كان هذا ما يعزّز نزوعه للطلاق مع سوريا، التي تبدو له أنها باتت لأجل طويل في يد هذه السلطة. 

في ما يخصّ طلب العون صراحة من إسرائيل، قناعتي أنه أُجبر على ذلك، وهذا واقع مؤسف للغاية، كما أن رفع بعض أهالي السويداء للعلم الإسرائيلي ينطوي على ضيق أفق، ويسبّب الكثير من الألم للسوريين، ولكن لا يحقّ لأحد لوم شخص يهرب من الموت، مهما كان سبيل هروبه. اللوم لا يقع على من يخاف الموت، بل على مصدر التهديد بالموت بالأحرى. ما كان لأهل السويداء، المعروفين بوطنيتهم، أن يتقبّلوا هذا الأمر لولا شعورهم أنهم أمام خطر وجودي.

يبقى بتصوّري أن الخلل الأساسي في الخيار السياسي للهجري، هو فصله موضوع السويداء عن الموضوع السوري العامّ. كأن في هذا تخلياً وتسليماً بأنه لا يكترث لأن تكون سوريا، ما عدا السويداء، تحت حكم من يرفض هو أن يكون تحت حكمهم. كانت الحال عكس ذلك في ظلّ نظام الأسد، حينها كانت السويداء تحمل الراية السورية العامّة ضدّ سلطة الطغمة الإجرامية الحاكمة. هذه نقلة غريبة وهي ليست في صالح السويداء، ولا في صالح الشأن العامّ السوري. 

5- في مقابل استحواذ جماعة سنّية على السلطة، ومن ثم ارتكابها انتهاكات، وشيوع مزاج سنّي متّكئ على المظلومية من جهة، ويرى أن له الأولوية بالبلد ومن حقّه الاستئثار به من جهة أخرى، يبدو أن ما يقابل ذلك هو خطاب مضادّ للسنّة ويستحضر نوعاً ضمنياً من “حلف الأقلّيات”، كيف ترى اليوم طغيان الحديث عن الجماعات والطوائف في سوريا لدى تناول الشأن السياسي، في مقابل تراجع الحديث عن الاقتصاد والشرائح الاجتماعية والأوضاع المعيشية؟

الجماعات السياسية التي كانت ترى المجتمع طبقات وشرائح اجتماعية واقتصاداً ومعيشة وما إلى ذلك، فشلت في حيازة قوّة سياسية، لأسباب كثيرة ليس منها أنها كانت مخطئة. 

ما جرى منذ أكثر من 60 سنة، وهذه فترة تغطّي الحياة الواعية لكلّ السوريين الحاليين، هو أن قوّة عسكرية استولت على الحكم وجمعت هذه اللغة السياسية التي تتكلّم بالطبقات الاجتماعية، مع سلوك تسلّطي ينظر إلى المجتمع كطوائف، ويغذّي ويستثمر في التمييزات الطائفية، ذلك أن للمشاعر الطائفية سحراً خاصّاً يُغري السلطات الباحثة عن الاستمرار، ولو على حساب الكون كلّه.

 والواقع، لسوء حظّ القوى غير الهويّاتية، أن عصب الهويّة أقوى من العصب الطبقي أو المدني بكثير. الهويّة هي السلاح الذي يُجيد الأقوياء استخدامه لتجنيد الضعفاء، وزجّهم في صراعات الأقوياء. الفقر العامّ في سوريا لا يجمع الفقير العلوي إلى الفقير السنّي مثلاً، أي الفارق الهويّاتي المشحون يتفوّق على الجامع المعاشي. لاحظ اليوم كيف يلتقي الأقوياء (أهل السلطة الجديدة مع شبيحة وحرامية السلطة القديمة) فيما يتضاغن فقراء الجانبين وضعفاؤهم تحت تأثير تحريض يديره الأقوياء ويمارسه الأغبياء.

لا أظنّ أن سوريا مرّت بمرحلة تمييز وسيطرة وعي طائفي كما هي اليوم، والسبب الأساسي في ذلك هو السلطات أوّلاً ودائماً. هي صاحبة المصلحة وهي صاحبة التأثير الأكبر، وهي تختار الطريق الهويّاتي السهل ولكن المدمّر، لتعزيز وجودها. ثقافة المجتمع المكرّسة عبر قرون من الاستبداد، تقدّم للسلطات ما يفيدها على هذا الصعيد. والمشكلة أن الصراعات الطائفية تحرّض في الناس عصباً خفيّاً يشبه في فاعليته، الأرض الوحلية التي تبتلع ضحيّتها وتشدّها للغوص أكثر. 

6- والحال هذه، هل يجب فعلاً أن نُعيد التفكير بالكيان السوري بحدّ ذاته؟ 

ليست المشكلة في الحدود الجغرافية، بل في العلاقات المتبادلة بين السلطات والشعب. إذا تقسّمت سوريا إلى عشر دول، ستنشأ المشاكل نفسها في كلّ دولة منها. وسيجد الناس خطوط انقسام يتصارعون وفقها على كلّ شيء. 

المقلق اليوم أن معارضي السلطة في دمشق، يتّخذون لأنفسهم مجالات جغرافية، وكأن ما يقع خارج هذه المجالات لا يهمّهم. أي أن التقسيم السوري يبدأ من المعارضة التي تُحيل معارضتها، والحال هذه، إلى عداء. هكذا هي الحال في السويداء، وفي ما سُمّي “المجلس السياسي لغرب ووسط سوريا”، وأيضاً في شمال شرق سوريا. 

أوّل ما بدا هذا المرض جلياً، كان في غياب التضامن السوري العامّ مع العلويين حين تعرّضوا لمجازر طائفية صريحة. كان في الأمر نوع من الكذب على الذات، أو من دفن الرأس في الرمال عن حقيقة أن السلطة الجديدة في دمشق، وفق منطقها السياسي والفكري الأحادي أو الفصائلي، واصلة لا محالة إلى ضرب الجميع بالعصا نفسها. فقط حين تعرّض أهلنا في السويداء إلى ما تعرّض له أهلنا في الساحل، استفاقوا على هذه الحقيقة. أحد “المؤثّرين” من أبناء السويداء كتب، بعد مجازر السويداء، اعتذاراً للعلويين، في حين أنه كان يحرّض ضدّهم أثناء المجازر. للأسف، يبدو أن تفاعل غالبية السوريين مع ما يجري في هذه الفترة التأسيسية، محكوم إلى أنانية وقصر نظر، تفاعل يتردّد بين الانسحار الأعمى بالسلطة الجديدة، أو العداء الانسحابي أمامها.

ما عرضته السلطة الجديدة في دمشق من وحشيّة، ومن نزوع إقصائي متطرّف ومعلن، كشف، على عكس ما كان يتوقّع المرء، تراجع تقدير الناس الذين جمعتهم هذه المساحة التي اسمها سوريا، وإدراكهم لقيمة الوطنية في ضمان أمنهم وكرامتهم. 

هكذا انحدرنا من تضامن سوري عامّ مع بداية الثورة السورية، فتردّدت “يا درعا نحنا معاكي للموت” في كلّ مكان من سوريا، إلى غياب تامّ للتضامن، وإلى استهانة وصلت إلى حدود التشفّي بقتل أبرياء عزّل على يد عناصر السلطة الجديدة وأنصارها. 

لا يغيّر من ذلك ما فعله بقايا النظام السابق، كان هذا هو تبرير أنصار نظام الأسد لمجازره، ولا يغيّر من ذلك أن أنصار السلطة الجديدة لديهم خشية كبيرة من عودة النظام السابق، فقد كانت مثل هذه الخشية، وأكثر منها، موجودة لدى العلويين من وقوعهم تحت حكم إسلامي يحميهم منه نظام الأسد، فهل يبرّر هذا لهم دعمهم، أو سكوتهم عن جرائم الأسد؟

إعادة التفكير واجبة ليست في الكيان السوري، فالحدود ليست هي المشكلة، بل في نظرة الجماعات السورية إلى بعضهم بعضاً، وفي نظرتهم مجتمعين إلى السلطة السياسية. أهم ما يجب التركيز عليه في المراجعة، هو أنه لا ينفع حكم لا يقوم على العدل، وأن فكرة السيطرة بين الجماعات طريق إلى خراب عاجل أو آجل، وأن سيطرة شهوة السلطة مع غياب العدل والمساواة، هو ما يجعل بلدنا لعبة في يد الخارج.

7- ما هي خيارات القوى المنادية بالديمقراطية اليوم؟ وهل من قوى اجتماعية قد تدعمها؟ 

الديمقراطية برأيي ليست شيئاً تحبّه الأحزاب وتعمل من أجله، الحزب يتكلّم بالديمقراطية حين يكون خارج الحكم فقط، أي أن دعم الحزب للديمقراطية هو مصلحة حزبية، وما إن يصل إلى السلطة بطريقة ما (ديمقراطية أو غير ديمقراطية) حتى يبدأ التأسيس لأبديّته في الحكم. صفة “الديمقراطي” التي تلصق باسم حزب هي صفة فارغة فلا يحترم أي حزب الديمقراطية إلا مرغماً. الرهان هو على تعدّد الأحزاب، لأن صراع الأحزاب هو ما يولّد ويحمي الديمقراطية. أثق بالدرجة الأولى بالوعي العامّ الديمقراطي سواء تجلّى في احتجاجات وحركات تضامن عابرة، أو في تشكيلات مدنية لا تهدف إلى الوصول إلى السلطة، ولكنّها تدافع عن الحقوق العامّة للناس في وجه السلطات مهما كان لونها. وقد سبق لنا في مجلّة “رواق ميسلون” أن أصدرنا ملفّاً خاصّاً بعنوان “النضال المدني”، يتناول هذا النشاط الذي هو جوهر “المجتمع المدني” الذي نحتاجه بشدّة في مجتمعاتنا.

على هذا، من مهامّ القوى الديمقراطية نشر الوعي الديمقراطي، وتخليص الوعي العامّ من أفكار السيطرة والعنف الواسعة الانتشار. ومن مهامّها أن تدعو للتضامن الواسع ضدّ تعدّيات السلطة وانتهاكاتها حقوق من يُفترض أنهم مواطنون. ومن واجب القوى السياسية أن تحافظ على استقلاليّتها عن السلطة، أي ألّا تتحوّل إلى تابع للسلطة كما فعلت أحزاب جبهة نظام الأسد، بذلك يحدّ صراع الأحزاب المستقلّة من تسلّطية السلطة ومن تغوّلها.

أما مثقّفو الشأن العامّ الوطنيون، أو من تصحّ تسميتهم الفئة أو النخبة الوطنية، فمسؤوليّتهم أساسية في هذه المرحلة، وتتمثّل في صيانة روح التضامن الوطني بوصفها مصلحة مشتركة. يتخلّى هؤلاء عن هذه المسؤوليّة، حين ينظرون إلى ما يجري بعيون السلطة وليس بعيون الناس. كثيرون من هؤلاء يسمّون المجازر أحداثاً أو انتهاكات، بتأثير هواهم السلطوي، وقد تجد منهم من يدين “الانتهاكات” دون أن إدانة الفاعلين، ودون أن يرغبوا في رؤية البيئة المنتجة “للأحداث” المتوالية.

8- سؤال أخير متعلّق بسلوك السلطة نحو الخارج هذه المرّة، أي خيارات تملكها دمشق في مواجهة التعدّيات الإسرائيلية المتكرّرة ومحاولة حكومة بنيامين نتانياهو فرض واقع جديد في الجنوب السوري عموماً، سواء من ناحية النفوذ أو السيطرة الفعلية على مساحات جديدة من الأراضي السورية؟

ليس العيب في أن سوريا لا تستطيع مواجهة إسرائيل عسكرياً، وإن كان يمكن قول الكثير في ذلك. ومن المفهوم أيضاً سعي السلطة الجديدة للتهدئة بفعل الضعف الحالي. العيب في أن تتبع سياسات تضعف جبهتك الداخلية، وفي أن تعمل على تعزيز سلطتك بدلاً من تعزيز بلدك. العيب في أن تنشغل بتشكيل جيش للسلطة وليس جيشاً للبلد. العيب أن تثابر على تطمين إسرائيل، فيما تنشر الرعب لدى أبناء بلدك، وتجعلهم يستجيرون بإسرائيل. نظام الأسد جعل السوريين قليلي الارتكاس ضدّ الضربات الإسرائيلية، وربما مرحّبين بها لاعتقادهم أنها تُضعف النظام، ونظام ما بعد الأسد مشى، للأسف، على الطريق نفسه، لأنه تكشّف أنه نظام فئوي تسلّطي كسابقه.

من نافل القول إن الخيار الأوّل في مواجهة الخارج، هو تعزيز العلاقة مع الداخل. أعتقد أنه ليس من الاهتمام بالشأن الوطني محو ذكرى حرب السادس من تشرين الأوّل/ أكتوبر، التي شهدت أوّل وآخر تضامن عربي فعّال، وتضمّنت بطولات سورية ومصرية مشهودة، وهي الذكرى الوحيدة التي تخصّ المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، كما ليس في صالح المواجهة ضدّ إسرائيل التي تعتمد التجنيد الإلزامي، إلغاء التجنيد الإلزامي في سوريا لصالح إنشاء جيش بتركيبة وعقيدة وولاء، تجعل منه “حرساً بريتورياً” وليس جيشاً وطنياً. 

ألا يتساءل السوريون الذين طالما تغنّوا بحكمة الرؤساء الذين حباهم الله بهم ودهائهم واستثنائيّتهم، كيف أنهم، رغم عبقريّة القيادة، يتراجعون على كلّ الصعد أمام بلد رئيس وزرائه رجل عادي، يتظاهر الناس ضدّ خياراته السياسية، وتُرفع عليه القضايا وتنتظره المحاكم وقد ينتهي بالسجن؟ 

16.10.2025
زمن القراءة: 14 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية