لا يخرج الصراع بين أجنحة المجموعة المهيمنة في السلطة السورية عن كونه إعادة تموضع ضمن حرب مواقع محدودة، لا شك أن الخاسر الأول فيها هو الملياردير رامي مخلوف. ورغم انتصارهم الوشيك، فإن الرابحين من النزال الراهن ضمن المجموعة المهيمنة، قد لا يتمكنون من المحافظة على عصبيتهم وتماسكهم، مع إخراج مخلوف، أحد أبرز أركان الدائرة الضيقة ومدير أعمالها الاقتصادية.
قليلة هي المرات التي أمكن فيها مشاهدة أحداث من هذا النوع ضمن السلطة السورية، فمنذ استيلاءها على الدولة منذ العام 1970، شهدت صراعين مماثلين في الثمانينيات، مرة بين الرئيس حافظ الأسد وشقيقه الأصغر قائد سرايا الدفاع حينها والرجل القوي في النظام رفعت، ومرة أقل حدة وصخباً بين حافظ وشقيقه الأكبر جميل. رفعت حاول مدّ نفوذه من اقطاعاته العسكرية إلى السلطة السياسية في لحظة مرض الرئيس. وجميل، حاول التمدد من اقطاعاته الاقتصادية إلى الحيز الديني للعلويين.
وهذا لا يعني أن النظام السوري لم يشهد صراعات عنيفة داخل هرميته الغامضة ذات السمات الشمولية القائمة على تعدد مواقع القوى الثانوية، سياسية حزبية وأمنية عسكرية، ومركز واحد. فالنظام حافظ على طبيعته التناحرية، كسبيل للاصطفاء والترقي في هرميته، ضمن سقوف زجاجية كثيرة، تتداخل فيها صراعات أهلية متعددة؛ طائفية وإثنية، ريفية ومدينية، عسكرية-أمنية وحزبية، بأشكال متعددة لم تغب عنها بطبيعة الحال الإيديولوجيا. إلا أن الصراع في قمة الهرم لم يكن إلا عائلياً بامتياز.
رامي مخلوف ورث حقيبة المالية في العائلة عن والده محمد، الذي استلهمها بدوره من جميل الأسد. ومنذ بداية عهد الرئيس بشار الأسد، قدّم رامي خدماته ذات الطبيعة الثنائية، كمصرفي ورجل أعمال، وتولى عملية رسم حدود اقتصاد العائلة، بضبط القطاعات التي يسمح لقلة من رجال الأعمال الأخرين المشاركة بها في السوق السورية. وترافقت هذه المرحلة مع تطبيق خطة تحرير اقتصادية مشوهة تحكمها المحاصصة الزبائنية، على بقايا كسادٍ اقتصادي وقطاع عام أشبه بالاقطاعات الريعية الفاشلة.
منذ العام 2011 فقد رامي مخلوف دوره كرجل أعمال، مع انهيار الاقتصاد بفعل الثورة والحروب التي أعقبتها، لصالح تكريس الحدّ الثاني من وظيفته؛ المصرفي، المسؤول عن تمويل اقطاعات الدولة العسكرية والأمنية. طبعاً، رجل الأعمال رامي وجد بضعة مصادر تمويل بديلة في اقتصاد الحرب، لكن محتويات خزائن رامي المصرفي ظلت تنكمش مع ميزانية تُنهِكُ فيها المصاريف غير الانتاجية الإيردات المتضائلة. اقتصاد الحرب فتح لرامي ميداناً جديداً بات فيه يلمس وهج السلطة العسكرية، وربما السياسية. فشكّل مليشيات ومولها، وأنشأ حزباً سياسياً وموله وأدخل بعض اعضاءه مجلس “الشعب”. رامي، أخذ يتحول عقائدياً أيضاً، وبات أكثر تديناً، وقيل إنه وجد في نموذج ولاية الفقيه إلهاماً دفعه لمحاولة تأسيس شبكة دينية بين العلويين. بهذا، اقترف رامي، خطيئتي أعمام الرئيس بشار؛ رفعت وجميل، معاً.
النظام تمكن خلال السنوات الماضية من تقديم طبقة جديدة من رجال الأعمال، من الوجوه الجديدة نسبياً، ممن ورثوا عن رامي وظيفته الأولى، وبدا ذلك واضحاً في تكرار مهاجمة وسائل إعلام يمولها رامي لتمدد رجل الأعمال سامر فوز السريع، حتى بات أبرز مديري أعمال الحلقة الضيقة من النظام. العقوبات الغربية الموضوعة على رامي منذ العام 2008، وتصاعدها منذ 2011، كانت قد قضت على صفة الأعمال فيه، وكان ظهور غيره، مهمة وظيفية للنظام. لكن رامي، بدأ مع فقدان ذلك الجزء منه، يستشعر الخطر على نصفه الثاني؛ المصرفي.
من الإشاعات التي تسللت خلال الشهور الماضية، بدا أن حروباً صغيرة تدور في قمة الهرم، بغرض تحجيم رامي، وضبط أذرعه السياسية والخيرية-الأهلية والعسكرية. ويبدو أن الخلاف تمركز حول تردد رامي في تمويل مصالح أقرانه في دائرة السلطة العائلية الضيقة التي اكتشفت وجود قنوات مالية سرية يخفيها رامي، بغرض بناء سلطته منفرداً. طموحات كهذه، لا بد أن تبحث عن حلفاء خارجيين، وهنا يبدو أن الروابط المالية لرامي مع رجل أعمال المافيا الروسية مؤسس فاغنر يفغيني بريغوزين، وقائد الهجوم الإعلامي الأخير على بشار الأسد في الصحافة الروسية، قد تسببت بفقدان الثقة فيه نهائياً كعضو في نادي الدائرة الضيقة.
في الأسبوعين الماضيين شهدنا حربين متزامنتين بحسب التعريف الغرامشي لهما؛ حرب مناورة دفاعية سريعة ومركزة، شنها رامي، لمواجهة حرب مواقع ابتدأت منذ شهور ضده ولا تبدو أنها ستتوقف قريباً. ويبدو أن رامي، في هجمته الميديوية الأخيرة، قد تمكن من تأليف تحالف حوله، رغم اشهاره سلاح الحديث العلني دفاعاً عن الطائفة العلوية المُفقرة بصفته الخيرية الأهلية. حرب رامي الدفاعية أشبه بشهاب عابر ليلة صيف، إذ إنه بات بحكم الرجل الميت الذي يمشي، عندما عصى الأوامر وكاد أن يجاهر بالتحدي العلني. خطيئة مميتة ارتكبها رجل الأعمال بحق المصرفي فيه. خوفه من الخسارة دفعه مجدداً للاستثمار. لكن المناورة هذه استثمرت في الموقع الأخطر الذي لا يجب الاستثمار فيه؛ تخويف الطائفة العلوية.
وحتى لو انتهت قضية رامي بسرعة، ومن دون ارتدادات واسعة، كما تتسرب الأنباء حالياً، فإن الدائرة الضيقة في النظام ستخرج منتصرة، ولكن أكثر ضعفاً وأقل تماسكاً. تراكب الاحتلالات الخارجية، وظهور صراعات في مركز السلطة، يضاف إلى أزمة تمويل تمتد من العائلة إلى مؤسسات الدولة، في ظل غياب أي اجماع ايديولوجي ضمن الطبقة المسيطرة، يجعل من وسائل الهيمنة لدى المجموعة الحاكمة شديدة التقشف. وعدا عن فشلها في جميع تعهداتها السياسية المحلية، كمصدر للشرعية، فليس بمقدور المجموعة الحاكمة، إلا اللجوء إلى المزيد من العنف، لاستدامة بقاءها. رامي، قد يكون بهذا، أول الخارجين، لكنه ليس آخرهم.