fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

رحلة أحمد الشرع في قلب العاصفة السورية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يخوض أحمد الشرع صراعاً على أكثر من مستوى، منها المستوى الداخلي، حيث لا يزال يتأرجح بين خيارات وأفكار متناقضة، بينما تتسع الهوة أكثر بين طموحاته السياسية والواقع المتأزم. ومع ذلك، فإنه يتسم بمرونة لم تكن متوقعة…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يعد ممكناً تجاهل التأثير المتزايد لأحمد الشرع المعروف سابقاً بأبو محمد الجولاني على المشهد السياسي السوري والإقليمي أيضاً. ولم يعد كافياً تناول شخصيته من زاوية الاستقطاب السياسي الثنائي على أساس الإنجازات التي حققها فقط أو التجاوزات التي تورط فيها فقط، بصفته قائداً لـ “جبهة النصرة” ثم “هيئة تحرير الشام”، قبل أن يصير قائداً للإدارة الانتقالية، فقد أصبح يمثل نموذجاً معقداً يجسد التحولات التي شهدتها سوريا منذ بداية الثورة التي انطلقت عام ٢٠١١.

ارتبط اسم الشرع عندما كان معروفاً بالجولاني بـ “تنظيم القاعدة” في العراق في إطار مقاومة الغزو الأميركي، حيث اعتُقل لمدة خمس سنوات بين السجون الأميركية والعراقية، ثم “جبهة النصرة” كفرع لـ “تنظيم القاعدة” في سوريا، ثم “هيئة تحرير الشام” بعد حل “جبهة النصرة” في مسعى للحصول على دعم محلي وشرعية دولية بعد أن وُضِعت الجبهة على قوائم الإرهاب الدولية.

الشرع هو أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في زمن الثورة السورية، إن لم يكن أكثرها إثارة للجدل على الإطلاق. وقد كان تركيزه الأساسي خلال مرحلة الثورة على محاربة نظام الأسد والميليشيات الموالية لإيران، متبنياً خطاباً طائفياً عنوانه “الدفاع عن أهل السنّة”، قبل أن يتحول إلى خطاب أكثر وطنية بعد إسقاط بشار الأسد، يمكن تلخيصه بعنوان “وحدة الشعب السوري فوق كل اعتبار”. لكن الأسئلة تظل مفتوحة حول نواياه الحقيقية، وإذا ما كان هذا التحول في الخطاب ناتجاً عن قناعة حقيقية أم هي براغماتية من يسعى نحو السلطة… 

وثبة منقوصة في غياب نقد ذاتي متكامل

باغت الشرع جميع من كانوا يخافون تمدد نفوذه، ويتوقعون منه ومن قادة الفصائل الحليفة لـ “هيئة تحرير الشام”، ارتكاب جرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع، إثر تقدم “إدارة العمليات العسكرية” باتجاه دمشق، كما سبق أن فعلت “جبهة النصرة” بقيادته، ومعها فصائل إسلامية متشددة أخرى مثل “حركة نور الدين زنكي” و”حركة أحرار الشام الإسلامية”، حيث سُجلت بحقها تجاوزات وانتهاكات على أسس دينية وعمليات خطف، خاصة في فترة 2012-2016.

لكن تحول “هيئة تحرير الشام” من القتال إلى العملية السياسية بقيادة الشرع ساهم، بنسبة معينة، في كبح أعمال الانتقام من جهة، ومنع اشتعال الفتنة الطائفية من جهة أخرى، برغم وقوع بعض “جرائم الثأر” والتنكيل والسرقة في بعض المناطق، وأحياناً على يد أفراد من الهيئة خصوصاً في حمص ومناطق الساحل والمناطق الكردية. في الغالب، تميز مسلحو الهيئة خلال عملية إسقاط النظام بنسبة عالية من الانضباط خلافاً لجميع التوقعات. بعد إسقاط نظام الأسد، أشار الشرع إلى أنه “يجب التفكير بعقلية بناء الدولة وبناء مؤسساتها”، وأنه “لا ينبغي أن تكون عقلية الانتقام والثأر حاضرة لأنها مدمرة”. وأكد أيضاً أنه لن يتم العفو عن المتورطين بتعذيب المعتقلين في سجون نظام الأسد وقتلهم، وستتم ملاحقتهم، ووعد بتحقيق العدالة لكي ينعم جميع السوريين بالأمن والهدوء والاستقرار.

لكن برغم كل هذه التغيرات، يبرز السؤال: هل تصالح الشرع حقاً مع ذاته بشأن تجاوزات “جبهة النصرة”، ومن بعدها “هيئة تحرير الشام”، خصوصاً في مناطق حلب وإدلب؟ وذلك سواء من ناحية فرض بعض أحكام الشريعة الإسلامية بشكل تعسفي، أو من ناحية خطف المدنيين وتعذيبهم، من بينهم ناشطون معارضون للنظام السابق، خاصة في سجن العقاب في إدلب. 

لم يعتذر الشرع عن هذه الممارسات، ولم يأمر بتبييض سجون إدلب من معتقلي الرأي. كما أن الحكومة الانتقالية التي عيّنها الشرع بدأت هي الأخرى بإصدار مواقف وقرارات وتعاميم مثيرة للجدل وخارج صلاحياتها الفعلية، مثل مواقفها من المرأة السورية ومشاركتها في الحياة العامة وصولاً إلى قرار تعديل المناهج الدراسية الذي اتسم بطابع “الأسلمة”، برغم نفي الشرع سابقاً نيته تحويل سوريا إلى نسخة عن أفغانستان.

لم يعلن الشرع القطيعة الكاملة مع ماضيه، ولم يمارس النقد الذاتي بشكل كامل (بعد – من دون القطع مع إمكان فعله ذلك في المستقبل) من جهة أن يكون صريحاً بشأن أخطائه وتجاربه من دون تبرير أو إنكار. لكن الأخطر أنه لم يعلن القطيعة بوضوح مع “الثقافة الأسدية”، برغم كل التطمينات ولغة التسامح والتطلع نحو المستقبل وبناء الدولة. 

في حين أن ثقافة الاستبداد لا تزال تشكل مكوناً أساسياً من مكونات البناء الاجتماعي السوري، بعد 54 عاماً من القمع الممنهج وتقييد الحريات السياسية واستخدام القوة المفرطة بحق المعارضين، بخاصة وأن جزءاً من المجتمع السوري يتوق إلى الانتقام الجماعي من فلول الأسد، مستخدماً الأساليب الدموية نفسها التي مارسها النظام السابق ضده. والجهة الوحيدة التي تحول عائقاً حقيقياً دون ذلك حتى الآن، هي الإدارة الانتقالية بقيادة الشرع.


 الثابت هو انتقال الشرع الفعلي من موقع “الإسلامي المتشدد” إلى موقع “الإسلامي الأقل تشدداً”، من دون المبالغة في وصفه بالاعتدال في بداية الطريق، حيث لا يزال يحتفظ بأفكار متشددة. ومع ذلك، أثبت أنه يتمتع بمرونة عقلية وقدرة على التكيف مع متطلبات الواقع


ظاهرة اجتماعية وليست تحولاً فردياً

لم يخلع الشرع عباءة السلفية الجهادية ليظهر ببدلة رسمية وربطة عنق، كما تفعل الحرباء عند تغيير لون جلدها. أساس العقدة التي لا يدركها كثيرون هو أن التطور في شخصية الشرع ليس نتاج جهدٍ شخصي بحت، ولا هو بخدعة سينمائية للاستحواذ على السلطة، برغم سعيه الفعلي للوصول إلى الرئاسة وهذا حقه الديمقراطي. بل هو نتاج تغيرات كبيرة طرأت على المجتمع السوري المعارض عموماً، خلال 14 عاماً من الثورة التي حملت بذور ثورة مضادة فيها، وذلك برغم تراجع التيارات اليسارية والليبرالية المعارضة والفصائل الإسلامية المعتدلة وصعود الفصائل الإسلامية المتطرفة منذ بداية الثورة. فالتاريخ لا يتوقف عن الحركة، سواء إلى الأمام أو الوراء، بمجرد تراجع جزء من القوى الفاعلة فيه. كما أنه ليس شرطاً أن تنحكِم حركة التاريخ بالتراجع لمجرد تفوق قوى دينية أو أصولية في مواجهة سياسية هنا أو عسكرية هناك. فكل تغير في أي خطاب أو ممارسة هو نتاج تداخل وتفاعل معقد ومستمر بين عدد كبير من الأسباب والنتائج، وعلى جميع مستويات الواقع.

إذاً، التحولات في شخصية الشرع، لا يمكن وضعها في إطار “الظاهرة الفردية”، برغم كل تجاربه الخاصة والتناقضات التي حكمت ربما مشاعره وأفكاره وسلوكياته منذ غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق عام 2003 حتى اليوم، بعد إسقاط نظام الأسد. بل هي تحولات لا يمكن فصلها عن سياق تاريخي اجتماعي، تفاعلت فيه العلاقات الاجتماعية على أكثر من مستوى، وتراكمت فيه الأحداث السياسية بأكثر من اتجاه، وتركزت فيه القوة العسكرية في أماكن وشهدت انحلالاً في أماكن أخرى. كما تلاقحت فيه الأفكار والأيديولوجيات في سياق جماعي، فأنتجت مولوداً ثقافياً لا يزال مكتوم الهوية، حيث لم يبلغ مرحلة النضج بعد، ولم تكتمل ملامحه، ولم يكوّن رؤية سياسية شاملة، ولم يقم أصحابه بمراجعة ذاتية شاملة للخروج باستنتاجات نهائية وتطوير خطة عملٍ واضحة. 

هذا الأمر يمكن ملاحظته بشكل بديهي في مقابلات أحمد الشرع مع وسائل الإعلام، إذ يتفادى تقديم أجوبة حاسمة في عدد من القضايا الخلافية، بخاصة الثقافية منها، كمن يسير على حبلٍ مشدود ولا يزال عالقاً بين عالمين وزمنين مختلفين.

حيرة صادقة أم تحايل ماكر؟

يُظهر الشرع انزعاجاً واضحاً، مهما حاول إخفاءه، عندما يتم التطرق إلى تاريخه مع “تنظيم القاعدة” وأيام صعود “جبهة النصرة”. يمكن تفسير هذا الانزعاج بعدة طرق، والخروج بعدة استنتاجات، لكن الثابت هو انتقال الشرع الفعلي من موقع “الإسلامي المتشدد” إلى موقع “الإسلامي الأقل تشدداً”، من دون المبالغة في وصفه بالاعتدال في بداية الطريق، حيث لا يزال يحتفظ بأفكار متشددة. ومع ذلك، أثبت أنه يتمتع بمرونة عقلية وقدرة على التكيف مع متطلبات الواقع، لذا ليس بالضرورة أن تتحول الأفكار المتشددة التي يحتفظ بها إلى واقع يُفرض قسرياً على المجتمع السوري، وليس من الضروري أن يكون هذا التحول مدفوعاً فقط بالضرورات السياسية المرحلية، برغم أن هذا الاحتمال سيظل وارداً.

الأمر الأكثر لفتاً للنظر هو اختيار الشرع القصر الرئاسي لإجراء المقابلات الإعلامية والاجتماعات مع الوفود الدبلوماسية والسياسية، مما يدل على حسمه خيار الترشح إلى موقع رئاسة الجمهورية الذي أصبح شاغراً منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. واختيار هذا المكان بالذات يهدف إلى تعزيز صورته كقائد سياسي شرعي، على الرغم من عدم إيمانه بالديمقراطية طوال مسيرته السياسية والعسكرية.

فاعتقاد الشرع الراسخ دوماً هو أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، برغم اختلافه في تفسيرها وتطبيقها مع مختلف التيارات الإسلامية الأصولية التي تتجه نحو “إصلاح المجتمع”، عبر الاقتصاص منه وتطبيق الحدود على الأفراد فيه من دون أي تسامح أو رحمة. حتى في إعلانه فك الارتباط مع تنظيم القاعدة عام 2016، أشار إلى خمسة أهداف من بينها “العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين كل الناس”.

كان الشرع ولا يزال يعتقد أن الحكم الإسلامي يوحد جميع الناس، لكنه يختلف مع باقي التنظيمات الأصولية حول أولويات التحكيم بالشريعة. فهو يعتقد أن الأولوية هي لتحقيق العدالة وحماية الحقوق وتأمين الحياة الكريمة لعامة الناس، وليس للعقاب بأساليب مثل الرجم والجلد وقطع اليد أو الرأس. ومع ذلك، لا يرفض تطبيق هذه الحدود بوضوح، كما أنه لا يضع حداً فاصلاً بين حق جميع أفراد المجتمع في المشاركة في الحياة السياسية من جهة، وفرض الحكم الديني الذي يعتمد على الفقهاء في تفسير الشريعة وتطبيقها، مما يستبعد مشاركة المجتمع في العملية السياسية بشكل تدريجي من جهة أخرى. وفي هذا الأمر تناقض حساس في زمن تسود فيه مبادئ حرية التعبير، وحقوق الإنسان، والمساواة، وتداول السلطة، مما يمكن أن يهدّد مسعى الشرع في الوصول إلى الرئاسة، أو قدرته على الحفاظ عليها دون اللجوء إلى الاستبداد بعد وصوله إليها.

لم يأتِ الشرع على ذكر الديمقراطية في أي من مقابلاته أو خطاباته، برغم تركيزه على بعض جوانب الحكم الديمقراطي. لكنه لا يوضح موقفه تماماً في ما يتعلق بحقوق الإنسان، والتعددية السياسية والحزبية على أساس حرية الفكر، وليس الانتماء الطائفي أو العرقي، إضافة إلى حرية الصحافة، برغم تعهد وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية محمد العمر، في تصريح لوكالة “فرانس برس” بضمان حرية التعبير وتعزيز حرية الصحافة.

إلى جانب ذلك، تأتي التعيينات الاستنسابية التي يجريها الشرع في مراكز أمنية حساسة بحجة ضرورة أن تكون الإدارة متجانسة، من دون تمييز بين ما هو سياسي وما هو أمني برغم التداخل بين المستويين، مما يشير إلى نيته بناء “شبكات ولاء” مكونة من أشخاص مقربين، مثل قتيبة أحمد بدوي شقيق الزوجة الثالثة للشرع وأمير “هيئة تحرير الشام” في إدلب سابقاً في الإدارة العامة للجمارك، وأنس حسن خطاب أحد مؤسسي “جبهة النصرة” في رئاسة جهاز المخابرات العامة. إضافة إلى تعيين شخصيات مقربة مثل أحمد شامية وعزام الغريب وأحمد عيسى الشيخ وعامر الشيخ وحسن صوفان وغيرهم، كمحافظين أو نواب لمحافظين في المدن الأكثر أهمية اقتصادياً وديموغرافياً، واللائحة تطول.

طموحات سلطوية وواقع متأزم

بلا شك، الشرع في الواقع في موقف لا يحسد عليه، فطموحاته تواجه تحديات جمة، داخلية وخارجية. داخلياً، أول التحديات هي مدى قبول شخصه من قبل شرائح واسعة من المجتمع السوري، التي لا تزال تنظر إليه كسليل الإسلام الأصولي. ثم تلك المرتبطة في مجال الحكم والإدارة، سواء من ناحية توحيد كامل الجغرافيا السورية وتوفير الاستقرار السياسي في بلد ممزق من أقصاه إلى أقصاه، وفي ظل وجود تهديدات أمنية مختلفة، أو من ناحية ترميم الاقتصاد وإعادة ملايين اللاجئين وتحسين الظروف المعيشية للسوريين الذين يطال الفقر 69 في المئة منهم، في حين يرزح 27 في المئة منهم تحت خط الفقر المدقع بحسب بيان للبنك الدولي في أيار/ مايو 2024، أو من ناحية معالجة الفساد حيث احتلت الدولة السورية تحت حكم الأسد عام 2023 المرتبة 178 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد، أي المرتبة الثالثة من بين أكثر الدول فساداً في العالم بعد كل من الصومال وجنوب السودان، وذلك بشكل رئيسي بسبب تحول سوريا إلى مصنعٍ ضخم للمخدرات.

أما التحديات الخارجية فهي لا تقل خطورة، حيث تلعب القوى الأجنبية المتواجدة على الأرض السورية، أي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، أدواراً تسهم في زعزعة الاستقرار الأمني وعرقلة المساعي السياسية لإعادة توحيد البلاد، إضافة إلى التواجد العسكري المباشر لها عبر عشرات القواعد العسكرية (روسيا: 21 قاعدة لا يزال وجودها قيد البحث بين الحكومة السورية المؤقتة والسلطات الروسية. الولايات المتحدة الأميركية: 17 قاعدة والعدد في تزايد. تركيا: 12 قاعدة والعدد أيضاً في تزايد. أما إيران فكانت تملك 52 قاعدة، لكنها خسرتها بعد سقوط نظام الأسد). في حين تتوغّل قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق محافظة القنيطرة، ومحيط جبل حرمون (جبل الشيخ) في ريف دمشق الغربي، وعدد من بلدات ريف درعا الغربي، حيث تواجه احتجاجات شعبية. كما يحشد الجيش التركي قواته على الحدود الشمالية لسوريا مهدداً باجتياح مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، مما يؤدي إلى إسقاط المزيد من الأراضي السورية تحت السيطرة التركية.

نفذ الشرع المطالب الأميركية بعدم التعرض للأقليات منذ بداية عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، مما أدى إلى إلغاء المكافأة المعروضة مقابل الإدلاء بمعلومات عنه والبالغة 10 ملايين دولار. وعلى الرغم من تاريخه وخلفيته، يبدو موقف الشرع إيجابياً تجاه الولايات المتحدة حتى الآن، بل حتى إنه يبلغ درجة المحاباة، فمطالبه تتخطى مجرد إلغاء المكافأة لرأسه، ويريد إزالة “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب، ورفع العقوبات الأميركية والدولية عن سوريا. هذا الموقف يمكن أن يكون حجر أساس لإعادة تكوين العلاقة بين الحكومة المؤقتة في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية التي تحظى بغطاء ودعم أميركي كامل، برغم الأعمال العدوانية التركية. لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يشكل حجر عثرة في وجه مساعي التوحيد بين دمشق والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، الأمر الذي يضع السلطات الحالية في دمشق أمام معضلة لا حلّ لها في المدى المنظور سوى بتنازل تركي.

لكن تواجد الولايات المتحدة الأميركية في أماكن سيطرة “قسد” في شمال شرق سوريا لا تقتصر على مكافحة تنظيم “داعش”، فتلك المناطق، وبالأخص في محافظتي دير الزور والحسكة، تحوي الجزء الأكبر من الثروات النفطية السورية. الهدف الأساسي من التواجد الأميركي هو السيطرة على النفط، كما أن لكل قوة أجنبية أخرى في الأراضي السورية هدفاً استراتيجياً من تواجدها. لذا، فإن هناك واقعاً مريراً وأثماناً يجب على الشرع أن يدفعها حتى يتمكن من الوصول بسوريا الجديدة إلى بر الأمان، من دون يخضع لشروط مذلة وقاهرة من جهة، أو يسقط في فخ الحرب مع أي من تلك القوى، بعد أن تعرضت سوريا للإنهاك على كافة المستويات طوال 14 عاماً من الثورة والحرب من جهة أخرى.

شخصية معقدة تواجه معضلات أكثر تعقيداً

يبدو الشرع هادئاً، وتبدو أفكاره متماسكة في جميع مقابلاته ولقاءاته، لكن لغة جسده في بعض الأحيان، تكشف عن ارتباك واضح ووعي بثقلٍ أصبح يدرك أنه يحمله على كتفيه. كما أنه يتجنب الخوض في قضايا الحريات العامة والخاصة، فعندما يُسأل عنها، يفضل دائماً القول إن “هناك قضايا أهم للسوريين في الوقت الحالي”. ومع ذلك، يبدو أنه يدرك جوهر تلك القضايا، برغم تحفظه عليها وتناوله لها من وجهة نظرٍ محافظة كانت أكثر تشدداً في السابق.

في المحصلة، يخوض الشرع صراعاً على أكثر من مستوى، منها المستوى الداخلي، حيث لا يزال يتأرجح بين خيارات وأفكار متناقضة، بينما تتسع الهوة أكثر بين طموحاته السياسية والواقع المتأزم. ومع ذلك، فإنه يتسم بمرونة لم تكن متوقعة، ويفكر في حل المشكلات بواقعية بدل تعقيدها، وبكيفية بناء التوافق بين مكونات المجتمع السوري، ولو بلغةٍ تتعامل مع المسألة وكأنها قضية تحاصص من موقع فكرٍ طائفي، وهذه إشكالية خطرة بحد ذاتها وسيكون لها تبعاتها في المستقبل على الاجتماع السوري. أما استراتيجياً، فقد أثبت تفوقه خاصة من حيث قدرته على استغلال الظروف وتحديد الأهداف بدقة. لكنه في الوقت نفسه، يدل بعد تعيين العديد من الأشخاص المقربين له في مناصب حساسة، محاولاً خلق ولاءات خاصة، على أنه يمتلك أيضاً صفات التلاعب والمكر السياسي، وأن إيلاء الشعب السوري الثقة الكاملة له من دون مساءلة، أو اعتباره “قائداً لا يمكن الاستغناء عنه”، يمثل مخاطرة بمستقبل البلاد.

02.01.2025
زمن القراءة: 11 minutes

يخوض أحمد الشرع صراعاً على أكثر من مستوى، منها المستوى الداخلي، حيث لا يزال يتأرجح بين خيارات وأفكار متناقضة، بينما تتسع الهوة أكثر بين طموحاته السياسية والواقع المتأزم. ومع ذلك، فإنه يتسم بمرونة لم تكن متوقعة…


لم يعد ممكناً تجاهل التأثير المتزايد لأحمد الشرع المعروف سابقاً بأبو محمد الجولاني على المشهد السياسي السوري والإقليمي أيضاً. ولم يعد كافياً تناول شخصيته من زاوية الاستقطاب السياسي الثنائي على أساس الإنجازات التي حققها فقط أو التجاوزات التي تورط فيها فقط، بصفته قائداً لـ “جبهة النصرة” ثم “هيئة تحرير الشام”، قبل أن يصير قائداً للإدارة الانتقالية، فقد أصبح يمثل نموذجاً معقداً يجسد التحولات التي شهدتها سوريا منذ بداية الثورة التي انطلقت عام ٢٠١١.

ارتبط اسم الشرع عندما كان معروفاً بالجولاني بـ “تنظيم القاعدة” في العراق في إطار مقاومة الغزو الأميركي، حيث اعتُقل لمدة خمس سنوات بين السجون الأميركية والعراقية، ثم “جبهة النصرة” كفرع لـ “تنظيم القاعدة” في سوريا، ثم “هيئة تحرير الشام” بعد حل “جبهة النصرة” في مسعى للحصول على دعم محلي وشرعية دولية بعد أن وُضِعت الجبهة على قوائم الإرهاب الدولية.

الشرع هو أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في زمن الثورة السورية، إن لم يكن أكثرها إثارة للجدل على الإطلاق. وقد كان تركيزه الأساسي خلال مرحلة الثورة على محاربة نظام الأسد والميليشيات الموالية لإيران، متبنياً خطاباً طائفياً عنوانه “الدفاع عن أهل السنّة”، قبل أن يتحول إلى خطاب أكثر وطنية بعد إسقاط بشار الأسد، يمكن تلخيصه بعنوان “وحدة الشعب السوري فوق كل اعتبار”. لكن الأسئلة تظل مفتوحة حول نواياه الحقيقية، وإذا ما كان هذا التحول في الخطاب ناتجاً عن قناعة حقيقية أم هي براغماتية من يسعى نحو السلطة… 

وثبة منقوصة في غياب نقد ذاتي متكامل

باغت الشرع جميع من كانوا يخافون تمدد نفوذه، ويتوقعون منه ومن قادة الفصائل الحليفة لـ “هيئة تحرير الشام”، ارتكاب جرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع، إثر تقدم “إدارة العمليات العسكرية” باتجاه دمشق، كما سبق أن فعلت “جبهة النصرة” بقيادته، ومعها فصائل إسلامية متشددة أخرى مثل “حركة نور الدين زنكي” و”حركة أحرار الشام الإسلامية”، حيث سُجلت بحقها تجاوزات وانتهاكات على أسس دينية وعمليات خطف، خاصة في فترة 2012-2016.

لكن تحول “هيئة تحرير الشام” من القتال إلى العملية السياسية بقيادة الشرع ساهم، بنسبة معينة، في كبح أعمال الانتقام من جهة، ومنع اشتعال الفتنة الطائفية من جهة أخرى، برغم وقوع بعض “جرائم الثأر” والتنكيل والسرقة في بعض المناطق، وأحياناً على يد أفراد من الهيئة خصوصاً في حمص ومناطق الساحل والمناطق الكردية. في الغالب، تميز مسلحو الهيئة خلال عملية إسقاط النظام بنسبة عالية من الانضباط خلافاً لجميع التوقعات. بعد إسقاط نظام الأسد، أشار الشرع إلى أنه “يجب التفكير بعقلية بناء الدولة وبناء مؤسساتها”، وأنه “لا ينبغي أن تكون عقلية الانتقام والثأر حاضرة لأنها مدمرة”. وأكد أيضاً أنه لن يتم العفو عن المتورطين بتعذيب المعتقلين في سجون نظام الأسد وقتلهم، وستتم ملاحقتهم، ووعد بتحقيق العدالة لكي ينعم جميع السوريين بالأمن والهدوء والاستقرار.

لكن برغم كل هذه التغيرات، يبرز السؤال: هل تصالح الشرع حقاً مع ذاته بشأن تجاوزات “جبهة النصرة”، ومن بعدها “هيئة تحرير الشام”، خصوصاً في مناطق حلب وإدلب؟ وذلك سواء من ناحية فرض بعض أحكام الشريعة الإسلامية بشكل تعسفي، أو من ناحية خطف المدنيين وتعذيبهم، من بينهم ناشطون معارضون للنظام السابق، خاصة في سجن العقاب في إدلب. 

لم يعتذر الشرع عن هذه الممارسات، ولم يأمر بتبييض سجون إدلب من معتقلي الرأي. كما أن الحكومة الانتقالية التي عيّنها الشرع بدأت هي الأخرى بإصدار مواقف وقرارات وتعاميم مثيرة للجدل وخارج صلاحياتها الفعلية، مثل مواقفها من المرأة السورية ومشاركتها في الحياة العامة وصولاً إلى قرار تعديل المناهج الدراسية الذي اتسم بطابع “الأسلمة”، برغم نفي الشرع سابقاً نيته تحويل سوريا إلى نسخة عن أفغانستان.

لم يعلن الشرع القطيعة الكاملة مع ماضيه، ولم يمارس النقد الذاتي بشكل كامل (بعد – من دون القطع مع إمكان فعله ذلك في المستقبل) من جهة أن يكون صريحاً بشأن أخطائه وتجاربه من دون تبرير أو إنكار. لكن الأخطر أنه لم يعلن القطيعة بوضوح مع “الثقافة الأسدية”، برغم كل التطمينات ولغة التسامح والتطلع نحو المستقبل وبناء الدولة. 

في حين أن ثقافة الاستبداد لا تزال تشكل مكوناً أساسياً من مكونات البناء الاجتماعي السوري، بعد 54 عاماً من القمع الممنهج وتقييد الحريات السياسية واستخدام القوة المفرطة بحق المعارضين، بخاصة وأن جزءاً من المجتمع السوري يتوق إلى الانتقام الجماعي من فلول الأسد، مستخدماً الأساليب الدموية نفسها التي مارسها النظام السابق ضده. والجهة الوحيدة التي تحول عائقاً حقيقياً دون ذلك حتى الآن، هي الإدارة الانتقالية بقيادة الشرع.


 الثابت هو انتقال الشرع الفعلي من موقع “الإسلامي المتشدد” إلى موقع “الإسلامي الأقل تشدداً”، من دون المبالغة في وصفه بالاعتدال في بداية الطريق، حيث لا يزال يحتفظ بأفكار متشددة. ومع ذلك، أثبت أنه يتمتع بمرونة عقلية وقدرة على التكيف مع متطلبات الواقع


ظاهرة اجتماعية وليست تحولاً فردياً

لم يخلع الشرع عباءة السلفية الجهادية ليظهر ببدلة رسمية وربطة عنق، كما تفعل الحرباء عند تغيير لون جلدها. أساس العقدة التي لا يدركها كثيرون هو أن التطور في شخصية الشرع ليس نتاج جهدٍ شخصي بحت، ولا هو بخدعة سينمائية للاستحواذ على السلطة، برغم سعيه الفعلي للوصول إلى الرئاسة وهذا حقه الديمقراطي. بل هو نتاج تغيرات كبيرة طرأت على المجتمع السوري المعارض عموماً، خلال 14 عاماً من الثورة التي حملت بذور ثورة مضادة فيها، وذلك برغم تراجع التيارات اليسارية والليبرالية المعارضة والفصائل الإسلامية المعتدلة وصعود الفصائل الإسلامية المتطرفة منذ بداية الثورة. فالتاريخ لا يتوقف عن الحركة، سواء إلى الأمام أو الوراء، بمجرد تراجع جزء من القوى الفاعلة فيه. كما أنه ليس شرطاً أن تنحكِم حركة التاريخ بالتراجع لمجرد تفوق قوى دينية أو أصولية في مواجهة سياسية هنا أو عسكرية هناك. فكل تغير في أي خطاب أو ممارسة هو نتاج تداخل وتفاعل معقد ومستمر بين عدد كبير من الأسباب والنتائج، وعلى جميع مستويات الواقع.

إذاً، التحولات في شخصية الشرع، لا يمكن وضعها في إطار “الظاهرة الفردية”، برغم كل تجاربه الخاصة والتناقضات التي حكمت ربما مشاعره وأفكاره وسلوكياته منذ غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق عام 2003 حتى اليوم، بعد إسقاط نظام الأسد. بل هي تحولات لا يمكن فصلها عن سياق تاريخي اجتماعي، تفاعلت فيه العلاقات الاجتماعية على أكثر من مستوى، وتراكمت فيه الأحداث السياسية بأكثر من اتجاه، وتركزت فيه القوة العسكرية في أماكن وشهدت انحلالاً في أماكن أخرى. كما تلاقحت فيه الأفكار والأيديولوجيات في سياق جماعي، فأنتجت مولوداً ثقافياً لا يزال مكتوم الهوية، حيث لم يبلغ مرحلة النضج بعد، ولم تكتمل ملامحه، ولم يكوّن رؤية سياسية شاملة، ولم يقم أصحابه بمراجعة ذاتية شاملة للخروج باستنتاجات نهائية وتطوير خطة عملٍ واضحة. 

هذا الأمر يمكن ملاحظته بشكل بديهي في مقابلات أحمد الشرع مع وسائل الإعلام، إذ يتفادى تقديم أجوبة حاسمة في عدد من القضايا الخلافية، بخاصة الثقافية منها، كمن يسير على حبلٍ مشدود ولا يزال عالقاً بين عالمين وزمنين مختلفين.

حيرة صادقة أم تحايل ماكر؟

يُظهر الشرع انزعاجاً واضحاً، مهما حاول إخفاءه، عندما يتم التطرق إلى تاريخه مع “تنظيم القاعدة” وأيام صعود “جبهة النصرة”. يمكن تفسير هذا الانزعاج بعدة طرق، والخروج بعدة استنتاجات، لكن الثابت هو انتقال الشرع الفعلي من موقع “الإسلامي المتشدد” إلى موقع “الإسلامي الأقل تشدداً”، من دون المبالغة في وصفه بالاعتدال في بداية الطريق، حيث لا يزال يحتفظ بأفكار متشددة. ومع ذلك، أثبت أنه يتمتع بمرونة عقلية وقدرة على التكيف مع متطلبات الواقع، لذا ليس بالضرورة أن تتحول الأفكار المتشددة التي يحتفظ بها إلى واقع يُفرض قسرياً على المجتمع السوري، وليس من الضروري أن يكون هذا التحول مدفوعاً فقط بالضرورات السياسية المرحلية، برغم أن هذا الاحتمال سيظل وارداً.

الأمر الأكثر لفتاً للنظر هو اختيار الشرع القصر الرئاسي لإجراء المقابلات الإعلامية والاجتماعات مع الوفود الدبلوماسية والسياسية، مما يدل على حسمه خيار الترشح إلى موقع رئاسة الجمهورية الذي أصبح شاغراً منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024. واختيار هذا المكان بالذات يهدف إلى تعزيز صورته كقائد سياسي شرعي، على الرغم من عدم إيمانه بالديمقراطية طوال مسيرته السياسية والعسكرية.

فاعتقاد الشرع الراسخ دوماً هو أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، برغم اختلافه في تفسيرها وتطبيقها مع مختلف التيارات الإسلامية الأصولية التي تتجه نحو “إصلاح المجتمع”، عبر الاقتصاص منه وتطبيق الحدود على الأفراد فيه من دون أي تسامح أو رحمة. حتى في إعلانه فك الارتباط مع تنظيم القاعدة عام 2016، أشار إلى خمسة أهداف من بينها “العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين كل الناس”.

كان الشرع ولا يزال يعتقد أن الحكم الإسلامي يوحد جميع الناس، لكنه يختلف مع باقي التنظيمات الأصولية حول أولويات التحكيم بالشريعة. فهو يعتقد أن الأولوية هي لتحقيق العدالة وحماية الحقوق وتأمين الحياة الكريمة لعامة الناس، وليس للعقاب بأساليب مثل الرجم والجلد وقطع اليد أو الرأس. ومع ذلك، لا يرفض تطبيق هذه الحدود بوضوح، كما أنه لا يضع حداً فاصلاً بين حق جميع أفراد المجتمع في المشاركة في الحياة السياسية من جهة، وفرض الحكم الديني الذي يعتمد على الفقهاء في تفسير الشريعة وتطبيقها، مما يستبعد مشاركة المجتمع في العملية السياسية بشكل تدريجي من جهة أخرى. وفي هذا الأمر تناقض حساس في زمن تسود فيه مبادئ حرية التعبير، وحقوق الإنسان، والمساواة، وتداول السلطة، مما يمكن أن يهدّد مسعى الشرع في الوصول إلى الرئاسة، أو قدرته على الحفاظ عليها دون اللجوء إلى الاستبداد بعد وصوله إليها.

لم يأتِ الشرع على ذكر الديمقراطية في أي من مقابلاته أو خطاباته، برغم تركيزه على بعض جوانب الحكم الديمقراطي. لكنه لا يوضح موقفه تماماً في ما يتعلق بحقوق الإنسان، والتعددية السياسية والحزبية على أساس حرية الفكر، وليس الانتماء الطائفي أو العرقي، إضافة إلى حرية الصحافة، برغم تعهد وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية محمد العمر، في تصريح لوكالة “فرانس برس” بضمان حرية التعبير وتعزيز حرية الصحافة.

إلى جانب ذلك، تأتي التعيينات الاستنسابية التي يجريها الشرع في مراكز أمنية حساسة بحجة ضرورة أن تكون الإدارة متجانسة، من دون تمييز بين ما هو سياسي وما هو أمني برغم التداخل بين المستويين، مما يشير إلى نيته بناء “شبكات ولاء” مكونة من أشخاص مقربين، مثل قتيبة أحمد بدوي شقيق الزوجة الثالثة للشرع وأمير “هيئة تحرير الشام” في إدلب سابقاً في الإدارة العامة للجمارك، وأنس حسن خطاب أحد مؤسسي “جبهة النصرة” في رئاسة جهاز المخابرات العامة. إضافة إلى تعيين شخصيات مقربة مثل أحمد شامية وعزام الغريب وأحمد عيسى الشيخ وعامر الشيخ وحسن صوفان وغيرهم، كمحافظين أو نواب لمحافظين في المدن الأكثر أهمية اقتصادياً وديموغرافياً، واللائحة تطول.

طموحات سلطوية وواقع متأزم

بلا شك، الشرع في الواقع في موقف لا يحسد عليه، فطموحاته تواجه تحديات جمة، داخلية وخارجية. داخلياً، أول التحديات هي مدى قبول شخصه من قبل شرائح واسعة من المجتمع السوري، التي لا تزال تنظر إليه كسليل الإسلام الأصولي. ثم تلك المرتبطة في مجال الحكم والإدارة، سواء من ناحية توحيد كامل الجغرافيا السورية وتوفير الاستقرار السياسي في بلد ممزق من أقصاه إلى أقصاه، وفي ظل وجود تهديدات أمنية مختلفة، أو من ناحية ترميم الاقتصاد وإعادة ملايين اللاجئين وتحسين الظروف المعيشية للسوريين الذين يطال الفقر 69 في المئة منهم، في حين يرزح 27 في المئة منهم تحت خط الفقر المدقع بحسب بيان للبنك الدولي في أيار/ مايو 2024، أو من ناحية معالجة الفساد حيث احتلت الدولة السورية تحت حكم الأسد عام 2023 المرتبة 178 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد، أي المرتبة الثالثة من بين أكثر الدول فساداً في العالم بعد كل من الصومال وجنوب السودان، وذلك بشكل رئيسي بسبب تحول سوريا إلى مصنعٍ ضخم للمخدرات.

أما التحديات الخارجية فهي لا تقل خطورة، حيث تلعب القوى الأجنبية المتواجدة على الأرض السورية، أي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، أدواراً تسهم في زعزعة الاستقرار الأمني وعرقلة المساعي السياسية لإعادة توحيد البلاد، إضافة إلى التواجد العسكري المباشر لها عبر عشرات القواعد العسكرية (روسيا: 21 قاعدة لا يزال وجودها قيد البحث بين الحكومة السورية المؤقتة والسلطات الروسية. الولايات المتحدة الأميركية: 17 قاعدة والعدد في تزايد. تركيا: 12 قاعدة والعدد أيضاً في تزايد. أما إيران فكانت تملك 52 قاعدة، لكنها خسرتها بعد سقوط نظام الأسد). في حين تتوغّل قوات الاحتلال الإسرائيلي في مناطق محافظة القنيطرة، ومحيط جبل حرمون (جبل الشيخ) في ريف دمشق الغربي، وعدد من بلدات ريف درعا الغربي، حيث تواجه احتجاجات شعبية. كما يحشد الجيش التركي قواته على الحدود الشمالية لسوريا مهدداً باجتياح مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، مما يؤدي إلى إسقاط المزيد من الأراضي السورية تحت السيطرة التركية.

نفذ الشرع المطالب الأميركية بعدم التعرض للأقليات منذ بداية عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، مما أدى إلى إلغاء المكافأة المعروضة مقابل الإدلاء بمعلومات عنه والبالغة 10 ملايين دولار. وعلى الرغم من تاريخه وخلفيته، يبدو موقف الشرع إيجابياً تجاه الولايات المتحدة حتى الآن، بل حتى إنه يبلغ درجة المحاباة، فمطالبه تتخطى مجرد إلغاء المكافأة لرأسه، ويريد إزالة “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب، ورفع العقوبات الأميركية والدولية عن سوريا. هذا الموقف يمكن أن يكون حجر أساس لإعادة تكوين العلاقة بين الحكومة المؤقتة في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية التي تحظى بغطاء ودعم أميركي كامل، برغم الأعمال العدوانية التركية. لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يشكل حجر عثرة في وجه مساعي التوحيد بين دمشق والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، الأمر الذي يضع السلطات الحالية في دمشق أمام معضلة لا حلّ لها في المدى المنظور سوى بتنازل تركي.

لكن تواجد الولايات المتحدة الأميركية في أماكن سيطرة “قسد” في شمال شرق سوريا لا تقتصر على مكافحة تنظيم “داعش”، فتلك المناطق، وبالأخص في محافظتي دير الزور والحسكة، تحوي الجزء الأكبر من الثروات النفطية السورية. الهدف الأساسي من التواجد الأميركي هو السيطرة على النفط، كما أن لكل قوة أجنبية أخرى في الأراضي السورية هدفاً استراتيجياً من تواجدها. لذا، فإن هناك واقعاً مريراً وأثماناً يجب على الشرع أن يدفعها حتى يتمكن من الوصول بسوريا الجديدة إلى بر الأمان، من دون يخضع لشروط مذلة وقاهرة من جهة، أو يسقط في فخ الحرب مع أي من تلك القوى، بعد أن تعرضت سوريا للإنهاك على كافة المستويات طوال 14 عاماً من الثورة والحرب من جهة أخرى.

شخصية معقدة تواجه معضلات أكثر تعقيداً

يبدو الشرع هادئاً، وتبدو أفكاره متماسكة في جميع مقابلاته ولقاءاته، لكن لغة جسده في بعض الأحيان، تكشف عن ارتباك واضح ووعي بثقلٍ أصبح يدرك أنه يحمله على كتفيه. كما أنه يتجنب الخوض في قضايا الحريات العامة والخاصة، فعندما يُسأل عنها، يفضل دائماً القول إن “هناك قضايا أهم للسوريين في الوقت الحالي”. ومع ذلك، يبدو أنه يدرك جوهر تلك القضايا، برغم تحفظه عليها وتناوله لها من وجهة نظرٍ محافظة كانت أكثر تشدداً في السابق.

في المحصلة، يخوض الشرع صراعاً على أكثر من مستوى، منها المستوى الداخلي، حيث لا يزال يتأرجح بين خيارات وأفكار متناقضة، بينما تتسع الهوة أكثر بين طموحاته السياسية والواقع المتأزم. ومع ذلك، فإنه يتسم بمرونة لم تكن متوقعة، ويفكر في حل المشكلات بواقعية بدل تعقيدها، وبكيفية بناء التوافق بين مكونات المجتمع السوري، ولو بلغةٍ تتعامل مع المسألة وكأنها قضية تحاصص من موقع فكرٍ طائفي، وهذه إشكالية خطرة بحد ذاتها وسيكون لها تبعاتها في المستقبل على الاجتماع السوري. أما استراتيجياً، فقد أثبت تفوقه خاصة من حيث قدرته على استغلال الظروف وتحديد الأهداف بدقة. لكنه في الوقت نفسه، يدل بعد تعيين العديد من الأشخاص المقربين له في مناصب حساسة، محاولاً خلق ولاءات خاصة، على أنه يمتلك أيضاً صفات التلاعب والمكر السياسي، وأن إيلاء الشعب السوري الثقة الكاملة له من دون مساءلة، أو اعتباره “قائداً لا يمكن الاستغناء عنه”، يمثل مخاطرة بمستقبل البلاد.