fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

ربما كان على نواف أخذ الطائرة الخاصة…!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان على نواف أن يأتي ربما على متن الطائرة الخاصة ليكون “لبنانياً”، نحن نحب النزاهة، لكننا أصبحنا فاسدين أيضاً، بعدما ترك ميقاتي ورياض سلامة وموظفو الضمان والميكانيك وأصحاب المولدات بصماتهم العميقة في داخلنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

المستحيل يحدث أحياناً. ولأننا نميل إلى تجاهله، لا يلبث أن يصدمنا بقوة عندما يتحقق.  هكذا تختزل ظاهرة “البجعة السوداء” التي يتحدث عنها الإحصائي والمتخصص في إبستمولوجيا الاحتمالات نسيم طالب عند وصفه الأحداث التي تقع من دون أن يتوقعها أحد. نحن كائنات تجد صعوبة في الترقب، مصممون على ربط الأمور فقط عندما ننظر إلى الوراء، وسكان الشرق الأوسط أكثر عرضة لهذه الظاهرة من سكان النصف الشمالي من الكوكب بسبب عدم استقرار المنطقة.

يكتب الشاعر محمد العبدالله عن بداية الحرب الأهلية اللبنانية: “نظرت من النافذة، وإذ بها حرب أهلية”. هكذا ببساطة بدأت حرب استمرت 15 عاماً لتنتهي في يوم سبت عادي. وبشكل مشابه، في يوم أحد “عادي”، سقط نظام الأسد المجرم بعد 53 سنة من الحكم.

نحن، سكان الشرق الأوسط، تأقلمنا مع هذه التقلبات الكبرى، وأصبح لدينا إيمان داخلي، رغم أننا لا نصرح به، بأن المستحيل يكون غالباً أقرب مما نتخيل. اعتدنا على السنوات الذهبية التي تليها حروب، والحروب التي تبشر بسنوات ذهبية. اعتدنا على ألا يكون شيء منطقياً، وأن “المنطق” غالباً هو وهم تؤسسه المنظومات الحاكمة وتحافظ عليه. 

“المنطق” في يد السلطة والتيارات القوية، لأن لا منطق حقيقي وراء كل الآلام والحروب التي تحملناها، الأرقام والاحتمالات والاستنتاجات المنطقية تثبت هشاشة فضائنا السياسي: يمكن أن يتحسن، يمكن أن يصل إلى أفضل أحواله، لكنه مستحيل أن يثبت، وربما يتغير هذا المستحيل يوماً ما…

بعد فراغ دام سنتين، أصبح للبنان رئيس جمهورية، وبدأ العمل على الفور لتشكيل حكومة. خلال جلسات الاستشارات النيابية لتسمية رئيس للوزراء الوزراء، كنت أجلس مع زملائي في المكتب، نراقب وصول الكتل النيابية واحدة تلو الأخرى إلى القصر الرئاسي للإدلاء بأصواتها. كنا نعد الأصوات قبل ظهورها على الشاشة، ومع الوقت، بدأت فكرة ترؤس نواف سلام تبدو أكثر واقعية.

نواف كان حاضراً خلال الحرب على غزة ولبنان، كرئيس لمحكمة العدل الدولية، هو قاض دولي أصدر حكماً تاريخياً في خضم حرب الإبادة على غزة، حكماً مفاده أن وجود إسرائيل على الأراضي الفلسطينية غير شرعي. 

لا شيء ثابت في وجه رواية “حق الدفاع عن النفس” المراوغة مثل كلمة “غير شرعية” التي تضع الأمور في نصابها. ولا شيء يرد على اتهامات الإقصاء المشحونة والمضللة في لبنان مثل إجابة واضحة قالها سلام للمشككين فيه: “أنا لست من أهل الإقصاء”. 

الحقيقة ثابتة، لذلك لا مكان لها في هذه المنطقة.

في كتاب “الخلود”، يتحدث الروائي التشيكي ميلان كونديرا عن قوة لغة الجسد، وكيف تنتقل الحركات من جسد إلى آخر. يرى كونديرا أن الحركات هي الثابتة، لا الجسد. هي خالدة، تحمل رسائل من أشخاص سابقين وذاكرة جماعية مضت. الفضاء الذي تخلقه أذرعنا عندما نحركها، وتناغم عضلاتنا، والأزرار غير المرئية التي نضغطها، تفصح عما يحملنا، لا فقط عما نحمل. وهكذا ضغط نواف سلام أثناء خطاب تكليفه رئاسة الوزراء، على كل الأزرار الصحيحة. بدا كرجل حقيقي، لم يتعلم بعد كيف يحبس الأنفاس حوله أو يعبس ويرفع إصبعه علينا. لهذا، فإن خبر رفضه ركوب طائرة خاصة وإصراره على السفر بطائرة تجارية للعودة من مقر عمله في لاهاي الى بيروت بدوا مبالغاً فيهما.

لفترة طويلة، تعودنا على التباهي بالسطوة والتحايل على القانون والفساد. لن أنسى حين صرح رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ضاحكاً ومتباهياً مع صحافية أجنبية كيف أننا في لبنان يمكننا أن ندير دولة من دون موازنة وكيف وضع نفسه في موقف محرج حين شارك في منتدى دافوس الاقتصادي عبر السفر بطائرة خاصة، دفع بالبعض الى انتقاده باعتبار ذلك شأناً يعكس شبهات محاباة وفساد.

أعتقد أنه كان على نواف سلام القبول بأن يأتي على متن الطائرة الخاصة التي عرضت عليه، ليس للتباهي، بل ليُظهر أنه يفهم تقلبات المنطقة. كان عليه أن يركب الطائرة الخاصة ليقول لنا إنه يدرك خوفنا من “الإيجابي”، لأننا نعرف أن الحروب تبدأ غالباً بـ”إذ بها”. نحن على يقين أن كل المواكب التي انتظرنا مرورها في زحمة سير خانقة كانت “بلا طعمة”، ونعرف أن لبنان الحرب والصراعات والهندسات المالية لم يكن له أن يدوم.

لكن ماذا عن لبنان النزاهة والطائرات التجارية؟ هل يمكنه أن يثبت أمام التيارات القادمة؟ 

لنأخذ المبنى التجاري الذي صممته المعمارية العراقية الراحلة زها حديد في وسط المدينة كمثال. المبنى بُني حديثاً، بهدف دمج أحد أهم الفنون المعمارية الحديثة في قلب بيروت، لكنه مبنى لا يحمل أي صلة بتاريخ بيروت القديم. 

بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وقع حريق في المبنى بسبب قلة الصيانة، ولم يرمم ويعاد تأهيله حتى اليوم. وها هو ينتصب على الطريق وكأن واجهته قد شهدت على الحرب الأهلية. هكذا أصبح المبنى “لبنانياً” بامتياز، لأن لبنان ليس مجرد سلسلة من الحقبات المتتالية، بل هو تجسيد لثبات عدم الاستقرار.

كان على نواف أن يأتي ربما على متن الطائرة الخاصة ليكون “لبنانياً”، نحن نحب النزاهة، لكننا أصبحنا فاسدين أيضاً، بعدما ترك ميقاتي ورياض سلامة وموظفو الضمان والميكانيك وأصحاب المولدات بصماتهم العميقة في داخلنا.

17.01.2025
زمن القراءة: 4 minutes

كان على نواف أن يأتي ربما على متن الطائرة الخاصة ليكون “لبنانياً”، نحن نحب النزاهة، لكننا أصبحنا فاسدين أيضاً، بعدما ترك ميقاتي ورياض سلامة وموظفو الضمان والميكانيك وأصحاب المولدات بصماتهم العميقة في داخلنا.

المستحيل يحدث أحياناً. ولأننا نميل إلى تجاهله، لا يلبث أن يصدمنا بقوة عندما يتحقق.  هكذا تختزل ظاهرة “البجعة السوداء” التي يتحدث عنها الإحصائي والمتخصص في إبستمولوجيا الاحتمالات نسيم طالب عند وصفه الأحداث التي تقع من دون أن يتوقعها أحد. نحن كائنات تجد صعوبة في الترقب، مصممون على ربط الأمور فقط عندما ننظر إلى الوراء، وسكان الشرق الأوسط أكثر عرضة لهذه الظاهرة من سكان النصف الشمالي من الكوكب بسبب عدم استقرار المنطقة.

يكتب الشاعر محمد العبدالله عن بداية الحرب الأهلية اللبنانية: “نظرت من النافذة، وإذ بها حرب أهلية”. هكذا ببساطة بدأت حرب استمرت 15 عاماً لتنتهي في يوم سبت عادي. وبشكل مشابه، في يوم أحد “عادي”، سقط نظام الأسد المجرم بعد 53 سنة من الحكم.

نحن، سكان الشرق الأوسط، تأقلمنا مع هذه التقلبات الكبرى، وأصبح لدينا إيمان داخلي، رغم أننا لا نصرح به، بأن المستحيل يكون غالباً أقرب مما نتخيل. اعتدنا على السنوات الذهبية التي تليها حروب، والحروب التي تبشر بسنوات ذهبية. اعتدنا على ألا يكون شيء منطقياً، وأن “المنطق” غالباً هو وهم تؤسسه المنظومات الحاكمة وتحافظ عليه. 

“المنطق” في يد السلطة والتيارات القوية، لأن لا منطق حقيقي وراء كل الآلام والحروب التي تحملناها، الأرقام والاحتمالات والاستنتاجات المنطقية تثبت هشاشة فضائنا السياسي: يمكن أن يتحسن، يمكن أن يصل إلى أفضل أحواله، لكنه مستحيل أن يثبت، وربما يتغير هذا المستحيل يوماً ما…

بعد فراغ دام سنتين، أصبح للبنان رئيس جمهورية، وبدأ العمل على الفور لتشكيل حكومة. خلال جلسات الاستشارات النيابية لتسمية رئيس للوزراء الوزراء، كنت أجلس مع زملائي في المكتب، نراقب وصول الكتل النيابية واحدة تلو الأخرى إلى القصر الرئاسي للإدلاء بأصواتها. كنا نعد الأصوات قبل ظهورها على الشاشة، ومع الوقت، بدأت فكرة ترؤس نواف سلام تبدو أكثر واقعية.

نواف كان حاضراً خلال الحرب على غزة ولبنان، كرئيس لمحكمة العدل الدولية، هو قاض دولي أصدر حكماً تاريخياً في خضم حرب الإبادة على غزة، حكماً مفاده أن وجود إسرائيل على الأراضي الفلسطينية غير شرعي. 

لا شيء ثابت في وجه رواية “حق الدفاع عن النفس” المراوغة مثل كلمة “غير شرعية” التي تضع الأمور في نصابها. ولا شيء يرد على اتهامات الإقصاء المشحونة والمضللة في لبنان مثل إجابة واضحة قالها سلام للمشككين فيه: “أنا لست من أهل الإقصاء”. 

الحقيقة ثابتة، لذلك لا مكان لها في هذه المنطقة.

في كتاب “الخلود”، يتحدث الروائي التشيكي ميلان كونديرا عن قوة لغة الجسد، وكيف تنتقل الحركات من جسد إلى آخر. يرى كونديرا أن الحركات هي الثابتة، لا الجسد. هي خالدة، تحمل رسائل من أشخاص سابقين وذاكرة جماعية مضت. الفضاء الذي تخلقه أذرعنا عندما نحركها، وتناغم عضلاتنا، والأزرار غير المرئية التي نضغطها، تفصح عما يحملنا، لا فقط عما نحمل. وهكذا ضغط نواف سلام أثناء خطاب تكليفه رئاسة الوزراء، على كل الأزرار الصحيحة. بدا كرجل حقيقي، لم يتعلم بعد كيف يحبس الأنفاس حوله أو يعبس ويرفع إصبعه علينا. لهذا، فإن خبر رفضه ركوب طائرة خاصة وإصراره على السفر بطائرة تجارية للعودة من مقر عمله في لاهاي الى بيروت بدوا مبالغاً فيهما.

لفترة طويلة، تعودنا على التباهي بالسطوة والتحايل على القانون والفساد. لن أنسى حين صرح رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ضاحكاً ومتباهياً مع صحافية أجنبية كيف أننا في لبنان يمكننا أن ندير دولة من دون موازنة وكيف وضع نفسه في موقف محرج حين شارك في منتدى دافوس الاقتصادي عبر السفر بطائرة خاصة، دفع بالبعض الى انتقاده باعتبار ذلك شأناً يعكس شبهات محاباة وفساد.

أعتقد أنه كان على نواف سلام القبول بأن يأتي على متن الطائرة الخاصة التي عرضت عليه، ليس للتباهي، بل ليُظهر أنه يفهم تقلبات المنطقة. كان عليه أن يركب الطائرة الخاصة ليقول لنا إنه يدرك خوفنا من “الإيجابي”، لأننا نعرف أن الحروب تبدأ غالباً بـ”إذ بها”. نحن على يقين أن كل المواكب التي انتظرنا مرورها في زحمة سير خانقة كانت “بلا طعمة”، ونعرف أن لبنان الحرب والصراعات والهندسات المالية لم يكن له أن يدوم.

لكن ماذا عن لبنان النزاهة والطائرات التجارية؟ هل يمكنه أن يثبت أمام التيارات القادمة؟ 

لنأخذ المبنى التجاري الذي صممته المعمارية العراقية الراحلة زها حديد في وسط المدينة كمثال. المبنى بُني حديثاً، بهدف دمج أحد أهم الفنون المعمارية الحديثة في قلب بيروت، لكنه مبنى لا يحمل أي صلة بتاريخ بيروت القديم. 

بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وقع حريق في المبنى بسبب قلة الصيانة، ولم يرمم ويعاد تأهيله حتى اليوم. وها هو ينتصب على الطريق وكأن واجهته قد شهدت على الحرب الأهلية. هكذا أصبح المبنى “لبنانياً” بامتياز، لأن لبنان ليس مجرد سلسلة من الحقبات المتتالية، بل هو تجسيد لثبات عدم الاستقرار.

كان على نواف أن يأتي ربما على متن الطائرة الخاصة ليكون “لبنانياً”، نحن نحب النزاهة، لكننا أصبحنا فاسدين أيضاً، بعدما ترك ميقاتي ورياض سلامة وموظفو الضمان والميكانيك وأصحاب المولدات بصماتهم العميقة في داخلنا.